الثلاثاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
بقلم أحمد زياد محبك

الخزانة و المرآة

كل يوم صباحاً أسمع النداء، يتسرب إليّ قادماً من بعيد، كأنه قادم من مغاور ماض سحيق، يقترب شيئاً فشيئاً، ويدنو حتى يصبح صاخّاً كالحاضر الثقيل، ثم يمضي ليبتعد شيئاً فشيئاً كأنه يغيب في سحابات مستقبل بعيد. ما كنت أتوقع أن أناديه يوماً، ولكنني لا أعرف كيف ناديته اليوم فجأة ومن غير توقع، بل لعلي كنت أتوقع منذ وقت قريب أن أناديه، ولكنني كنت أرجئ نداءه، لا أعرف لماذا؟ أعرفه جيداً، أعرف نداءه وأحفظه، وأحفظ طريقته في النداء، بل لعلي أستطيع تقليد نبرته وأسلوبه، كنت أكره وأنا طفل الاستيقاظ على ندائه، يتسرب إليّ قادماً من آخر الزقاق، نداؤه كان يعني بالنسبة إليّ الاستيقاظ والذهاب إلى المدرسة، وفي بعض الحالات كان يعني تناول الدواء، ولذلك كرهته.

ذات يوم سمعت أمي تقول لأبي عن جارتنا في المنزل المقابل:
ـ اليوم باعت جارتنا لنوح بائع الحاجات القديمة كل الأثاث الذي تركه والد زوجها.
ويسألها أبي:
ـ حتى الخزانة والمرآة ؟
ـ نعم، حتى الخزانة والمرآة.

تذكرت أني وأنا في الزقاق رأيت العجوز نوح وهو يحمل على ظهره خزانة أدهشتني، حسبتها أول وهلة خزانتنا، كان يحملها بحرص شديد كأنه يحمل خزانة عروس، كانت إذن خزانة الحاج مختار والد جارنا صبحي وقد باعتها زوجته.
ويعلق أبي بحسرة:

ـ لو أعرف كنت اشتريت منها المرآة وحدها بخمسمئة.
وتتكلم أمي بتذمر:
ـ لا أحب حاجات الموتى في بيتي.
ويتكلم أبي:

ـ لن تقدّري مكانة تلك الخزانة في نفسي، هي توأم هذه الخزانة التي أمامك، والد جاري ووالدي، رحم الله الاثنين، كانا أكثر من جارين، كانا أخوين حقيقة، وأظنكِ فهمتِ بعد ذلك بقية الحكاية، كانا يذهبان إلى السوق دائماً، فيشتري كل واحد منهما مثلما يشتري الآخر.

وصمت برهة، وهو ينظر إليها، ثم قال:
ـ أنا متفائل بهذه المرآة، فهي تجلب السعادة، وتصنع الحظ الجيد، هل عرفتِ لماذا؟
وتهز أمي رأسها مستفسرة، ويتابع أبي كلامه:
ـ لأنها مشرقة مثل وجهك المشرق، نقية مثل نقاء روحك، أنا لن أبيع هذه الخزانة ما حييت، وأرجو ألا تبيعيها بعدي.
ثم نظر إلي نظرة ، كأنه يقول لي: وأنت أيضاً عليك ألا تبيعها. ولعلي بعد ذلك نسيت الخزانة والمرآة، وبالأحرى ما نسيتها إنما غدت شيئاً عادياً مألوفاً في حياتي اليومية، ولكن لم أنس ذلك الصوت الشائخ المتهدج الذي كان يأتيني كل صباح، إنه صوت نوح منادياً يغري الناس ببيع ما لديهم من أشياء قديمة، حتى إني لأسال نفسي: أما يملُّ هذا الرجل؟ وهل هناك كل يوم ما هو قديم؟ اليوم أصبح كل شيء قديماً، بل في كل ثانية ثمة ما هو قديم، ولا جديد أبداً، بالنسبة إليّ على الأقل، ولاسيما بائع الأشياء القديمة أو بالأحرى مشتريها، صوته هو نفسه، نغمته في الأداء هي نفسها، إلا أن صوته أصبح أعلى، أصبح أكثر إزعاجاً، لأنه أصبح يستخدم مكبرالصوت، وأخذ يطوف الشوارع بناقلته الصغيرة، تنقلت بين أربعة منازل، منذ أن كنت في العاشرة في دار جدي إلى اليوم حيث أنا الآن في دار ولدي الأصغر أمجد، ولكن لا بد من أن أعترف بأن ثمة ما هو جديد في حياتي، حسام حفيدي يصر على تعليمي مبادئ العمل على الحاسوب، لن يفيدني الحاسوب يا ولدي فقد تجاوزت السبعين، هكذا قلت له في البداية، ولكنه أصر، الحقيقة لست بنادم، هو عالم مذهل حقيقة، ولاسيما عندما ربطني بشبكة المعلومات العالمية، العالم كله بين يدي، وثمة ما هو جديد في كل ثانية.
حسام أذهلني وهو يتصل بشبكة المعلومات، والحاسوب أذهلني أكثر، لعلي لأجل هذا ناديت بائع الحاجات القديمة، مع أني أكرهه منذ صغري، أكره صوته ونداءه، وأكره شراءه الأشياء القديمة، وأكره أكثر بيع الناس أشياء موتاهم هرباً من الذكرى. مع ذلك ناديته، لا أعرف حقيقة لماذا؟ هل كنت أود بيع الخزانة بدلاً من أن يبيعها بعدي أحد أحفادي؟ هل أدركت أنها لم تعد ذات قيمة وعليّ أن أبيعها أو أتخلّص منها بأي شكل كان؟ لقد حملتها معي من دار إلى دار، صحبتني وأنا طفل، ورافقتني وأنا كهل، ولازمتني وأنا شيخ عجوز، فإلى متى؟ أحياناً أحس أن حفيدي حسام قد بدأ يتذمر منها ويضيق بها ذرعاً، ولكن ماذا أقول له؟ إلى متى سأظل أحفظ وصية أبي؟ إلى متى سأظل أحمل الذكرى ؟ أنا نفسي مللت.

أحياناً أذكر يوم زارتنا خالتي خديجة وبصحبتها ابنتها وداد، لعبنا معاً لعبة الاستخباء، أنا وهي وأخوها سمير، وكانت هي في عمري وكان أخوها أصغر منا نحن الاثنين، كنا نختبئ تارة هنا وتارة هناك، فجأة قلت لها : تعالي لنختبئ معاً هنا في الخزانة، واحتوتنا معاً، وإذا نحن في قلب العتمة، أحسست بشعور غامض وهي معي، أنفاسها اللاهثة قريبة من وجهي، أحس دفئها وشذاها، وبصيص من النور يتسرب إلينا من شق الباب، فأرى أنفها الناعم وعينيها الزيتيتين، شعرت أننا سنبقى معاً إلى الأبد، لن يهتدي إلينا أخوها سمير بل لن يهتدي إلينا أحد، غمرني شعور بالسعادة لأنها معي، ولأننا وحدنا معاً، ولا أحد يدري بنا، فجأة قالت لي: سأختنق، قلت لها: لا تخافي، سأمنحك أنفاسي، وأطبقت فمي على فمها، تلمست بشفاهي شفتيها، أحسست بهما رقيقتين جداً ناعمتين، تنسمت شذى أنفاسها، وهي تقول: لا، سأقول لأمي، ثم تفتح باب الخزانة، وتخرج وأنا أتبعها هامساً: لا، لا، لا تقولي لأحد أي شيء.

ولكن ماذا ينفعني أن أذكر ذلك كله؟ هل أنقشه على جدار الخزانة؟ هل أرويه لحفيدي؟ ولماذا؟ أليسخر مني؟ أحياناً أنظر في المرآة فأرى الشيخوخة وآثار السنين، بل أذكر يوم خرجت من المشفى فإذا بي أرى شحوب وجهي ونحول جسمي، وكدت أقول لأولادي: أبعدوا هذه المرآة عني، حطموها، ولكني.

واليوم، حقيقة لست أدري لماذا ناديت بائع الحاجات القديمة، أو مشتريها، فالأمر سيان، لأنه في الواقع يشتري ويبيع ما يشتريه، تأمّلته، وهو يتفحص الخزانة، لاحظت علامات الإعجاب بادية على وجهه، سررت كثيراً، قلت في نفسي: هي حقيقة ذات قيمة، ولابد أنه سيدفع فيها ثمناً جيداً، ولاشك أيضاً أنه سيبيعها بسعر مرتفع، لأحد هواة الأشياء القديمة، ولكنني في الحقيقة لا أريد بيعها، ولا أستطيع تقديرها بثمن.
ووجدتني فجأة أقول له، وهو ما يزال يتفحص الخزانة مأخوذاً بها:
ـ هذه الخزانة لها مكانة في نفسي، ورثها أبي عن جدي وورثتها أنا عن أبي، هذه المرآة وحدها تساوي الكثير، فهي تجلب السعادة حقيقة كما قال أبي، هل تصدق أني أشعر بالبهجة وأنا أرى صورتي فيها كل صباح قبل خروجي من البيت؟ لقد رزقني الله خمسة أولاد، أحفادي أصبحوا شباباً، ولقد لازمتني طوال عمري.
ودعوته إلى الجلوس، فلم يتردد، بل سرعان ما اتخذ لنفسه موضعاً قبالة الخزانة، قلت له، وأنا أرى وجهه في المرآة:
ـ كان عمري عشر سنوات تقريباً، وكان يمر في حيّنا كل صباح مثلك بائع الأشياء القديمة، وكان ينادي كل صباح مثل ندائك، الله يرحمك يا نوح.
والتفتَ إليَّ مدهوشاً، وهو يسأل:
ـ وهل تعرفه؟
ـ ألم أقل لك: كان يمر كل يوم بالزقاق وأنا ابن عشر سنين؟
ـ نوح جدي، واسمي نوح على اسمه، هو الذي أورث أبي هذه المهنة.
وأعلِّق:
ـ صدق المثل القائل: جبل مع جبل لا يلتقي، ولكن ابن آدم مع ابن آدم يلتقي.
وأقدم له الشاي وقطعتين من الحلوى، وأعتذر عن مشاركته بسبب السكري وارتفاع الضغط.
ويفجؤني بقوله:
ـ أنا سأشتري هذه المرآة فقط.
كأني أسمعه مثلما كنت أسمعه وأنا طفل، أستنكر كلامه، أجد نفسي حائراً، حتى الآن لا أعرف حقيقة لماذا دعوته؟ هل أريد حقاً بيع الخزانة أو المرآة؟ أقول له:
ـ ولماذا المرآة وحدها؟
ـ عندي في بيتي خزانة مثل هذه الخزانة، هي أختها التوءم، ورثتُها عن أبي الذي ورثها عن أبيه ، قلت لك إن جدي هو الذي أورثنا هذه المهنة، ولاشك أنه هو الذي اشتراها فيما كان يشتري من أشياء قديمة، كان جدي، الله يرحمه، كما حدثني أبي، هاوياً أكثر مما كان تاجراً، وأنا الآن مثله، إذا اشتريت قطعة نفيسة أخذتها إلى البيت، واحتفظت بها لنفسي، صدقني لا أبيعها بمال الدنيا، والخزانة التي عندي في البيت هي أغلى عندي من روحي، ربما لا تصدق إذا قلت لك، وقد تقول إني كاذب، أنا مثلك، لا أخرج من البيت إلا بعد أن أرى صورتي في مرآتها التي كانت مثل هذه المرآة، وكل يوم أقول لزوجتي: امسحيها واعتني بها حتى تصبح صافية، لأن المرآة كما تريها تريك، أريدها دائماً صافية.
وأقاطعه قائلاً:
ـ ليس بالضرورة أن تريك مثلما تريها.
يشتفّ الشاي مرسلاً صوتاً كالزعيق، ثم يرد بحدّة :
ـ والله يا أخي لا أعرف، أنا هكذا سمعت المثل، وأنا أعرف أن الأوائل صدقوا فيما قالوا، لأنهم ما قالوا أي شيء إلا بعد ما عاشوا وشافوا، أنا هكذا قال لي جدي: المرآة مثلما تريها تريك، وهكذا حفظته.
ـ وأنا أيضاً يا أخي الحبيب قال لي المحامي الكبير في آخر يوم من أيام تدريبي عنده: انظر إلى هذه المرآة الموجودة على الطاولة أمامك ماذا تفعل، ونظرت فقلت له: إنها تكبّر، قال اقلبها على الوجه الآخر، ثم قل ماذا تفعل؟ فقلبتها، ثم قلت له بعد أن نظرت فيها: إنها تصغّر، هز رأسه ثم قال: هذا هو مبدئي أنا، قد لا توافقني لا أنت ولا غيرك عليه، أنا لا يهمني ما يقوله الناس ، وهذا هو سر نجاحي، لا أقول لك إنه سر هذه المهنة، إنما أقول لك هذا هو سر نجاحي، فإذا أردت أن تكون ناجحاً مثلي فما عليك إلا أن تصوّر بعض الأمور أكبر مما هي عليه في الحقيقة، وأن تصوّر بعض الأمور أصغر مما عليه هي في الحقيقة، حفظت كلامه، وما أزال أحفظه، وبقيت أربعين عاماً أعمل محامياً.

ويسألني مدهوشاً وهو يشتفّ الشاي من كأسه:
ـ وعملتَ بكلامه؟
ـ ربما فكرت أكثر من مرة أن أعمل بكلامه، ولكن لم أستطع، ومع ذلك كنت محامياً ناجحاً، بفهمي الخاص على الأقل لمعنى النجاح، وكان سرّ نجاحي هذه المرآة، فقد حدثت والدي حديث ذلك المحامي، فدهش، وقال لي: ياولدي، هناك ألف مرآة ومرآة، هناك المحدبة والمقعرة والمموّجة والمتسخة والصدئة، وعليك أن تعرفها كلها، أنا لست محامياً ولا قاضياً، ولا أعرف شيئاً في القضاء، هكذا قال لي والدي،ثم أشار رحمه الله إلى هذه المرآة، وقال: ولكن اذكر دائماً هذه المرآة التي هي في بيتك، هذه وحدها يجب أن تكون مرآتك، أو أي مرآة أخرى، ولكن بشرط أن تكون نقية صافية مثلها.
اشتف آخر قطرة في كأس الشاي، رفعها إلى الأعلى محيياً، وقد تهلل وجهه، وعلاه السرور، وهو يقول:

ـ مدّ الله في عمرك وأدامك وأدام شايك، أقسم بالله العظيم، ويدي على القرآن الكريم، والله تعالى يشهد، أن مرآتي كانت مثل صفاء هذه المرآة ونقائها، وصدّقني، إذا حدثتك عنها بعد ذلك فسوف يطول الحديث، ولكن ذات يوم فجعت بها، لا فجعك الله بعزيز، ولدي، ولدي سامح، كان يلعب مع أخته سناء بحجارة الشيلة والحطة، طار من يده الحجر، وفرطت المرآة مثل حبات السبحة، والله حزنت عليها حزني على أمي، يومها بكيت، بكيت أكثر مما بكيت يوم وفاة أمي، وولدي سامح ماذا أفعل به؟ الولد غالي، سامحته، ولكن قلبي فرط.
وتقلصت ملامحه وكاد يبكي، قدمت له كأساً أخرى من الشاي، وألححت عليه كي يتناول قطعتي الحلوى، أخذ يحدثني، وهو يتناول الحلوى بهدوء، وأنا ذاهل، كان حديثه كالمرآة نفسها، وكأني أرى ذاتي فيها، الاختلافات موجودة، ولكنها قليلة جداً، ثم ودّعته وهو يحمل المرآة، وخرجت إلى الشرفة لأراه وهو يحزمها بعناية فائقة في ناقلته الصغيرة، ثم يمضي بها بهدوء، وهي تأتلق كأنها قطعة من أثاث جديد لعروس ستزف الليلة.

ليست المرأة وحدها من يحب المرآة، الرجل أيضاً يحب المرآة، وهل في هذا أي عيب؟ وبعد ذلك أليست المرأة مثل الرجل؟ أو ليس الرجل مثل المرأة؟ كل منهما يريد أن يرى نفسه في المرآة، ليس نرسيس وحده كما تروي الأسطورة يعشق صورته في المرآة، ربما كان الحكام والملوك أكثر منه ومن كل النساء عشقاً لصورهم وهي تتكرر مئات المرات في كل مكان من الوطن الذي يودون أن يرسموا صورتهم على خريطته، وربما كانوا يحلمون برسمها على خريطة العالم كله، مهما يكن من أمر، ففي المرآة تجد نفسك، تراها قبل أن يراها الآخرون، أليس هذا جميلاً؟ أنا أحب المرآة لأني أرى فيها إنساناً آخر يشبهني، هو أنا في الحقيقة، وفيها أرى نفسي أيضاً، وكأني إنسان آخر، فالآخر فيها هو أنا، وكل إنسان يرغب في أن يكون الآخر هو نفسه، أو مرآة له، وهذا ما تحققه بكل بساطة المرآة، ولذلك ربما كنا جميعاً نحب المرآة، على كل حال تظل المرآة أجمل من الخزانة، الخزانة تحتويك، تخبئك، تخفيك، أما المرآة فتظهرك، تضيئك، تخرجك إلى الكون والحياة، ولكن من المؤسف أيضاً أنه لابد من الخزانة والمرآة معاً، الخزانة دائماً وراء المرآة، ولكنك أحياناً تكره نفسك ولا سيما عندما تراها في المرآة، فتود لو تحطم المرآة، آه لو كان تحطيم المرآة وحده يكفي، لكنت حطمتها ألف مرة، حقاً صدق من قال: من أدام النظر إلى المرآة أصابه الجنون.

وأرجع إلى الخزانة، لم تعد خزانة، أصبحت محض صندوق خشبي، لا باب لها ولا مرآة، كأنها عجوز درداء تفغر فاها ولا أسنان فيه، أو كأنها قبر قديم مفتوح، أقعد في باب الخزانة، أطوي قدميّ تحتي، الخزانة تحتوي جسمي الشائخ الناحل المضمحل، كأني طفل أقعد في حضن جدتي.
لا أكاد أصدق أني تخلصت منها بهذه السرعة، كالعصفور طارت من يدي، كيف فرطت بها وأنا الذي احتفظت بها طول هذا العمر؟ ليت لي بدلاً منها مرآة علاء الدين كي أرى المستقبل، ولكن ما الذي تبقى لي منه وماذا سأرى؟ لقد فقدتها حقيقة ولن تغنيني عنها أي مرآة، فلا شيء في الحقيقة يمكن أن يكون بديلاً من أي شيء، مرة واحدة فقط قالت زوجتي، عليها رحمة الله، ما رأيك بتبديل الخزانة؟ غضبت منها يومئذ أشد الغضب، ولبثت أربعة أيام لا أكلمها، حتى بادرت هي إلى الاعتذار إلي، حقيقة كنت أودّ الاحتفاظ بالمرآة لأجلها هي، كان يسعدني كثيراً أن تقعد قبالتها لتصفف شعرها، أو لترسم بالأحمر على شفتيها، أو تقف أمامها لتبدل ثيابها، وأنا أتأمل صورتها في المرآة، فأراها أكثر فتنة، قلت لها مرة هذا هو في الحقيقة سرُّ احتفاظي بالمرآة، فلم تصدق.

ويدوي صوت اصطفاق حاد، الخزانة تقعقع، تهتز، هل ستسقط فوقي؟ هل ستتحول إلى قبري؟هل اصطدمت ناقلة نوح الصغيرة هناك وراء المنعطف بسيارة طائشة؟ هل تحطمت المرآة وتهشمت؟ ويدخل حفيدي حسام، وقد صفق الباب وراءه بحدة، يقف أمام الخزانة، يبادرني قائلاً:

ـ ولماذا بعت المرآة وحدها ولم تبع معها الخزانة؟
وأرد :
ـ من قال لك إني بعتها؟
ـ كنت قادماً بسيارتي من أول الشارع، كنت منطلقاً بسرعة، أنت تعرف أني لا أستطيع إلا أن أقود بسرعة، حتى إنك دائماً تصفني بالطائش، وعند المنعطف التمعت أمامي مرآة كبيرة، تحملها ناقلة صغيرة كدت أصطدم بها، عرفتها على الفور، وقلت جدي باع مرآة الخزانة، وتمنيت لو أنك بعت الخزانة كلها، فلم يبق لها موضع في البيت.
أنهض، أنزل من الخزانة بهدوء، أحس أني قد تضعضعت، اضطر إلى الاتكاء على حفيدي، أقول له:

ـ وأنا يا ولدي كنت في الزقاق عائداً إلى البيت، قبل أكثر من ستين عاماً، فرأيت نوح العجوز بائع الأشياء القديمة وهو يحمل خزانة تشبه هذه الخزانة، ثم رأيت أمي وهي تحدث أبي عن جارتنا التي باعت خزانة والد زوجها، سامحني يا ولدي أظن أني حكيت لك هذه القصة من قبل أكثر من عشر مرات، نحن العجائز دائماً ليس عندنا غير الماضي، فنضطر إلى الحديث عنه، لأنه أجمل ما نملك، واليوم أنا لم أبع المرآة، لقد أشفقت عليه يا ولدي، أحزنني حديثه، اسمه نوح، مثل اسم جده الذي أعرفه وأنا طفل، لقد تحطمت مرآة خزانته، هي خزانة جارنا الحاج مختار من غير شك، هي توأم هذه الخزانة، هو شاب وليس شيخاً على حافة قبره مثلي، كم صعب عليَّ أن يُحْرَم من السعادة التي ستجلبها له هذه المرآة، لذلك أقسمت عليه إلا أن يحملها، صدقني كاد يبكي عندما حدثني عن المرآة التي انكسرت ، الآن عرفت لم يكن هو ولا جده تاجر أشياء قديمة، إنما كان هاوياً.
وأصمت، وأنا أرى الضجر في عيني حفيدي.
لا أعرف لماذا كنت أكره صوته، لقد ظلمته، لعلي ظلمته كثيراً، الآن بدأت أحبه وأحب صوته وأحب اهتمامه بالأشياء القديمة، ليته يأتي غداً أو بعد غد، ليأخذ الخزانة ويأخذني أنا معها.
ويتكلم حفيدي:
ـ هل تعرف يا جدي؟ ذلك الرجل خدعك، لا اسمه نوح، ولا نوح جده، وليس عنده خزانة ولا مرآة.
قلت له بهدوء موارياً غضبي:
ـ لا، لا تسئ الظن بي، ولا بالناس.
ـ هذا الرجل خدعك يا جدي صدقني، انظر إلى منفضة السكائر، كيف ملأها بأعقاب السكائر، وأنت لا تحب التدخين، لا شك أنه قعد عندك أكثر من ساعة، وأنت تحدثه عن الخزانة والمرآة، وأطلت حديثك من غير شك وأعدته ربما عشر مرات، ومن حديثك أنت عرف كل شيء، واختلق الكلام فخدعك.
أنظر إلى منفضة السكائر فأرى فيها بضعة أعقاب، وأحس في فضاء الغرفة بقية من رائحة تبغ، من أين جاءت هذه البقايا؟ هل كان نوح يدخن حقيقة؟ لا أكاد أذكر، لعلها من يوم أمس، الليلة الفائتة كان حسام مع صديقه هنا في غرفتي، ادعى أن أخته تدرس في غرفته وأنه يود استقبال صديقه في غرفتي، لم تكن أول مرة، واليوم يفرح لبيع المرآة ويود التخلص من الخزانة كلها.
وبلهجة مختلفة يتكلم حفيدي:
ـ لو كنت أعلم أنك حقاً ستبيعها كنت أعلنت لك عنها على شبكة الإنترنت.
قاطعته بحدة:
ـ وهل تسخر مني يا ولدي؟
ـ لا، والله، يا جدي، وكان جاءك المشتري من باريس ودفع فيها ألف دولار.
ـ وهل سيأتي من باريس إلى هنا؟
ـ لا، سيتم الاتفاق بالبريد الالكتروني، ويحوّل لك ثمنها وأجرة نقلها والضرائب كافة، وتتولى إحدى الشركات نقلها.
ـ لا، لا أريد أن تبتعد عني، لتبق هنا في بلدي، وليهنأ بها نوح أو أحد أبنائه.
وبلهجة أخرى أيضاً مختلفة، يتكلم، فيفجؤني:
ـ ولكن صدقني يا جدي قبل يومين كنت على وشك أن أطلب منك أن تأذن لي بأخذ المرآة .
ـ ولماذا المرآة؟ ماذا ستصنع بها؟
ـ أوصيت النجار أن يصنع خزانة لعروسي، فأنت تعلم أن زفافنا سيكون بعد انتهائها من امتحان الجامعة، وكنت أمني النفس بوضع تلك المرآة في باب خزانتها لتكون دائما في غرفتي أراها قبل خروجي من البيت كل صباح، فهي حقيقة تجلب الحظ، عندما كنت أدرس في غرفتك والمرآة موجودة كنت أحقق أفضل النتائج.

يذهلني حديثه، أحس بصدمة كبيرة، أنظر فيه غير مصدق، أكاد أقول له: ليتك وصلت قبل خمس دقائق فقط، دائماً الفرق بين نهاية ونهاية بضع دقائق، بل ربما ثوان، ويتغير كل شيء، ولكني أصمت لا أقول شيئاً، أنقل الطرف بينه وبين الخزانة، ماذا سيفعل بها وقد أصبحت محض صندوق خشبي؟ هل سيكسرها ويرمي بها إلى القمامة فقد ذهبت المرآة ولم يبق شيء؟ هل كان نوح كاذباً؟ هل ادعى أنه نوح؟ هل استطاع خداع شيخوختي فأخذ المرآة من غير ثمن؟ وهل يصدق حفيدي حقاً في رغبته؟ ماذا لو كان هو الآخر يخدعني، ألم أحدثه أنا نفسي عن الخزانة من فبل أكثر من عشر مرات؟، ألا يردد هو الآخر أفكاري بل عباراتي نفسها؟ من أصدّق؟ فليكن كل ذلك، أجل فليكن، أنا لم أبع المرآة، ولم أنكث بوصية أبي، والمرآة لم تضع ولن تضيع، أين ستذهب؟ لاشك أنها ستستقر في باب خزانة جديدة لعروس صبية تمنح السعادة والبهاء لها ولزوجها ولأولادهما وللأحفاد.

وأسمع صوت حفيدي وهو ماض نحو الحاسوب:
ـ هيا يا جدي إلى الكومبيوتر، ألا تريد أن ترى بريدك الالكتروني ؟ لعل لك اليوم فيه رسالة جديدة.
تروق لي دعوة حفيدي، فأسير نحوالحاسوب، أحس بشيء من الدوار، ألتفت فأرى الخزانة المفتوحة، وقد أصبحت محض صندوق، كأنها تدعوني، أتجه إليها، أجد نفسي مرة ثانية قد قعدت فيها، ومن غير أن أشعر أطوي قدميّ تحتي، أضع رأسي بين يدي، أثني جذعي، ألتف على نفسي، الخزانة تحتويني، الشعور نفسه ينتابني مرة أخرى، كأني في حضن جدتي أو رحم أمي.الخزانة تهتز، تقعقع، لا أكاد أصدق؟ هل يحدث هذا مرة ثانية؟ كثيراً ما مررت بحالات جديدة كنت أحسب أني مررت بها من قبل، ولكن الأمر هذه المرة مختلف، هل أنا في حلم؟ ويدوي صوت انفجار حاد، هل اصطدمت ناقلة نوح الصغيرة وراء المنعطف بسيارة حفيدي حسام؟ هل تحطمت المرآة وتهشمت؟ لا، لا، لن تتحطم المرآة، لن تتهشم، ستقف أمامها في الصباح عروس بثوبها الأبيض لتسرح شعرها الأشقر الطويل، أهم بالنهوض لأستطلع الأمر، ولكن ثمة دفء حنون يلفني، فتور كسول يغويني بالبقاء، يغشاني نعاس ناعم، يسري بي خدر هادئ لذيذ. يتسرب إليّ نداء حفيدي حسام:

ـ هيا ياجدي، لديك رسالة جديدة.

يتسرب إلي النداء الصباحي، يأتيني عبر صوت نوح وأبيه وجده، وسائر أحفاده، بل عبر صوت أبي وجدي، أحس به عذباً هادئاً كالحلم الجميل.

أهم بالنهوض مرة أخرى، أحس عسراً، كأن الانفجار هذه المرة هنا عند الصدر في موضع القلب، كأن التهشم هنا في الداخل، أحاول النهوض، أرى نوراً بهيّاً كأنه منعكس في صفحة مرآة، أكاد أنهض لألمسه، ولكن أحس أني سأستسلم لنوم طويل.


مشاركة منتدى

  • القصة قمة في الروعة ، حقا استمتعت بقراءتها ....

    عرض مباشر : الخزانة والمرآه

  • القصة أكثر من رائعة الواقع اني كنت اعيد السطر أكثر من مرة
    لا أعرف السبب
    القصة ليست صعبة الفهم ولكنها صعبة التأويل بالمعنى الصحيح
    رائعة بصراحة تاهت الكلمات مني وفكري سرح فيها
    ياترى المرآة هي الأرض
    والخزانة هي الأرض بعد احتلالها
    ياترى نوح هو المحتل
    ولا هو صوت الشعوب المسلوبة الارادة
    ماأعرف أول شي خطرلي انه المرآة هي الأرض
    يمكن لانه الجد جد حسام ماتحمل فقدها
    وهذه حالنا نضيق بالاوضاع يلي احنا حايشين فيها مثا ما ضاق الجد بالمرآة والخزانه البالية
    بس مع كل هذا الضيق نتمسك بالحال القائم بدلا من فقدانه
    على مبدأ الرمد أهون من العمى
    ما أعرف أكيد القصة الها معنى آخر غير الظاهر
    بس عجبني فيها الجمع بين القديم والحديث بين الخزانة والمرآة البالية وبين الحاسب وتعلم الجد عمره 70 للكمبيوتر
    ظاهر فيها تعقيدات الحياه
    الشاب حسام شاب منفتح شرب من كأس الدنيا الغدارة
    أول ما ظن كان ظن سوء بالتاجر الهاوي
    فشكك باسمه وهويته واتهمه بالكذب والغش وربما هالشي يعكس تعقيد نفسية الشاب في العصر الحديث
    ما أعرف اشياء كثير تدور ببالي وياريت ألاقي رؤيسة نقدية للهلقصة لانها استهوتني
    شكر كبير للدكتور أحمد زياد محبك
    انا معجبة بكل ما يقدمه من جديدوأتمنى يتابعنا باستمرار ويلقي الضوء على كل تعليقاتنا لان ردود تهمنا وتفيدنا

  • القصة أكثر من رائعة الواقع اني كنت اعيد السطر أكثر من مرة
    لا أعرف السبب
    القصة ليست صعبة الفهم ولكنها صعبة التأويل بالمعنى الصحيح
    رائعة بصراحة تاهت الكلمات مني وفكري سرح فيها
    ياترى المرآة هي الأرض
    والخزانة هي الأرض بعد احتلالها
    ياترى نوح هو المحتل
    ولا هو صوت الشعوب المسلوبة الارادة
    ماأعرف أول شي خطرلي انه المرآة هي الأرض
    يمكن لانه الجد جد حسام ماتحمل فقدها
    وهذه حالنا نضيق بالاوضاع يلي احنا حايشين فيها مثا ما ضاق الجد بالمرآة والخزانه البالية
    بس مع كل هذا الضيق نتمسك بالحال القائم بدلا من فقدانه
    على مبدأ الرمد أهون من العمى
    ما أعرف أكيد القصة الها معنى آخر غير الظاهر
    بس عجبني فيها الجمع بين القديم والحديث بين الخزانة والمرآة البالية وبين الحاسب وتعلم الجد عمره 70 للكمبيوتر
    ظاهر فيها تعقيدات الحياه
    الشاب حسام شاب منفتح شرب من كأس الدنيا الغدارة
    أول ما ظن كان ظن سوء بالتاجر الهاوي
    فشكك باسمه وهويته واتهمه بالكذب والغش وربما هالشي يعكس تعقيد نفسية الشاب في العصر الحديث
    ما أعرف اشياء كثير تدور ببالي وياريت ألاقي رؤيسة نقدية للهلقصة لانها استهوتني
    شكر كبير للدكتور أحمد زياد محبك
    انا معجبة بكل ما يقدمه من جديدوأتمنى يتابعنا باستمرار ويلقي الضوء على كل تعليقاتنا لان ردود تهمنا وتفيدنا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى