الأربعاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
قراءة في ديوان
بقلم زاهر حنني

الشاعر هشام خطاطبة «آتٍ مع الفجر»

الشعرُ أمرٌ لا نستطيعُ أن نسيّرهُ وفقَ مشيئتِنا في كلِّ وقتٍ وحين، إنه الرغبةُ الجامحةُ في الأشياءِ دون استئذانٍ، قد يكونُ الأمرُ ملحّاً، لكنّنا لا نستطيعُ أن نعبّرَ عنهُ متى نشاءُ أو كيفما نشاءُ، لذا فإنهُ سلطانٌ علينا ولسنا سلاطينَ عليه، وحينَ يكتبُ الشاعرُ نصَّهُ فإنَّهُ يلقي عليهِ نفسَهُ، سواءً أكان في رخاءٍ أم في ضيقٍ، ويستمدُّ مدادَهُ من روحِهِ ليكونَ بلونِ دمِهِ.

هل نستطيع أن نحاكم هذه القصائد؟

أجلسُ الآن على مكتبي المريحِ، وأكتبُ على حاسوبي المحمولِ، في أجواءَ هادئةٍ، لديَّ كلُّ ما أحتاجُ إليه؛ فغرفةُ المكتبِ مكيفةٌ، وقهوتي جاهزةٌ، والشايُ يأتي إليَّ إن احتجتُهُ من وقتٍ لآخر، وعلبةُ سجائري المفضّلةِ تحت إمرتي، و... أكتبُ مقالةً نقديةً عن شعرٍ قيلَ في زنازينِ القمعِ الصهيونيةِ التي عاينتُها وعشتُ فيها وأعرفُها جيداً، أكتبُ نقدا لقصائدَ شعريةٍ صودرتْ غيرَ مرةٍ فأعيدتْ كتابتُها، قصائد شعرية ذاقتْ مرارةَ الأسرِ وتنقلتْ من زنزانةٍ لزنزانةٍ عبرَ (كبسولات) أعرفُها جيداً وأعرفُ كيفَ تتنقلُ، قصائد ردتْ على سوطِ الجلادِ بهذا الصوتِ، قصائد كان أحرى بها أن تكونَ جنائزيةً، لكنها كانتْ عقائديةً، قصائد عَبَرَتْ خطَ النارِ ولم تحترقْ، قصائد كَبَّلَها الفولاذُ فانكسرَ، خاضتْ حربَ الأمعاءِ الخاويةِ وانتصرتْ، خاضتْ معاركَ التحقيقِ غيرِ المتكافئةِ وانتصرتْ، التهمها (الحوتُ) ولم يتمكن من هضمِها، فخاضتْ عبابَ البحرِ المتلاطمِ وخرجتْ منه جافةً، وقف أمامها (أيوبُ) باحترامٍ وتقديرٍ، ألقوها في غيابةِ الجبِّ بعدما رأتْ أحدَ عشرَ كوكباً فخرّتْ لها الشمسُ وخرَّ لها القمرُ ساجدَيْن، هذه القصائد التي كتبت بنسغ الجراح وآلام الأنبياء أعلنتْ دونَ مواربةٍ أنّها منا ولنا؛ فلسطينيةٌ حتى النخاعِ، عربيةٌ حدَّ فواصلِ القهرِ الممنهجةِ، لا تتراجعُ ولا تستسلمُ، إنها تسيرُ وفقَ بوصلةٍ عقائدية، فيها كل مظاهر الانتماء.

فكيفَ لي أن أحاكمَها أو أحاسبَها على هفوةٍ عروضيةٍ أو زلةٍ في الوزنِ أو في القافيةِ، أو على رسمِ صورةٍ لم تكتملْ ملامحُها، أو إيداعِ معنى مباشر! ليس ذلك من حقي، بل ليس ذلك من حقنا! شعرُ المعتقلاتِ في فلسطينَ شعرٌ له خصوصيةٌ ما زالتْ قائمةً وستظلُ كذلك.

في رحاب رؤى هذه القصائد

الرؤية الوطنية والقومية:

ما زلت أعتقد أن الفصل بين الرؤيتين الوطنية والقومية ليس بالأمر اليسير، بل إنهما مرتبطتان معا بالرؤية الإنسانية على نحو من الأنحاء. ومع ذلك تبقى الوطنية حب الوطن والقومية حب القوم (كما يقول ساطع الحصري –رائد القومية العربية-)، والبعد القومي يبدأ من الوطني والوطني يبدأ من أصغر وحدة اجتماعية، ولا يمكن أن يكون الإنساني إنسانيا دون أن يبدأ بالدائرة الأولى، فهي دوائر يفضي أصغرها إلى أكبرها.

هشام خطاطبة شاعر أعرفه، وأعرف حبه لوطنه الذي قاده إلى حب قومه، وهذان الحبان هما اللذان يحاربهما الاحتلال الاستيطاني الصهيوني على الأرض الفلسطينية، لذلك أودعه خمسة عشر عاما في أتون غياهب معتقلاته، سيئة السمعة والصيت، كي يتوب عن حبه، إلا أنه رد على جلاديه بالقول منذ الزفرات الأولى:

طَوِّق يديَّ بالحَديدِ واللظى
.... يا قاتِلي
واجْمَع شتاتَ فكرِكَ المريضِ كلَّه، فلن أَقولَها
لا لن أَقولَ سيدي.. (قصيدة باق على عهدي)

ويمضي مع الركب المسافر في الدرجة المتقدمة من قطار الحب المتألق برؤية واضحة، ليس فيها غموض ولا تعمية، إلى أن يقول في قصيدة ابنة الهكسوس:

حييتِ يا جميلَتي ..
يا نابلس ..

ولم أدر سر افتخاره (بالهكسوس) ونسبة نابلس إليهم، حتى قرأت قصيدته بغداد لأعرف أنه يمر على التاريخ؛ لأنه - أي التاريخ- جزء من تكوين أية أمة لها جذور عميقة، وليست لقيطة، لها تجربة إنسانية مرت عليها القوافل وبقيت ملتصقة بالأرض التي وجدت عليها وارتبطت بها ارتباطا عقائديا، إذ هو يؤكد ذلك في قصيدته بغداد بالقول:

موتوا..! في نظري بغداد هي الأجمل
من كل مدائن هذي الدنيا
كالقُدس عبير تنسمنا
مجدا وفخارا تمنحنا
وأبو نوّاس هو الأزهى...

فها هو يربط بين أكثر مدينتين محببتين إلى قلبه، وهما مدينتان متأصلتان في ضمائر العرب جميعا ويمثلان رؤية قومية، إذ ما فتئ الشاعر يفرغ من نابلس حتى وقف على قمة هي القدس وبغداد معا، ويعمق هذا الإحساس التاريخي بتذكيرنا بأبي نواس بوصفه رمزا من رموز تاريخ بغداد الكثيرة. وعندما يربط هذا كله بما ينبغي أن يكون، فإنه يصرخ من خلف القضبان:

فبلاد العرب قد أنّت طويلا
والثرى تاق لمن ينهي الأنين

هذا هو الوجع الذي يعني ارتباط الشاعر بقومه ووطنه وقضيته، بكل أبعادها، وإذا كان علينا أن نقول المزيد فيكفي أن نشير إلى قصيدته (أنا أهواك) التي فيها يؤكد ارتباطه العقائدي بفكره القومي العربي، إذ يقول:

لنا بعثٌ..
يعلمنا ..
يربينا ..
يسلحنا بفكرٍ يعشق العلما ..
يقوينا برحلتنا..
ويدفعنا لوحدة أمة العرب ..
وحب الشعب والأرض..

فقد جمع الشاعر عناصر الفكر العربي القومي التقدمي في البعث والعلم والتربية والفكر والقوة والوحدة والأرض وتاريخها، ولم يرمز لذلك رمزا ولا غموضا، بل قالها صراحة واضحة دون مواربة.

الصراع مع العدو وإدارات المعتقلات:

لم يكن وصف الصراع مع العدو الصهيوني والحديث عن إدارات المعتقلات الصهيونية سيئة السمعة، همّا يود الشاعر الحديث عنه من أجل الحديث عن العدو، ولكن الأسرى الفلسطينيين مرغمون على التعاطي مع هذا الجلاد السجان، وهم بوصفهم لحياتهم اليومية يكون العدو جزءا من هذا الوصف، فكيف وصف خطاطبة هذا العدو؟

لنقرأ من قصيدة بعنوان (ارفع جبينك يا أسير) التي يمكن الحديث عن بدايتها اللافتة؛ إذ هي تبدأ بداية تبين طبيعة علاقة الأسير بحبيبته الأرض التي من أجلها يضحي بشبابه وصباه، ومن أجل هذا العشق يزج به العدو في المعتقل، فصفة العدو الأولى هي أنه يباعد بين الأحبة؛ الأسير وحبيبته الأرض، الأمر الذي يخلق حالة من الكراهية والحقد بين الأسير وعدوه، لأنه ليس من حق أحد أن يحرم حبيبا من حبيبته، أو أن يمنع حبيبا أن يحب على هواه، يقول:

لحبيبتي حلُمٌ جميلٌ كالسكون ..
ومطامحٌ ما مسَّها فعلٌ حقيرٌ أو مجون..
ولها جمالٌ رائعٌ ..
عبثاً يشوهُه حَقودٌ أو خؤون..
هي طفلةٌ .. وقصيدةٌ ..
صَدحت بها كل الحناجر في شجون ..
وبها تغنى كلُّ حرٍّ في المنافي مثلما ..
غنى لها الأحرار في كل السجون..

ثم ينتقل إلى بيان الصفة الثانية لهذا السجان الحاقد السادي والنازي الذي يتلذذ على عذابات الأسرى، فيقول:

والقيدُ من جسدي تغذى في السجون..
والآن تأتي كي تباعدَ بيننا يا قاتلي ..
متعطشا .. لدمائنا
وتمارس التقتيل فينا

الثالثة هي أن هذا الحاقد الفاشي مهزوم منذ البداية لأنه يقف أمام إرادة المناضل الفلسطيني العنيد الصلب الذي يدافع عن قضية، لا عن رغبة مارقة:

فاليوم يومك يا (عَمير) لنا بدا
فاحملْ غرورَك وانزوِ ..
عن دربنا ..
فحظوظُ وهمِك في النجاح عديمةٌ..
ومصيرُ نهجك مالهُ ..
في عُرْفنا ..
إلا انهزاماً حاصداً ..
فشلاً ذريعاً لا ظنون

وآنذاك تتبدى حقيقة وهي أن الأسير منتصر مهما طال الزمن، فهو يمتلك سلاحا أقوى من كل آلات البطش الغاشمة والهمجية، وهذا السلاح هو سلاح الأمعاء الخاوية، يقول الشاعر:

ولجوعنا .. ركع المكابر (شاحلا) ..
(وعمير) شارف موتُه أن يبلغا ..
وبموته .. يغدو لنا حق الحياة
ومن أقاصي الجرح يبزغ فجرنا

فهمُّ الأسير هو أن يحيا حياة إنسانية سوية، وهمُّ العدو هو أن يسلب هذا الإنسان إنسانيته، وهذا هو الفرق الأساس بينهما.

3-رثاء الشهيد صدام حسين:

يحق لنا أن نفرد عنوانا خاصا لشهيد الأمة المجاهد القائد صدام حسين، كما حُق للشاعر أن يفرد له قصيدة عبر فيها عن حبه لهذا الرجل العظيم، الذي عاش بطلا واستشهد صلبا ما انحنى إلا لله، وصدام حسين في رؤية الشاعر ورأيه، القائد الأول الذي كان يرنو للشهادة، فعمل من أجلها، فاستحقها، فنالها:

الله أكبر والشهيد أبو عدي..
المجد يركع للشهيد وينحني..
الله أكبر والشهادة نالها ..
بطلاً,عفيف النفس, لم يخش المحن..

هو الذي أعطى جميع نماذج الوفاء والبطولة منذ أن كان فتيا صارع الظالمين ووعد أن يظل مجاهدا من أجل أمة تستحق أن يولد فيها بطل مثله، يناضل من أجل كرامتها ورفعة شأنها، فيخلف أسدين مغوارين وحفيدا صبيا مقاتلا ورث الشهامة عن جده المجاهد الأكبر:

ومضى يشيد بكبرياءٍ للبطولة منزلاً..
ليكون للأجيال رمزاً خالدا..
وللمبادئ ملهماً ومعلما ..
اعطى البطولة حقها ..من صلبه ..
ليثان أردفهم حفيداً مصطفى

وهذا الرجل المناضل الوفي لأمته والذي أفنى حياته متفانيا من أجل كرامتها، خسرته هذه الأمة فبكته لأنها كانت تريد من عمر بطولته أن يكون أطول من حبل المشنقة، وكانت تريد منه أن يخلصها من عمائم القتل والظلام، فبكته النساء والرجل,و...و...:

صدامُ يا بطلاً,
يردد اسمه أطفالنا..وشيوخنا..
صدًام يا جبلاً بكته نساؤنا..وبكته أمٌ أنجبت..
هذا الشهيد وتيك أمٌ أكبرته كأبنها..
صدام تبكيك الحرائر كلهن ..
لفراقه أنًت طويلاً امةٌ..

ولم يشهد التاريخ موقفا أكثر جرأة وبطولة وإقداما من موقف سيد شهداء العصر، صدام حسين، عندما اعتلى منصة المشنقة؛ ليودع أمته ويكتب بروحه الطاهرة درسا جديدا في البطولة، دون أن يدري أن الكاميرات تصور ملامح هذه البطولة، لتبقى درسا خالدا في الشجاعة والوفاء والإقدام، والعقيدة سيدة الموقف (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله):

صدام قد نطق الشهادة قائلاً..
الله ربي والنبي محمد..
صدام قد نطق الشهادة واعتلى ..
حراً ابياً، شامخاً..
درج المنون بانفةٍ..
وبعزةٍ..قهرت سفيه الأدعياء الأرذلِ..
وبموقفٍ..يبقى مهولاً خالداً..

ولو كان صدام غير هذا لما قضى شهيدا، يشهد شهادته كل من في السماء والأرض.

4- قبل الختام:

وقبل أن أغادر الكلام أو قبل الختام، لا بد من تسجيل مجموعة من الملحوظات؛ حتى نكون قد قلنا ما للشاعر وما عليه، على الرغم من أن الكلام على الكلام ليس له ختام:
ليس من حق النقاد أن يحاكموا قصائد المعتقلات لأنها قيلت في ظروف خاصة تستوجب وقفة خاصة، وينبغي أن ينظر فيها في إطار ظروفها الخاصة.

ب-هشام خطاطبة شاعر استطاع أن يعبر عن اللحظات الحاسمة بشاعرية تصاعدت وتيرة قدرتها على التعبير شيئا فشيئا حتى غدت شاعرة بجدارة واستحقاق.

ج-تفاوت المستوى الفني في قصائد الشاعر، وكان يمكنه أن يعيد النظر في تلك القصائد التي قالها في الأسر، إلا أنه لم يفعل، كي تظل معبرة عن لحظاتها الحقيقية في أتون زنازين الحقد الصهيونية. فقصائده التي كتبها خارج الأسر مختلفة في مستوياتها الفنية ومعبرة عما هو خارج الأسر.

د-تعددت أغراض قصائد الديوان لكنها بقيت تدور في محيطها العام وهو المحيط الذي حدده الشاعر لنفسه، وهو دائرة الوطن وهمومه.

ه-لا بد من الإشادة بروح الفنان الفلسطيني يونس جمال حافظ ياسين، الذي أبدع اللوحات الفنية المعبرة عن روح الشاعر وقصائده، حتى لتحس أنه عاش مع الشاعر لحظات القصائد لحظة لحظة.

و-لم ينج الشاعر من بعض الهفوات، وأذكر ذلك ليس لأحاكم القصائد، بل من أجل أن يكون الشاعر في ديوانه القادم أفضل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى