الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش

الزمن في رواية "يالو"

يُعد الزمن عنصراً أساسياً ومميزاً في النصوص الحكائية بشكل عام، فالقصة دائماً مروية، والتتابع في أحداثها ليس سوى تتابع اصطلاحي. إذ لا قصة لواقع تطابق أحداثها في تواليها، وترتيبها، تواليها وترتيبها في النص. لأن القص اختيار وترتيب، والتوالي في القصة من صنع الراوي وترتيبه. [1] والكاتب عندما يختار، يضع باعتباره الرؤية التي يريد أن يعبر عنها، وتلك الرؤية هي التي تفرض الأسلوب، والأسلوب يفرض الأدوات والتقنيات. [2]

فكل رواية لها نمط زمني، وقيم زمنية خاصة بها. تستمد أصالتها من كفاية تعبيرها عن ذلك النمط، وتلك القيم، وإيصالها إلى القارئ، فالرواية تركيبة معقدة من الزمن. [3]

وفي رواية "يالو"، قدم الكاتب رؤيته للحرب الأهلية في لبنان، بكل ما تتضمنه من بشاعة وقسوة متخذاً من الذاكرة إطاراً مرجعياً، ليؤكد أن حكاية الحرب التي يقدمها ليست الحكاية الوحيدة، فهو لا يهتم بأن تكون لنا ذاكرة واحدة، وهو غير معني بالحكاية الواحدة، والصيغة النهائية. [4]

واتخاذ الراوي الذاكرة مرجعاً لحكايته، يؤكد أنه لا يروي كل شيء، وإنما يروي ما علق فيها. فهو لا يستطيع أن يقص كل شيء. لذا هو يختار وينتقي ما يقصه، وبالتالي فإن الزمن في روايته ليس زمناً حقيقياً، بل زمناً زائفاً.

ويمكننا دراسة الزمن في هذه الرواية أولاً، من خلال العلاقة بين زمن المتن الحكائي، وزمن المبنى الحكائي الذي يعتبره النقاد زمناً زائفاً، من ترتيب الكاتب وتنظيمه، وثانياً، من خلال علاقة الزمنين بزمن السرد.

زمن المتن الحكائي:

يظهر هذا الزمن من خلال المتن الحكائي الذي يعرفه سعيد يقطين بـ "مجموعة من الحوافز المتتابعة بحسب السبب والنتيجة". [5] أي زمن الأحداث والوقائع مرتبة ومتتالية، "فيالو" هي حكاية الحرب، وزمنها هو زمن الحرب الأهلية في لبنان التي بدأت عام 1975. لكن ترتيبها وانتظام أحداثها، يأتي من خلال قصة حياة بطل الرواية يالو الذي ولد عام 1961 واشترك في الحرب عام 1979، وظل يقاتل حتى عام 1989، وفي أواخر ذلك العام هرب إلى فرنسا، ليعود بعد ذلك إلى لبنان، ليعمل حارساً في منزل المحامي ميشال سلوم، ثم يعتقل عام 1992، ويحقق معه ويعذب فترة طويلة في السجن، وهناك يكتب قصة حياته مرات عديدة قبل أن يحكم عليه بالسجن عام 1995، وتنتهي أحداث الحكاية بعد عام من الحكم على يالو بالسجن، وهو يحاول كتابة قصة حياته من جديد.

زمن المبنى الحكائي:

يظهر هذا الزمن من خلال المبني الحكائي الذي يُعرف بـ "مجموعة من الحوافز. لكنها مرتبة بحسب التتابع الذي يفرضه العمل". [6] فالكاتب يمكنه أن يقدم لنا أشكالاً متعددة للتجلي الزمني في حكايته.

زمن المبنى الحكائي يختلف عن زمن المتن الحكائي، والأحداث لا يرتبها الكاتب وفق نسقها الزمني في المتن الحكائي، أي كما هي مرتبة بالوقائع. إنما يقوم بخلق زمنه الخاص، ليعبر عن رؤيته للحكاية التي يرويها.

وإن كان زمن الأحداث في "يالو" زمن الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975، هو الزمن المسيطر و الغالب عليها، فإن هذا الزمن هو نفسه، زمن المبنى الحكائي مع بعض الاختلاف كونه غير منتظم و مرتب كما هو في الواقع. إنه يسير وفق نسق زمني متقطع. فالراوي يروي لنا من الذاكرة، ذاكرة البطل المتشظية. فهو تارة يروي عن زمن حاضر، زمن الحرب الأهلية وأهوالها، و تارة يعود إلى زمن سابق عن زمن الحرب ليقص عن طفولته وعن علاقة أمه بإلياس الشامي قبل ولادته، وعن جده.. وغيرهم. وتارة أخرى يعود إلى الماضي البعيد، إلى تاريخ لبنان في الحروب الأهلية منذ عام 1860، ليقص عن مذابح الأرمن، ومذابح عين ورد.

زمن السرد:

يبدأ هذا الزمن منذ "22 كانون الأول من عام 1992"، في مخفر جونيه، حينما وقف يالو أمام المحقق، وهي نقطة تأزم درامية وسط المحكي، تشعبت بعدها مساراته واتجاهاته الزمنية هبوطاً وصعوداً. وهذا الزمن هو ما أطلق عليه عبد العالي بو طيب اسم "النسق الزمني المتقطع". [7]

وينتهي زمن السرد بعد عام من الحكم على يالو بالسجن، وهو يحاول كتابة قصة حياته من جديد لنفسه وبنفسه - أي بعد عام 1995.

ويرى بعض النقاد أن عدم التطابق بين نظام السرد، ونظام القصة يولد مفارقات سردية، تتيح للراوي إمكانيات التلاعب بالنظام الروائي. [8] فالراوي يكسر زمن قصه ويفتته، يفتحه على ماض قريب حيناً، وعلى ماض بعيد حيناً آخر، مستخدماً تقنيات سردية كالاسترجاع والتداعي. أو كأن يُدخل في قصه حكاية عن الماضي أو يضمنه حكايات أخرى، أو أحداثاً تاريخية وقعت في زمن سابق ليخلق فضاءً لعالم قصه ويولد الإيهام بالحقيقي.

ويمثل المقطع التالي تقنية الاسترجاع التي عملت على تكسير خطية الزمن، واستعادة الماضي البعيد لتوهم بأن القص يتجه إلى الوراء، في حين تبقى الكتابة في الحقيقة خطية متقدمـة باتجاهها على الورق إلى الأمام "عندما فتح عينيه بعدما صرخ به المحقق، رأى نفسه في بلونه. قال لها تعالي، فمشت خلفه... الفتاة سقطت أرضاً أو هكذا بدا ليالو، فانحنى يلمها". [9]

يستخدم الراوي أيضاً التوثيق التاريخي، من خلال إشاراته إلى تواريخ أحداث حصلت في الماضي للإيهام بحقيقة ما يروي، مثل إشارته إلى تاريخ المذابح التي شهدها لبنان عام1860.

ويستمر الراوي في لعبة الزمن، فيداخل بين عدة أزمان من خلال تضمين الحكاية الكبرى، حكايات أخرى عن الماضي مثل حكاية جده عن الكاهن الذي دخل الحائط، وحكاية نينا عن الرجل الذي ذبح على بطن امرأته. [10] ليخلق فضاءً لعالم قصه.

ومن ضمن التقنيات التي استخدمها الراوي، تقنية التداعي، فقد كان لها حضور بارز في السرد وفي تغيير مسار الزمن في الرواية. يروي يالو عن طوني عتيق، وعن حديثه عن الكلمات والعيون والصدق، فيستدعي ذلك كلام جده عن الكلمات وعن العيون. [11] وهو بذلك يعيدنا إلى زمن أسبق من الزمن الذي بدأ الحديث عنه.

وتبدو مقارنتنا النظام الزمني للقصة مع النظام الزمني القصصي سهلة، إذا أردنا أن نقيس سرعة القص، التي تُحدد من خلال العلاقة بين مدة الوقائع - الوقت الذي تستغرقه - وطول النص قياساً إلى عدد أسطره أو صفحاته. [12]

لكن يمكننا تتبع إيقاع الزمن في "يالو" بالنظر إلى اختلاف مقاطع الحكي وتباينها، وذلك من خلال التقنيات السردية التي استخدمها الراوي، كالإيجاز والحذف والمشهد.

فعلى صعيد الإيجاز، أو الخلاصة كما يسميها حميد الحمداني، نرى أن الراوي اختزل أحداثاً ووقائع حدثت في سنوات أو في أشهر أو ساعات في صفحات أو أسطر أو كلمات دون أن يتعرض لتفاصيل الأحداث فيها. وفي الرواية يلخص البطل يالو سنوات اشتراكه في الحرب منذ عام (1979-1989) بالفقرة التالية:

"عام 1979 التحقت بالقوات اللبنانية، وصرت مقاتلاً، وبقيت مقاتلاً حتى أواخر سنة 1989" ويضيف "خضعت لعدة دورات عسكرية في منطقة ظهر الوحش... وفي أواخر سنة 1989، شعرت باليأس من كل شيء، وطوني عتيق كان صاحب فكرة الهجرة إلى فرنسا، سرقنا أنا وطوني صندوق الثكنة، وهربنا إلى فرنسا". [13]

ولإعطاء السرد مظهر السرعة في عرض الوقائع كان الراوي يقفز عن عدة سنوات دون إعطاء معلومات عما حدث فيها، مثلاً يروي يالو على لسان جده عن مذابح الأرمن في عين ورد، حينما كان جده في الثالثة من عمره فيقول "كان يمكن للحكاية أن تنتهي هنا، وينسى هابيل أبيض، أصله وفصله... لكن القدر كان له رأي آخر. بعد عشر سنوات على المذبحة وبعد الهزيمة العثمانية في الحرب...". [14]

أما الحوار فقد كان له دور بارز في المشهد الروائي، جعلنا نشعر وكأننا نعيش زمن الوقائع وكأن القص مشهد نصغي إليه وهو يجري في حوار بين شخصين يتخاطبان.

فامتلاك الراوي لتقنياته السردية، مكنه من تكسير الزمن، وإعطائه بعداً خاصاً هدف إلى توليد دلالة الالتباس بالمعرفة، التي تخص حقيقة المرجعي، خاصة وأن السرد نهض على مستوى الذاكرة، لا على مستوى تاريخيته وواقعيته.


[1انظر، العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي، بيروت، دار الفارابي، 1990، ص74. وانظر، الحمداني، حميد: بنية النص السردي/ ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000، ص73.

[2انظر، كامل سـماحة، فريال: رسم الشخصية في روايات حنه مينة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ص8.

[3انظر، مندلاو، أ.أ: الزمن والرواية، ت: بكر عباس، بيروت، دار صادر، 1997، ص75.

[4انظر، أبو هواش، سامر: "إلياس خوري وأسئلة الكتابة الروائية" حوار، بيروت، الطريق، عدد1، سنة 60، 2001، ص149.

[5انظر، يقطين، سعيد: تحليل الخطاب الروائي "الزمن - السرد - التبئير"، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1979، ص70.

[6انظر، المرجع السابق، ص 70.

[7انظر، بو طيب، عبد العالي: إشكالية الزمن في النص السردي، القاهرة، فصول، مج 2، عدد2، 1993، ص133.

[8انظر، الحمداني، حميد: بنية النص السردي، ص73.

[9انظر، خوري، إلياس: يالو، ط1، بيروت، دار الآداب، 2002، ص11.

[10انظر، المصدر السابق، ص231.

[11انظر، المصدر السابق، ص 93.

[12انظر، العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي، ص82. وانظر، الحمداني، حميد: بنية النص السردي، ص76.

[13انظر، خوري، إلياس: يالو، ص181-182.

[14انظر، المصدر السابق، ص 354.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى