الخميس ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١٦

الراوي والمنظور في السرد الروائي

الدكتور الراحل محمد عزام - سوريا

1 ـ الراوي:
تتشكل البنية السردية للخطاب من تضافر ثلاثة مكونات هي: الراوي، والمروي، والمروي له. فـ (الراوي) هو الشخص الذي يروي الحكاية أو يُخبر عنها، سواء كانت حقيقة أم متخيّلة. ولا يُشترط فيه أن يكون اسماً متعيّناًَ، فقد يتقنّع بضمير ما، أو يُرمزلـه بحرف. و(المروي) هو كل ما يصدر عن الراوي، وينتظم لتشكيل مجموع من الأحداث تقترن بأشخاص، ويؤطرها فضاء من الزمان والمكان. وأما (المروي له) فهو الذي يتلقى ما يرسله الراوي.
و(الروائي) لا يتكلم بصوته، ولكنه يفوّض (راوياً) تخييلياً، يتوجه إلى قارئ تخييلي، وهذا (الراوي) هو (الأنا الثانية) للروائي. وقد يكون شخصية من شخصيات الرواية. والمهم هو التمييز بين (الروائي) و(الراوي) فالروائي هو الكاتب خالق العالم التخييلي، وهو الذي يختار (الراوي)، ولا يظهر ظهوراً مباشراً في النصّ الروائي. وأما (الراوي) فهو أسلوب صياغة، أو أسلوب تقديم المادة القصصية، وقناع من الأقنعة العديدة التي يتخفّى الروائي خلفها في تقديم عمله السردي.
وقد أدّى التغيير الذي طرأ على طبيعة (الراوي) إلى تطور واضح في تقنيات صياغة المادة القصصية في الرواية الحديثة. ومن نقاط التحوّل الهامة التي طرأت على بنية التوصيل القصصي اختفاء (الروائي) نتيجة موقف ينادي بنفي شخصيته. وقد كان فولتير أول من نادى بهذا المبدأ حين قال: "يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون: حاضر غائب".
ولقد حظي (الراوي) باهتمام زائد بين النقاد والمبدعين على السواء، وذلك لأهميته، في الخطاب الروائي، فبموقعه يتحدد شكل الرواية. ومنذ مطلع القرن الماضي سعى (هنري جيمس) إلى إخفاء (الروائي) وإظهار (الراوي) على أساس أنه المعبّر عن رؤية الكاتب الفكرية والفنية من خلال موقعه المحوري في الخطاب الروائي.
وقد يتداخل (الراوي) بـ (العاكس) Reflector المنقول من تقنيات السينما. ويعني نقل الصور نقلاً (فوتوغرافياً) محايداً، ومع ذلك فإنه يختلف عن (الراوي)، فقد يكون (العاكس) حيواناً أو جماداً: فتولستوي يعرض أحداث إحدى قصصه من خلال نفسية حصان، وتشيكوف يتحدث عن وعي كلبة عاكساً عالمها الخيالي في إحدى قصصه، وحافظ إبراهيم يعرض عالماً خيالياً من خلال وعي الجنيّ سطيح في كتابه (ليالي سطيح). وهكذا يمكن أن يكون الراوي عاكساً، وليس العكس.
وأما (المروي لـه) Narrataire فهو الآخر. وبما أن الراوي كائن من ورق، فإنه يفترض وجود مروي لـه، انطلاقاً من أن أي خطاب لابد لـه من مخاطَب. ولكن هناك فرقاً بين (المروي لـه) و(القارئ): فإذا كان القارئ قد أصبح جزءاً من التجربة الروائية بقدر تفاعله معها، ولم يعد قارئاً سلبياً، بعد أن أوجدت (نظريات التلقّي) جماليات خاصة بالقراءة، فإن (المروي لـه) لم يحظ باهتمامٍ نقدي حتى اليوم، ذلك لأن اهتمام النقاد والروائيين قد انصبّ على الراوي والروائي، حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين، حيث بدأ الاهتمام بالمروي لـه مع (جيرالد برينس)، على الرغم من أن تراثنا القصصي قد أوجد هذه الشخصية: فشهريار في ألف ليلة وليلة هو الملك المروي له، وشهرزاد هي الراوية التي لا تنتهي حكاياتها.
وأحياناً يأخذ الروائي دور الراوي، على الرغم من أن الروائي يصف ويصوّر الأبطال والأحداث بضمير الغائب (هو)، فإنه غالباً ما يحلّ محلّ الراوي، كما في قوله عندما أصبح (عزيز) بحاجة إلى المال بعد تسريحه من الجيش: "خطر في ذهنه أن يبيع الفرس، لكنها رمز عزته وكرامته، ثم إنها هدية الشيخ والهدية لا تُباع. هل يبيع البارودة بعد أن سُرّح من الجيش؟ لكنه يدخرها ليوم الشدة. هل يستدين؟ استعرض أصدقاءه فوجدهم جميعاً مستوري الحال، وليس لديهم ما يزيد عن كفايتهم".
كما قد يأتي الروائي بَمَثَل يدخله في السياق، كما في قوله: "يأتي المرء إلى هذه الدنيا وقد فُرض عليه كل شيء: أهله، شكله، غناه، فقره، طباعه، ميوله. وليس عليه بعد ذلك إلا أن يسير على سكّة الحديد التي يجد نفسه عليها". (ص 2/122). وهذا ليس كلام إحدى الشخصيات ولا كلام الراوي، وإنما هو كلام الروائي/ الكاتب الذي تخفّى خلف الراوي وجاء بكلامٍ يستدعيه السياق والمناسبة.
وفي مناسبة حديث الراوي عن إثم خالد آغا في قراه، عندما يجعل لنفسه حقّ الليلة الأولى على كل فتاة تتزوج، يقول الكاتب: "الآباء والأمهات يتحملون الوزر، شأنهم شأن خالد آغا، بل ربما أكثر. لماذا لم يثُر أبٌ من الآباء؟ لماذا لم تصرخ أمٌّ من الأمهات؟ لماذا لم يمنعوه من إطلاق النار على رؤوس أبنائهم". (ص 2/290).
وإذا كان (العرض) هو كلام الشخصيات الروائية، فإن (السرد) هو كلام (الراوي) المحيط بالأحداث، والعالِم بها. وهو حريص على تقديمها للمروي له. كما أنه على معرفة بحاضر الشخصيات وبماضيها، وبسلوكها الخارجي وأفكارها الداخلية، كما أن من وظائفه التعليق والشرح، فالتعليق كما في قول الراوي: "لكن الإنسان تطوّر. اكتشف النار، وصنع الأواني. اخترع الأدوات التي يطهي بها الطعام، وراح يشق طريقه المختلف بما ميّزه عن سائر الحيوانات الأخرى وجعله سيد الكون بلا منازع". ( ص2/200). وهكذا يتسع منظور الراوي فيشمل الجوانب الذاتية والاجتماعية والوطنية والقومية وحتى الإنسانية: فقد أعلن وجهة نظر عزيز الشخصية المحورية، كما أعلن وجهات نظر الشخصيات الأخرى. وتحدث عن النزوح من (الريحانة) إلى (أم العيون)، وعن حياة القبائل العربية في البادية، وعاداتها وتقاليدها وزعمائها، وعن ثورة الشريف حسين على العثمانيين، ورافق الجيش العربي القادم من الحجاز لتحرير بلاد الشام، ووصف المعارك التي خاضها هذا الجيش، كما وصف علاقته بالإنكليز الذين كالوا الوعود للعرب ثم أخلفوا. وعلى الرغم من أن الراوي يبدو محايداً، فإنه ـ في العمق ـ منحاز إلى جانب (عزيز) وجماعته الذين يمثّلون الخير المطلق، مقابل (أبو) شعيب والعثمانيين الذي يمثّلون الشرَّ المطلق.
ورؤية الراوي إما أن تكون (خارجية) تصف ما تراه، وتقدّم الأحداث والشخصيات بوصف حيادي. والراوي فيها عليم بكل شيء، يمتلك قدرة غير محدودة في كشف الأفكار السرّية لأبطاله، ويُقرن بالمؤلف. وقد عُرف هذا الراوي في فن الملاحم، وفي روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أو أن تكون رؤية الراوي (داخلية) تَضفي انطباعات الراوي ووجهة نظره على الشخصيات والأحداث. وبما أن الراوي هنا هو أحد شخصيات الرواية، فإنه يُقدم ما يشاهد من أحداث. وتُسمّى رؤيته هذه (ذاتية). ويُسمّى الراوي هنا (الراوي المصاحب أو المشارك). وهو يستعين هنا بضمير المتكلم (أنا)، بينما يستعين الراوي في الرؤية الخارجية بضمير الغائب (هو) في تقديمه لعالَم الرواية.
كما اصطلح على تسمية أسلوب السرد المعتمد على الرؤية الخارجية بـ (السرد الموضوعي)، وعلى الأسلوب السردي الذي يعتمد الرؤية الداخلية والراوي المشارك بـ (السرد الذاتي). وهما أسلوبان رئيسان في السرد الروائي. وقد تتضافر الرؤيتان: الخارجية والداخلية في تقديم مادة الرواية، فتكون (الرواية ثنائية) تتداخل فيها الرؤيتان أو تتكاملان.
وأما (وظيفة الراوي) فقد رآها (جينيت) في خمس وظائف، هي: الوظيفة السردية، والوظيفة الإيديولوجية، ووظيفة الإدارة، ووظيفة الوضع السردي، والوظيفة الانتباهية أو التواصلية. ولا يُفترض وجود هذه الوظائف جميعاً، فقد تستغرق وظيفة واحدة مجمل الحدث السردي لحكاية ما. ولكن التنوع دليل حرية الراوي في تأدية مهمات متعددة ترتفع بمستوى النصّ السردي إلى مستوى النصّ المفتوح الذي يقبل التأويلات المتعددة.
كما أنه يمكن جعل وظائف الراوي في ثلاث، هي:
1 ـ الوظيفة الوصفية، التي يقوم فيها (الراوي) بتقديم مشاهد وصفية للأحداث، والطبيعة، والأماكن، والأشخاص، دون أن يُعلم عن حضوره، بل إنه يظل متخفياً، وكأن المتلقي يراقب مشهداً حقيقياً لا وجود للراوي فيه.
2 ـ الوظيفة التأصيلية، وفيها يقوم الراوي بتأصيل رواياته في الثقافة العربية والتاريخ، ويجعل منها أحداثاً للصراع القومي، ويربطها بمآثر العرب المعروفة في الانتصار على الخصوم، مثل المواجهة العربية التركية، والثورات الوطنية ضد المحتلين الفرنسيين والإنكليز... وقد قام الراوي هنا بهذه المهمة.
3 ـ الوظيفة التوثيقية، وفيها يقوم بتوثيق بعض رواياته، رابطاً إياها بمصادر تاريخية، زيادة في إيهام الراوي أنه يروي تاريخاً موثقاً. وقد جمع الروائي هنا في ثلاثيته (الطريق إلى الشمس) بين التوثيق التاريخي والتخييل الروائي.
وإذا كانت القصص القديمة: الشفوية أو المكتوبة، تبدأ بعبارة: (قال الراوي)، كما في ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، وسيف بن ذي يزن.. فإن الحكاية هي الغاية التي يصرّح الراوي بأنه ينبغي نقلها إلى السامعين، بأمانة وصدق ومن غير تدخل منه. وهو غير مسؤول عما يدور فيها من أحداث. و(الراوي) في (ألف ليلة وليلة) هو شهرزاد، ولكنها عندما تروي حكاياتها لا تحدد الراوي بل تقول: "بلغني أيها الملك السعيد"، فهي تروي عن راوٍ آخر. وقد تُسند حديثها إلى سلسلة من الرواة، وقد لا تفعل. وهكذا يشترك أكثر من راوٍ واحد في السرد: الراوي المجهول، والراوي المشارك في الأحداث، والراوي المسمّى والمعروف، والراوي المشاهد للأحداث، والراوي الذي لم يشاهد هو الأحداث ولكنه سمع عنها فهو يروي ما سمع.
إن (هيئة القصّ) تبيّن (الراوي) وما يرويه، وعلاقته بمن يروي عنهم. وهو بحث يتجاوز موقفاً كان يرى أن القصة التي يكتبها الكاتب هي تعبير عنه، وبذلك كانت تتحوّل دراسة القصة إلى دراسة كاتبها، فيُهمل البحث في الشخصيات، من حيث استقلالها وتمايزها... ولكن مع تطور الكتابة الروائية والنظرية النقدية ظهر ميل إلى وضع الكاتب/ الروائي خارج نصّه، وبالتالي عدم المماثلة بين الكاتب/ الروائي وشخصياته الروائية. فالقصّ ليس بالضرورة قصّاً عن الذات، أو تعبيراً عن الكاتب. وعلى هذا فإن الروائي/ الكاتب لا يمثّل أياً من أشخاص قصته، أو على الأقل لا يمثل تماماً أياً من أشخاص روايته.
ومع (جويس) و(سارتر) أصبح الراوي يكتفي برواية ما يشاهده أشخاص الرواية. وهكذا برز مفهوم (الراوي/ الشاهد) الذي يعتبر (آلان روب غرييه) من أبرز الروائيين الممارسين له. واليوم تميّز النظريات الحديثة بين الراوي والكاتب. فـ (الراوي) وسيلة أو أداة تقنية يستخدمها الكاتب ليكشف بها عالم قصّه، أو ليبثّ القصة التي يروي. و(الكاتب) يختبئ خلف الراوي، ويحيّد نفسه، فيتقدم إلى القارئ كمجرد ناقل للمروي، وعلى هذا تسقط مسؤولية الأديب، وتنتقل الكتابة إلى موقع اللامسؤولية. فتحدّد في كونها (شهادة) على زمنها وواقعها فحسب.
لكن الكتّاب تفننوا في استخدام مفهوم (الراوي). وارتبط هذا التفنن بعلاقتهم بما يروون. فجاءت كيفية ما يروون دلالة على رؤيتهم لما يروون. ولجأوا إلى تنويع الراوي في العمل الروائي الواحد، وفق ما يقتضيه سياق السرد، كأن يترك الراوي الذي يروي بضمير (الأنا) مكانه، في مفصل من مفاصل الرواية، للراوي (الشاهد) الذي ينقل ما يقع عليه نظره فقط.
والرواة عند (جان بويون) ثلاثة:
1 ـ الراوي العالم بكل شيء في عالم الرواية. وهو يحول بين القراء والعالَم الروائي، فلا يجعلهم يرون إلا ما يريهم هو إياه، ولا يعلمون إلا ما يريدهم أن يعلموه. أما الشخصيات فتقوم بفعل الأحداث دون أن تعلم المصائر المجهولة التي تنتظرها، لأنها لا ترى إلا ما تقع عليه عيونها فقط. فهي مخلوقات محدودة العِلْم والخبرة. وأما (الراوي) فهو القوة الخارقة التي تُكشف أمامها الحجب. وقد ربط بعض النقاد بين (الديكتاتورية) وظهور (الراوي) الخبير العليم بكل شيء، كما رآه آخرون نتيجة التأثر بالكتب المقدسة التي تعتمد على هذا النوع من الرؤية العليمة بالبواطن والظواهر والمصائر، وتظهر الشخصيات على أنها كائنات صغيرة جاهلة تلهو وتلعب وتفسد، وهي تدنو من قَدَرها الذي لا تعلمه.
2ـ الراوي الذي لا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات، أو هو الذي لا يتجاوز حدود الشخصيات في الرؤية. فإذا فعلت الشخصية فعلاً، أو اتصفت بصفة، فإن الراوي يُقدم فعلها أو صفتها.
 ويمكن تحديد الراوي الذي لا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات في شكلين: الأول أن يكون الراوي مشاركاً في أحداث الرواية أو شاهداً عليها. والثاني أن يتخذ من إحدى الشخصيات أو من أكثر من شخصية مرايا تعكس الأحداث.
3 ـ الراوي الذي يعلم أقل مما تعلمه الشخصيات، سواء أكان هذا الراوي واحداً من شخصيات الرواية، أو من المشاهدين، أم من المستقلين، متخذاً لنفسه مستوى زمانياً أو مكانياً أو إيديولوجياً خاصاً به.
كما حدّد (جينيت) في كتابه (أشكال 3) أنواع الرواة في اثنين:
1 ـ راوٍ يحلل الأحداث من الداخل، وهو نوعان: بطل يروي قصته بضمير (الأنا) فهو راوٍ حاضر. وكاتب يعرف كل شيء فهو راوٍ كلّي المعرفة على الرغم من أنه راوٍ غير حاضر.
2 ـ راوٍ يراقب الأحداث من خارج. وهو أيضاً نوعان: راوٍ مشاهد فهو حاضر ولكنه لا يتدخل. وكاتب يروي ولا يحلل، فهو غير حاضر، ولكنه لا يسقط المسافة بينه وبين الأحداث.
أما (تودوروف) فقد ميّز ثلاثة أنواع من الرواة، هي:
1 ـ راوٍ يعلم أكثر من الشخصية (الرؤية من خلف).
2 ـ راوٍ يعلم بقدر ما تعلم الشخصية (الرؤية مع).
3 ـ راوٍ يعلم أقل مما تعلمه الشخصية (الرؤية من الخارج).
ويمكن التفصيل في هؤلاء الرواة على النحو التالي:
1 ـ الراوي بضمير المتكلم، وهو عادةً بطل يروي قصته، لكنه ليس تماماً البطل، ذلك أن الراوي هو مَنْ يتكلم في زمن حاضر عن بطل كأنه هو الراوي. وقد وقعت أفعاله في زمن مضى، أي لئن كان الراوي هو البطل فإن ثمة مسافة زمنية بين ما كانه وما أصبحه، أي بين البطل الشخصية في الزمن الماضي والراوي في الزمن الحاضر. وعليه لا يعود الراوي هو (البطل) وليست الرواية (سيرة ذاتية) بل هي سرد يستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا، ليتمكن من ممارسة لعبة فنية تخوّله الحضور. ومثاله من رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) حيث يقول: "عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة. سبعة أعوام على وجه التحديد. كنت أتعلم في أوربا. تعلّمت الكثير وغاب عني الكثير". وفي هذه البداية يقيم الراوي الذي يروي بضمير (الأنا) المسافة الزمنية التي تخوّله الرواية على نفسه. هذه المسافة هي مسافة التحوّل والانتقال لشخصه، وهي مسافة محددة بمدة من الزمن، وبأحداث جرت، ولولا ذلك لما كان من سبب يدفع لأن يروي عن نفسه. وهكذا تحكي الشخصية عن نفسها، وتصير راوية، وهي ترى معاناة التحوّل.
2ـ الكاتب الذي يعرف كل شيء، فيظهر الراوي هنا بأنه هو الروائي فيروي بضمير الغائب (هو). وهذا يعني أنه راو غير حاضر. لكن الروائي يتدخل في سرده، عن طريق الشخصيات الأخرى لئلا ينكشف تدخله المباشر. وهذه المسافة بين الكاتب وشخصياته تعادل قدرة الكاتب على إبداع شخصيات حية قادرة على النطق بصوتها لا بصوت الكاتب. وبغياب الراوي، الظل الفني للكاتب، وبتقدم الكاتب بضمير (الهو) أعزل من تقنيات السرد وفنيته، يصبح العمل السردي أحياناً مجرد إخبار أو نقل حوادث أو سرد حكاية تفتقر إلى المصداقية التي يولدها الفن حتى في واقعيته.
3 ـ الراوي الشاهد، وهو راوٍ حاضر، لكنه لا يتدخل. إنه يروي من خارج، على مسافة بينه وبين مَنْ يروي عنه. إنه بمثابة العين التي تكتفي بنقل المرئي في حدود ما يسمح لها النظر، وبمثابة الأذن التي تكتفي بنقل المسموع في حدود ما يسمح به السمع. إنه تقنية آلية تقوم بعملية (المونتاج) أو تركيب الصور، ومثل هذا العمل لا يكشف عن حضور الراوي، لأنه غائب في بنية الشكل، كالمخرج الذي لا نراه إلا في أثره. وهذا يتطلب مهارة عالية من الروائي، وإلا سقط في شكلية سطحية.
4 ـ الكاتب الذي يروي من خارج، فهو غير حاضر، ولا كلّي المعرفة. ولهذا نراه يبحث عن وسائل تخوّله رواية ما يروي، ودون تدخل منه. والروائي هنا يروي على مسافة بما يروي، فيبقى خارج ما يروي، إذ أن ما يرويه من أحداث لم يقع في حضوره، فهو ليس شاهداً على ما يروي، وإنما يروي ما يرويه الآخرون وما سمعه منهم. وهو يتحاشى تحليل ظاهرات التعبير النفسية التي تبديها بعض الشخصيات، أو التي ترتسم على الوجوه، أو تظهر في السلوك، فلا يدّعي النفاذ إلى دواخل النفوس.
2 ـ المنظور، أو وجهة النظر: POINT OF VIEW
عَرَف مصطلح (المنظور) السردي حضوراً مكثفاً داخل نظرية علم السرد، منذ نهاية القرن التاسع عشر، لأن وظيفته الأساسية هي تشخيص الحدث الروائي. وتقديم القصة لا يتم إلا عبر منظور سردي يعالج علاقات السارد مع الآخرين، ومع العالَم، ثم يفرض على الراوي وجهة نظر ما. ومنذ ذلك الحين عَرَف (المنظور) تطورات عديدة مع الرواية الحديثة، حيث تصدّع فيها مفهوم المنظور الواحد المخصص للحقيقة الواحدة، وأصبح منظورات متعددة. بينما كان المنظور الواحد يتحكم في توجيه قارئه من خلال منظور إيديولوجي واحد يخنق كل المنظورات الأخرى.
كيف يروي الراوي ما يرى؟ وكيف يسرد من خلال وجهة نظره، فلا ينقل نقلاً فوتوغرافياً الحدث المحكي؟
في (هيئة السرد) تختفي العلاقة بين الروائي والراوي، فيختفي الروائي خلف الراوي، لينطقه بلسانه، فيصبح (الراوي) تقنية سردية يوظفها الروائي من خلال وجهة نظره. وعلى هذا فإن (هيئة السرد) هي إحدى المقولات الهامة في علم السرد الحديث، لأنها تكشف عن طرائق السرد، وتميز بين الروائي والراوي، وتكشف البعد الذاتي في سرد الأحداث، ذلك أن الروائي لا يمكن أن يكون موضوعياً، لأن العمل الذي يسرده إنما يصل إلى المتلقي من خلاله هو، فلابد أن يكون العمل مطبوعاً بوعيه وبثقافته وبمواقفه تجاه القضايا والأشخاص. إن "الموضوعية" الصرف لا وجود لها في العمل الأدبي إذا كانت تعني التجرّد التام واعتبار الأدب شهادة لغوية. لهذا كان لمصطلح (المنظور) أهمية خاصة في بحث هيئة السرد، لأنه يكشف اختلاف وجهات النظر، ويسهم في توثيق العلاقة بين الروائي والقارئ.
ويبرز في الصيغة السردية مصطلحات، مثل: المسافة Distance والمنظور Perspective... أما المسافة فتُعنى بتحديد البعد الفاصل بين الراوي والمشاهد. وهذه المسافة هي التي يستند إليها منظور الراوي في وجهة نظره التي يروي المروي في ضوئها...
وأما المنظور فيكشف عن مستويات عرض الحكاية من خلال موقع الراوي إزاء الحدث والشخصيات. والرواة يختلفون أمام الحدث الواحد، إذ كلٌّ ينقل كما شاهده هو، لا كما هو في الواقع، أو هو ينقل المقدار الذي استوعبه.
وإذا كان (المنظور) مصطلحاً مستمداً من الفنون التشكيلية، فإنه نُقل إلى المجال الروائي، ليوظّف نقدياً، ويعبّر عن (رؤية) النفس المدركة للأشياء. إنه (وجهة النظر) التي تحكم وضع الراوي في القصة: فإذا كان (الراوي) هو الشخص الذي يروي السرد، فإن (الرؤية) هي (الطريقة) التي ينظر بها الراوي إلى الأحداث عند تقديمها، أو هي (وجهة نظره). ومن هنا تلازم هذين المصطلحين، وتداخلهما: فلا راوٍ دون رؤية، ولا رؤية دون راوٍ.
وقد عرفت (الرؤية) تسميات كثيرة: فبعضهم يسمّيها (وجهة النظر) (1)، وآخرون يسمّونها (زاوية الرؤية) (2)، وغيرهم (بؤرة السرد) (3)، والتحفيز (4)، و(حصر المجال) (5)، و(التبئير) (6)، و(الرؤية السردية) (7). ولعل تسمية (وجهة النظر) هي الأكثر شيوعاً، وعلى الخصوص في الدراسات الأنجلو أمريكية التي تركّز على (الراوي) الذي من خلاله تتحد (رؤيته) إلى العالّم الذي يرويه بأشخاصه وأحداثه.
ولقد مرّت الدراسات حول (الرؤية) بمرحلتين: بدأت الأولى مع النقد الأنجلو ـ أمريكي في بدايات القرن العشرين، واستمرت حتى أواخر الستينيات. وخلالها احتلت (الرؤية) مركز الصدارة في تحليل الخطاب الروائي. وبدأت المرحلة الثانية في مطلع السبعينيات مع التطور الذي تُوّج بظهور (السرديات)...
وقد صُنّفت (الرؤية) في ثلاثة أنواع، وهي:
1 ـ الرؤية الخارجية، وتتمثل في الروايات المكتوبة بصيغة الغائب.
2 ـ الرؤية الداخلية، وتتمثّل في الروايات المكتوبة بضمير المتكلم والسيرة الذاتية.
3 ـ الرؤية المتعددة، وتتمثّل في الروايات التي تصوّر الصراع الفكري والحياتي.
ودستويفسكي هو مبدع الرواية المتعددة الأصوات، أو ذات الرؤى المتعددة.
ولعل الناقد الشكلاني الروسي (توماشفسكي) (1890 ـ 1957) هو أول مَنْ ميّز بين نمطين من السرد: الموضوعي، والذاتي. ففي نظام (السرد الموضوعي) يكون الكاتب مطّلعاً على كل شيء، حتى على الأفكار السرية للأبطال، ويكون الكاتب مقابلاً للراوي المحايد الذي لا يتدخل ليفسّر الأحداث، وإنما ليصفها وصفاً محايداً كما يراها، أو كما يستنبطها من أذهان الأبطال، ولذلك يسمى هذا السرد موضوعياً لأنه يترك الحرية للقارئ ليفسر ما يُحكىلـه ويؤوله. ويجسّد هذا النموذج الروايات الواقعية.
وأما نظام (السرد الذاتيّ) ففيه نتبع الحكي من خلال عيني الراوي، ولا تُقدم الأحداث فيه إلا من زاوية نظر الراوي، فهو الذي يُخبر بها، وهو الذي يعطيها تأويلاً معيّناً يفرضه على القارئ، ويدعوه إلى الاعتقاد به. ونموذج هذا الأسلوب هو الروايات الرومانسية والروايات ذات البطل الإشكالي.
ولقد بلور (هنري جيمس) هذا المصطلح في مطلع القرن الماضي، ثم جاء الناقد الفرنسي (جان بويون) J.Pouillon ففصّل القول فيه في كتابه (الزمن والرواية) 1945، وصنّف (زاوية الرؤية) في ثلاث، هي:
1 ـ الرؤية مع. وتتساوى فيها معرفة الشخصية بمعرفة الراوي.
2 ـ الرؤية من الخلف. ويكون الراوي فيها عليماً بكل شيء، محيطاً بالأحداث.
3 ـ الرؤية من الخارج. ويكون الراوي فيها أقل معرفة من الشخصية.
وعلى هذا فإن (وجهة النظر) تُعَدّ من اكتشاف النقد الأنجلوسكسوني في مجال السرديات. وقد أكّد على ضرورة إقصاء الراوي العليم، وتحويل الخطاب الروائي إلى (وجهة النظر)...
وفي كتابه (صنعة الرواية) 1950 (8) وضع (بيرسي لوبوك) حجر زاوية (الرؤية)، وميّز بين (العرض)، و(السرد) فأكّد أنه في (العرض) يتحقق حكي القصة نفسها بنفسها دون وسيط. بينما في (السرد) راوٍ عالم بكل شيء، يقدم الحكاية. ثم حدّد وجهات النظر في ثلاث، هي:
1 ـ التقديم البانورامي، حيث نجد (الراوي) مطلق المعرفة.
2 ـ التقديم المشهدي، حيث نجد (الراوي) غائباً، والأحداث تُقدّم مباشرة للمتلقي.
3 ـ اللوحات، حيث تتركز الأحداث على ذهن (الراوي) أو على إحدى الشخصيات.
ومن خلال قراءته لرواية فلوبير (مدام بوفاري) وجد تقديمين للأحداث: الأول: مشهدي ذو بُعد درامي، يبدو فيه الراوي غائباً عن الأحداث التي تجري أمام المتلقي. والثاني: بانورامي ذو طبيعة تصويرية تفترض وجود الراوي العالِم بكل شيء.
ثم جاء (نورمان فريدمان) فاستوعب آراء سابقيه، واقترح تصوّره في كتابه (وجهة النظر في الرواية: تطّور المفهوم النقدي) لوجهات النظر في الأشكال التالية:
1 ـ المعرفة المطلقة للراوي، حيث وجهة نظر المؤلف غير محدودة.
2 ـ المعرفة المحايدة للراوي، حيث يتكلم الراوي بضمير الغائب، ولا يتدخل، ولكن الأحداث لا تُقدّم إلا كما يراها هو، لا كما تراها الشخصيات.
3 ـ المعرفة المتعددة، حيث يوجد أكثر من راوٍ واحد، والقصة تُقدّم كما تحياها الشخصيات.
4 ـ المعرفة الأحادية، حيث يوجد راوٍ واحد، ولكنه يركز على شخصية مركزية نرى القصة من خلالها.
5 ـ النمط الدرامي، حيث لا تُقدّم إلا أفعال الشخصيات وأقوالها.
6 ـ الأنا الشاهد، في روايات ضمير المتكلم. حيث الراوي مختلف عن الشخص، وتصل الأحداث إلى المتلقي عبر الراوي.
7 ـ الأنا المشارك، حيث الراوي المتكلم هو شخصية محورية.
أما تودوروف (9) فقد ميّز بين الحكي: كقصة وكخطاب، وأبرز إمكانية تحليل الخطاب السردي من جهة الزمن، والصيغة، والجهة، كمقولات للحكي، انطلاقاً من استيحاء اللسانيات، واعتبر جهات الحكي هي الطريقة التي بوساطتها تُدرك القصة عن طريق الراوي في علاقته بالمتلقي، واعتبر أن قراءة عمل حكائي لا تجعلنا مباشرة أمام إدراك أحداثه وقصته إلا من خلال الراوي.
وقد استعاد تصنيف (بويون) للرؤيات، مع بعض التعديلات الطفيفة، في:
1 ـ الراوي< الشخصية، حيث يعرف الراوي أكثر من الشخصية. (الرؤية من خلف).
2 ـ الراوي = الشخصية، حيث يعرف الراوي ما تعرفه الشخصيات. (الرؤية المصاحبة).
3 ـ الراوي > الشخصية، حيث تتضاءل معرفة الراوي. (الرؤية من الخارج).
وفي مطلع السبعينات طرح الباحث السوفيتي (أوسبنسكي) (10) (وجهة النظر) بطرق جديدة، من خلال ما سمّاه (بويطيقا التوليف)، ساعياً إلى معاينة المواقع التي يحتلّها المؤلف، من خلال أربعة منظورات، هي:
1 ـ المنظور الإيديولوجي.
2 ـ المنظور التعبيري.
3 ـ المنظور النفسي.
4 ـ المنظور الزمكاني.
1 ـ (المنظور الإيديولوجي) هو منظومة القيم العامة لرؤية العالَم ذهنياً، فهو يتخلل كل أجزاء العمل الأدبي. وقد كان (الكورس) في الدراما اليونانية يلتزم بهذه المنظومة، فيعلّق على الأحداث والشخصيات، ويقيّمها وفق الإيديولوجية الحاكمة. وقد قام (الراوي) بنفس الدور في الرواية الكلاسيكية والواقعية، فكان يعلّق على الأحداث، ويقيّمها. وعندما خفت صوت الراوي، ودعا الروائيون المجدّدون إلى انتفاء شخصية الكاتب ولم تعد هذه الإيديولوجية تظهر بشكل مباشر، لجأ الكاتب إلى أساليب أكثر مهارة ليوحي للقارئ بهذه القيم العامة. في حين امتنع بعض الأدباء عن اتخاذ موقف عام، وتركوا القيم النسبية الذاتية للشخصيات والقارئ لتتفاعل حرة مع بعضها بعضاً. وترتب على ذلك أن أصبح المنظور الإيديولوجي الذي يحكم العمل الأدبي أبعد ما يكون عن التحدي. وتحديده يعتمد على الفهم الغريزي للقارئ، واحتماله أكثر من تأويل.
وعندما يطغى منظور إيديولوجي واحد في العمل الأدبي، تصبح كل القيم خاضعة لوجهة نظر واحدة، بحيث إذا ظهر منظور مخالف على لسان شخصية من الشخصيات مثلاً أُخضع هذا المنظور إلى إعادة تقييم من وجهة النظر السائدة. ويسمّي الناقد الروسي (باختين) هذا بـ (الصوت المنفرد). فإذا كان في الرواية أكثر من منظور واحد يحكم العمل الأدبي فإن باختين يسمّيه: الرواية متعددة الأصوات (أو البوليفونية)، حيث توجد عدة منظورات مستقلة داخل العمل. وقد اتجهت الرواية الحديثة نحو (البوليفونية). وابتعدت عن موقف الصوت المنفرد. وقد جمعت (ثلاثية الطريق إلى الشمس) بين (الصوت المنفرد) و(البوليفونية) ففي بعض مقاطع نسمع الصوت الواحد / صوت الراوي وهو يقيّم ويحكم ويروي. وفي بعضها الآخر نسمع متحاورين يتجادلان. كما في جدل عزيز مع الكابيتان جيرار، والقومندان رينو من بعده، عن الفرق بين الشرق والغرب، والحضارة والتخلف، وعن (فِرية) المستعمر في أنه يرغب في (تمدين) الدول المتخلفة، فحتى في هذا الحوار يبدو الصوت الواحد هو المهيمن، الصوت الوطني، صوت عزيز الذي يقف في موقف الدفاع عن القيم العربية والوطن المحتل.
ويؤكد اوسبنسكي على أنه يجب أن ننظر إلى العمل الأدبي ككائن لـه استقلاله عن مؤلفه، وأنه يجب أن يُنسب المنظور الإيديولوجي إلى العمل نفسه لا إلى مؤلفه، سواء وافقه في الواقع أو خالفه، فقد يختار الكاتب صوتاً يخالف صوته، وقد يغيّر منظوره الإيديولوجي في عمل واحد أكثر من مرة.
ولدى تطبيق (المنظور الإيديولوجي) وجدنا (ثلاثية الطريق إلى الشمس) عملاً متعدّد الأصوات. وأوضح السمات التي تُظهر هذا التعدد هو كثرة المقاطع التي يصدر الراوي فيها الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الإيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحِكَم، وتقف مستقلة عن النصّ، محتفظة بدلالة مطلقة كما هي الحال في روايات الواقعيين الغربيين حيث نستطيع أن نستخرج كتيباً مليئاً بالحِكَم والأمثال التي ترد على لسان إحدى الشخصيات، أو لا ترد على لسان أي من الشخصيات، ولكنها ترد على لسان (الراوي)، دون أن تدخل في نسيج النصّ، حيث ينقطع خط القصّ ويعلو صوت الراوي، مثل (الكورس) اليوناني، معلناً المنظور الإيديولوجي الذي يحكم الرواية بطريقة مباشرة، وحيث يمكن استخراج هذه الفقرات من سياق الرواية دون إخلال ببنائها. كما في قوله: "منذ اللحظة التي رأى فيها خالد آغا في بيته، تشاءم عزيز، فالرجل ثقيل الظل عليه، لم يقع يوماً موقعاً حسناً في نفسه. هو إقطاعي سليل إقطاع، يملك القرى الكثيرة، والنفوذ الواسع، مبذّر، متلاف، علاقاته متشعبة، يده طائلة، يفعل في حماة وقراها ما يشاء، قوي، شرير، يحب الأذى ولا يتورع عن فعل أي شيء دون رادع أو وازع، فكيف يواجهه عزيز؟ كان قد ناقش الأمر كثيراً مع شمس وكانت شمس ترى أن يبقوا الجسور معه وأن يداروه. ألم تقل العرب قديماً: داروا سفهاءكم؟" (ص2 / 256).
مثال آخر: "تهديدات هتلر، تصريحاته اللاهبة، خطبه النارية، كلها كانت تنقلها الإذاعات، والإذاعة العربية من برلين توصلها طازجة إلى أسماع العرب في شرقي الوطن وغربيه، فيتحمس بعضهم لهتلر مراهناً أنه سيكون خلاصهم من بريطانيا وفرنسا، ويتخوف بعضهم بحجة أن (النعل أخت النعل) وأن المستعمر هو المستعمر سواء كان بريطانياً أو ألمانياً، فرنسياً أم إيطالياً" (ص 3/ 184).
وهذا بخلاف الحوار الذي يقوم بين اثنين، فيعرض كل منهما وجهة نظره، ويستشهد بمثَل أو حكمة، تأكيداً لما يذهب إليه، كما في قوله:
ـ "تعلم؟ بودي أن تقوم الحرب اليوم. قال عزيز باندفاع مفاجئ (فينشب ناب كلب بجلد خنزير) ونرتاح من هؤلاء المستعمرين جميعاً.
ـ إن تقاتلت الفيلة ذهبت الأرانب دعساً تحت الأرجل. ردّ الطبيب الزعيم" (ص 3/185)
ومن سمات (الصوت المنفرد) في الثلاثية أن (الروائي) تميّز بنشر قيم الحق والعدل والمساواة، فصوّر النضال القومي ضد الأتراك، وجعله ينتصر كما هو تاريخياً، وصور النضال الوطني ضد الفرنسيين وجعله أيضاً ينتصر كما هو تاريخياً، فكافأ ـ بذلك- الأخيار بانتصارهم، وعاقب الأشرار بخذلانهم وانكسارهم: (العصملي) الذي جرجر أذيال الاندحار، و(بوشعيب) الذي قُتل برصاص العرب، والإقطاعي (خالد آغا) الذي كانت نهايته على يد أحد فلاحيه، والخائن (التيناوي) الذي لقي جزاءه، والقومندان (رينو) الذي اعتُقل بسبب كونه ديغولياً...
كما لم تكن (إيديولوجية) الثلاثية تجاه الزمن محايدة، فقد صوّر الروائي حياة شخصيات الجيل الأول تصويراً دقيقاً، ورسم ملامحهم الخارجية، ونفسياتهم، وأعمالهم. بخلاف تصويره لشخصيات الجيل الثاني (الأبناء) الذين رسمهم بسرعة، واكتفى بصور خاطفة من حياتهم السهلة المريحة التي لم يعانوا ما عاناه الآباء من شظف العيش، ومرارة الظلم والعسف، من قبل الأتراك والفرنسيين والإقطاعيين، فلقد ولد الجيل التالي، فوجد كل شيء ميسوراً له: (الأخضر) الابن الأكبر لعزيز وشمس، يدرس الطب في باريس، ويمارس الجنس بحرية مطلقة مع زميلاته في الجامعة الباريسية، وقد عاد إلى دمشق طبيباً مشهوراً، تتكاثر في عيادته الفتيات الراغبات بالزواج منه.
و(نواف) الابن الثاني لعزيز وشمس، يتزوج (دملجة) ابنة عمه، فتلد ابنة يسميانها (شمساً) على اسم جدتها المشهورة (شمس).
و(مناف) الابن الثالث لعزيز، ينجح في العمل التجاري، فيحلّ مكان أبيه في المحل، ويتزوج (خيرية) بنت أم روضة.
و(بدور) الفتاة الوحيدة لعزيز وشمس، تصبح معلمة، وتتزوج (عوّاد) الذي أصبح بدوره محامياً. ولهذا لم يأخذ (جيل الأبناء) من الرواية ذات الأجزاء الثلاثة أكثر من الصفحات الأخيرة من الجزء الثالث.
وهكذا كان التطور الزمني للصالح العام: الوطن والمواطنين، لصالح الأسرة التي تكاثرت واغتنت، وتناسلت كما هي سنّة الحياة.
2 ـ (المنظور النفسي): عند (اوسبنسكي) نوعان: منظور موضوعي، ومنظور ذاتي، فالمنظور الموضوعي تكون الأحداث والشخصيات فيه مروية من منظور (الراوي)، والمنظور الذاتي يقدّم الأحداث والشخصيات من منظور ذاتي، أي من خلال إدراك شخصية من الشخصيات المشتركة في الحدث. وكل من هذين المنظورين يمكن أن يكون خارجياً وداخلياً. كما يمكن أن يتداخل المنظوران، فيتحوّل المنظور الموضوعي إلى ذاتي، والذاتي إلى موضوعي. وقد استخدم ناصيف في ثلاثيته المنظور الموضوعي الخارجي الذي يقدّم ويقيّم الأحداث والشخصيات من منظور (الراوي).
3 ـ (المنظور التعبيري): إذا كان (المنظور الإيديولوجي) هو منظومة القيم التي تحكم الشخصية من خلالها على العالَم المحيط بها، و(المنظور النفسي) هو الزاوية التي تقدم من خلالها العالَم التخييلي، فإن (المنظور التعبيري) هو الأسلوب الذي تعبّر الشخصية من خلاله عن نفسها.
وبما أن القصّ يقوم على (راوٍ) يأخذ على عاتقه سرد الحوادث ووصف الأماكن وتقديم الشخصيات ونقل كلامها والتعبير عن أفكارها ومشاعرها، فإن علاقة دينامية توجد بين كلام (الشخصية) المنقول وكلام (الراوي) الناقل. وهذه العلاقة معقدة ومتداخلة حيث قد ينقل الراوي كلام الشخصية بحذافيره. وقد يصبغه بصبغته الخاصة. ومن هنا تأتي مستويات مختلفة في المنظور التعبيري. وقد يقترب منظور الراوي من منظور الشخصية، وقد يبتعد عنه، فـ (الحوار) مثلاً يُعتبر أقرب الصيغ إلى منظور الشخصية. و(السرد) يُعتبر أبعد الصيغ عنه. فالحوار يُقدّم بلا وساطة كصيغة مستقلة قائلها معروف ويعبّر عن نفسه بطريقة مباشرة. أما إذا أدخل قول الشخصية في سياق القصّ وتولّى الراوي نقله فيحدث تداخل بين القولين. ويصبح الصوت مزدوجاً.
ويفرق القانون الروائي التقليدي بين أسلوبين في نقل كلام الغير، هما: الأسلوب المباشر، والأسلوب غير المباشر. فإذا نقل الراوي كلام غيره كما هو كان أسلوبه مباشراً، وإذا أدخله في سياق كلامه كان أسلوبه غير مباشر. وقد استخدم ناصيف الأسلوبين، فنقل الراوي كلام غيره كما هو بأسلوبه المباشر في بعض مقاطع الثلاثية، كما أدخل أحياناً كلام غيره في سياق كلامه بأسلوب غير مباشر، فجاء قصّه التقليدي على توالي هذين الأسلوبين.
4 ـ (المنظور الزمكاني): يعاين موقع الراوي زمانياً ومكانياً من القصة وشخصياتها، ويحدّده بناءً على تقسيمه أيضاً إلى داخلي وخارجي.
ومع (خطاب الحكي) 1972 لـ (جيرار جينيت) نجدنا أمام تقديم عملي لنظرية متكاملة للسرد. فهو ينطلق من قراءة كل التصورات السابقة، ومن خلال نقده إياها يقدم مشروعاً منسجماً مع ما سبق، مستوحياً التصورات اللسانية البنيوية فيما يتصل بـ (الرؤية أو وجهة النظر). لكنه استبقى هاتين السمتين، واستبدلهما بمصطلح (التبئير) الذي هو أكثر تجريداً، وقسّمه إلى ثلاثة أنواع، هي:
1 ـ التبئير الصفر، أو اللاتبئير، ونجده في السرد التقليدي.
2 ـ التبئير الداخلي، سواء كان ثابتاً، أو متحولاً، أو متعدداً.
3 ـ التبئير الخارجي، الذي لا يمكن فيه التعرّف على دواخل الشخصيات.
لكن (ميك بال) نقدته وقالت إن مصطلحي (التبئير الصفر، والتبئير الداخلي) قال بهما (جورج بلان) من قبل في مصطلحه (حصر المجال)، مما جعل (جينيت) يعيد النظر في مصطلحه عام 1983، ويحدد في كتابه اللاحق (خطاب الحكي الجديد) أن (المبئر) هو الراوي، و(المبأر) هو الحكي ذاته، و(التبئير) هو حصر المجال.
ويمكن جدولة جهود الباحثين في (المنظور) في الخطاطة التالية:

الهوامش
1 ـ محمد نجيب تلاوي ـ وجهة النظر في روايات الأصوات العربية ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 2000.
2 ـ إنجيل بطرس ـ دراسات في الرواية العربية 1987 ص 90.
3 ـ كلينث بروكس وروبرت بن وارن.
4 ـ ويليك، ووارن ـ نظرية الأدب ـ تر: محيي الدين صبحي ـ دمشق ص 225.
5 ـ جورج بلان.
6 ـ جيرار جينيت.
7 ـ سعيد يقطين.
8 ـ تر: عبد الستار جواد ـ بغداد 1981.
9 ـ تودوروف ـ الأدب والدلالة ـ لاروس ـ باريس 1966، وتواصلات العدد 8 عام 1966.
10 ـ في كتابه: (نظرية الصياغة) 1970.

الدكتور الراحل محمد عزام - سوريا

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى