الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم هداية شمعون

الروح تغادرني الآن..

... الروح تغادرني.. والوجع يدمي جسدي.. يداي مقيدتان في القائم الحديدي للسرير الأبيض، شفتاي تريقان قطرات الدماء حين يعتصرهما ألمي.. خوفي يتراجع فلا أكاد ألقط أنفاسي، السقف الأبيض يحرقني ببرودته والعرق يتفصد من جبيني.. صراخي بات كألوان الطيف تراها ولا تسمعها بعد أن خارت قواي.. أشعر بالدماء تنهمر من بين ساقي أو هو ماء أو هو جنوني أشعر به يطرق باب الحياة التي أكاد أفارقها وهما واقفتان في زاوية الغرفة تعلو البسمات وجهيهما الكالحان، أدور برأسي الملتاع علهما تساعداني..
  طفلي.. آه ساعداني..
  ....
  يا الله ساعدني...
بدأت أهذي ألمح موتي يتسربل من أنيني المذبوح، أراها تسحب كرسيا لتجلس تعبث بشيء في يدها.. عيناي تخوران..
يتجسد أمامي ..أراه باسما يهتف بي قائلا:
  منال حبيبتي أنت أقوى منهم ومن الموت..
  منال أفيقي وليدنا يحتاجك الآن..
يمد يدا من سراب تعيد الروح لأنفاسي أكاد المس يده المخضبة بالدماء إلا أن قيدي يعتصر يدي الذابلتين.. أسمع صراخ الصغير، أفيق من موتي..
  طفلي لتبق لأجل أبيك.. ياارب.. يارب
يمتزج ألمي بدموعي ودمائي.. أشعر به الآن...
أطلق العنان لروحي.. أصرخ صرختي الأخيرة.. تقترب إحداهن تقف مجلدة الوجه، تمد يديها وتصفق لتضيف بلهجة ساخرة لزميلتها.. متمتمة بكلمة عبرية فهمتها..
  إرهابي جديد..
  إنه عامر ..سأسميه عامر على اسم أبيه.. هتفت في داخلي.
... خارت قواي حين لمحته والدماء لازالت تغطيه.. يداي تنزفان وقلبي ينزف.. إنني في سجن الرملة الآن.. وعامر يحيا رغم إثم السجانين.. ذهبت في سبات عميق علىّ ألتقط أنفاسي كي أحيا لأجله.. رأيته مرة أخرى، كان قريبا جدا مني ضمني إلى صدره كان مبتهجا يكاد يرقص من الفرح.
  حبيبتي.. ما أروعك..
  هل لازلت تحيا؟.. ألم يقتلوك؟!!
  لازلت أحيا في قلبك ولأجلك.. ألا ترين الصغير!..
  لكني رأيتك آخر مرة ممز... أعني أنهم ..
  لا تخافي سأبقى معك قريبا وسأضمك دوما
  ولكن.. ربما سترحل مرة أخرى
.. لم أكد أكمل حتى كان يتلاشى وأنا أتشبث باللاشىء.. أحاول أن أبقيه أمام عيني..
......................
  أفيقي أيتها المغفلة هل تظنين أنك في استراحة، ألا يكفي أنا تركناك تلدين هنا.. أفيقي..
الماء البارد يرتطم بوجهي لازلت مقيدة بالسرير.. أربع مجندات يقفن على رأسي وجوههن بيضاء وسوداء، خشونة أيديهن تثيرني حين يمسكن بي، تفك إحداهن القيد من يدي ولم تكد تفعل حتى تشدني إثنتان من ساقيّ لتقيداني، كانت عيناي مشغولتان بالبحث عنه، لم أعد أسمع صوته ..هتفت بلوعة:
  ابني أين الصغير؟!!
تشير الممرضة الإسرائيلية إلى سلة القمامة قائلة بحقد:
  إنه يرقد هنا...
يرتجف صوتي والمجندات يرفعنني عن السرير كي أقف على قدمي:
  أين طفلي؟..!! أين عامر.
تلكزني إحداهن في صدري وتعاجلها أخرى بضربة على ظهري ويتركنني أقع أرضا بعدما تجندلت بقيدي.. تدور الدنيا بي.. أشعر بجسدي يتبخر من التعب.. لم أعد أرى سوى أقدامهن وأحذيتهن الضخمة وهن يلتففن حولي.. حتى انتشلني بكاء الصغير من هذياني فهتفت بصوت مبحوح:
  عامر.. ولم أكد أناديه حتى رفعتني قوة خارقة عن الأرض لتهوى إحدى المجندات بقبضة يدها على وجهي وتعاجلني بلكمات أفقدتني الوعي...
كنت أهذي ورأسي يشتعل سعيرا، أحس بجسدي يتفصد ألما ويداي تسبحان في الفضاء المجهول و أنا أرتدي الأبيض واحلق عاليا في السماء وطفل يجري على الأرض يحاول أن يلمسني بينما ضحكاتي تملأ المكان وقلبي يبكي بمرارة... جاهدت كي أعود إليه لأضمه بين ذراعي، لم أصدق أن طفلي الأول الذي أرتقبه سألده بين الأسوار بعيدا عن أمي وعن عامر... عامر رحل قبل أشهر قليلة لكني أشعر به لازال يحيا معي...
أفقت على صراخ الصغير..
  منال .. منال حبيبتي أفيقي..
رأيتها أم سعدي إلى جانبي هزني اشتياقي لها رغم أني كنت بين يديها في الصباح، أشرت بيدي إلى البعيد.
فقبلت رأسي ومسحت عليها قائلة:
  لا تخافي أنت بخير وصغيرك هنا ينتظرك بفارغ الصبر.
ثم ابتسمت وهي تهدهده منحتي الأسيرات عمرا جديدا حين رأين الطفل، هيا أنهضي ولا تخشي شىء سنهتم بك جميعا.
وترقرقت عيناها بالدمع هاتفة بانفعال:
  أبكيتني أيتها الصغيرة أنت وطفلك ولم يحظى السجانون برؤية دمعي منذ اعتقلت..
ساعدتني الصبايا بالجلوس وأخذت أضحك وأبكي دونما توقف وأنا أضمه إلى صدري، وألثمه صدري الأعجف لأسمع نحيبهن من حولي..
  كفى أيتها المعتوهات سنحول اليوم ليوم عيد في السجن، لن ينالوا من عزيمتنا مهما فعلوا، فهبت سعاد من رقدتها المستكينة هاتفة:
  ماذا أسميته ؟ ملاك أم فرح أم ماذا أخبريني ودعيني أرسم له أجمل لوحة في السجن.
  وأضافت دون أن تنتظر جوابا: سأحول السجن لأجمل حديقة كي يلعب بها، وسأعلق الأهازيج على أسوار المعتقل، وهنا في هذه الزنزانة سنشاركه غرفته الخاصة وسأجعلها أجمل روضة في فلسطين، وسأكون صديقته الطفلة التي سيلعب معها.
ثم أطلقت زغرودة لتشق صمت العزلة الكئيب، فتتعالى أصوات الأسيرات في الزنازين المجاورة..
  زغردن لعامر.. وأم عامر.. زغردن لهدية الله لنا..
وحلقت حولي الصبايا ليحملن عامر بعدما فرغ من الرضاعة هاتفات وهن يدرن حول بعضهن البعض: - حلقاتك.. برجالاتك... حلقة ذهب في وداناتك...
وتحولت الزنازين في دقائق لعرس حقيقي لأتناسى قسوة اللحظات الماضية، ورهبة اللحظات القادمة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى