الجمعة ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم هيثم نافل والي

الصعود إلى الهاوية

هل يمكن للدموع أن تفسد علينا السعادة؟، أو نكتب بها الأمنيات؟... الإيمان يعني الروح، الأخيرة هجرت الجسد؛ لم يبق غير الهيكل، وبما أن الهيكل تولى شأنه العلم، فهو هالكٌ لا محالة؛ والمثل الإنجليزي يقول: "مائة أرنب لا تصنع حصانًا"

 تنويه:

ليست قصتي أفقًا مشنوقًا في السماء، بل هي واقع كحقيقة الوجود، خاصةً عندما تتحول الدموع إلى سيولٍ من الرغبات المطوقة التي تتوق للتحرر من قمقمها، رغبات لا حدود لها ولا أظن أن هناك من يستطيع صدّها أو تحجيمها غير يد الله... كما لا يحق لي أن أتجرَّأ وأقول بأن البطل في حكايتنا هذه عاقٌ ناكرٌ للجميل؛ على العكس، عُرف عنه بأنه رقيق الشعور مرهف الإحساس نقي الضمير وأسرع ما فيه انسكاب دموعه... لكنه تغير، واختلفت طباعه وميوله وعاداته كاختلاف المدِّ عن الجزر بحكم ما سنقصُّه عليكم ونرويه.

أغلق يوسف الرشيق الأنيق مشتت الفكر بعصبية واضحة سماعة الهاتف وهو يطلق تنهيدة عميقة كأنها خارجة من بين أضلاعه:

 اللعنة.. المسائل الصعبة والمعقدة هي التي يجب أن تُعالج وتُحسب بدقة، وإلا فقدنا السيطرة على أنفسنا وعليها!... لماذا لا تريد أمي أن تتركني وشأني حتى وأنا في هذا العمر؟ متزوج ولي أولاد في سنِّ الزواج! كل يوم تتصل وتسأل الأسئلة ذاتها دون أن تملَّ أو تكلَّ: كيف صحتك؟ ما أخبار عملك؟ ماذا فعلت اليوم؟ ماذا عن أولادك؟ هل هم بخير؟ أصدقني القول، هل عاملت زوجتك بالحسنى كما نصحتك؟ يا بني، زوجتك تستاهل كل الخير، أعتني بها كما تعتني بعينيك، آه.. كدت أنسى، متى تزورني بصحبة عائلتك؟ لا تتأخر عليَّ، أكاد أفقد أعصابي من جراء وحدتي وعزلتي؛ أنت تعرف ما أعني، الغربة حولتني من إنسان ناطق إلى حجر صامت كحجر التماثيل...

انتبه يوسف الذي يعيش الغربة القسرية على نفسه، صاح متعتعًا خارجًا عن طوره البارد وهو ينظر بقسوة تفوق قناعته الشخصية إلى شاشة موبايله الذي امتلأ بالرسائل الإلكترونية خلال مكالمة أمه له بعد أن انقلب ضجره المكبوت إلى غضب مجروح لا يخلو من ذعر:
 متى ينتهي هذا العذاب؟ هي لا تريد أن تعتقني؟ كل ساعة تتصل كأن لا شغل لها غيري!.

يوسف شابٌ متعلم؛ نحيف، طويل وهادئ، ذو وجهٍ لا يملك علامة فارقه مميزة غير عينيه اللوزيتين الصغيرتين كعينيِّ صبي صيني، استهوى المنتجات العلمية وسلعها القاهرة السريعة الجميلة المتطورة التي تضاهي كل مُتع العالم قبل عقد من الزمان مجتمعة؛ وبالتعود، أدمن عليها، وها هو نجده الآن ينظر إلى الرسائل مشدوهًا، يدعو ربه بسره وأصابعه ترتجف تحط وتطير حول الكلمات التي يدونها بلُبٍّ شارد ألا تعاود أمه وتطلبه مجددًا... ينصبب العرق من جبينه فصوصًا؛ عيناه تتلصصان، لا تنحرفان عن شاشة الموبايل قيد أنملة... يقرأ، يرد، يضحك، يلعن، يمسح، يهتز من مكانه، يرتعش... يفعل كل ذلك كالمصدوم في آنٍ واحد بالعادة التي دخلت حياته أخيرًا دون وعي كامل...

صرخ بخبل مجددًا:

 لماذا لا يريدون أن يتركوني وشأني؟

يخطف نظرة ملتهبة إلى شاشة الكومبيوتر الذي أمامه، صفحته في الفيسبوك مفتوحة، أصدقاء، أعداء، محاربون، منافقون، مغرضون، محبون، وخليط عجيب... قهقهة برعدة متفجرة مكهربة بلا سبب وجيه واضح وهو يوجِّه أصابعه نحو أزرار آلة كاتبة (كيبورد) الكومبيوتر لكتابة شيء ما بطريقة آلية ميكانيكية مؤلمة...

حوَّل بصره إلى حيث طالبي الصداقة، وجد سبعة أشخاص يطلبون لا يعرف ماذا، هل صداقته أم عداوته، أشكال وأنواع وجنسيات وقوميات مزروعة ومنتشرة في كل ركن تطلب قضاء الوقت، وربما التواصل اللا اجتماعي، هو لا يلحق على كل هؤلاء... ثرثر بكلمات مبهمة لا خاطر مشترك يربطها...

رنَّ جرس الهاتف مجددًا؛ كانت هذه المرة أخته على الخط، تعيش في الضفة الأخرى من العالم، من الجهة التي تشرق منها الشمس، هو لم يرها منذ أكثر من ربع قرن، أحيانًا ينسى بأن له أختًا مازالت على قيد الحياة!.

نادته زوجته سناء بلهجة تعبِّر عن شفقة أكثر من كونها حُب تسعى إليه كأنها تستجديه:

 أختك على الخط تريدُ محادثتك لأمرٍ مهم.

لم يلتفت إليها؛ كان يقرأ متابعًا ويرد على ما يجود به الكومبيوتر والموبايل... خفيض الصوت مثل طبعه كلصٍّ يمشي على أطراف أصابعه نظر لها نظرة كالومضة مختلسة ملغزة كغارق في الإثم والخطيئة، وعاد منهمكًا بما كان ملتهيًا به وهو يطلق كلماته صليًا على دفعة واحدة مرتعدًا مرتعشًا بشكل آلي:
 قولي لها: مشغول، لديه عمل مهم عليه إتمامه، سأتصل بها لاحقًا، أعدها بذلك، بل أقسم بصاحب العظمة والجلالة بأنني سأكلمها فيما بعد، لكن، ليس الآن...

ثم أضاف وأصابعه كملاقط رفيعة صغيرة تتحرك بسرعة جهنمية قاسية:
 تحدثي أنتِ معها حتى أفرغ من مشاغلي!.

تبتعد عنه، تستغفر ربها، ترجع تجرٌّ أذيال الخيبة وراءها، تهمس لأخته بصوت مخنوق تسألها عن أوضاعها التي خرَّبها الإنسان والزمان، تنادي أولادها وتحثهم على المجيء للتحدث مع عمتهم، لا أحد يلبي طلبها، لا صدى منهم يصلها، تستمر بالحديث متأثرة بالحال والتغير الذي طرأ على أسرتها، تنتهي من مكالمتها، تتحسر، تصفق بيديها والحزن ينخر قلبها...
تقترب من زوجها كأنها تنوي الاعتذار:
 أنا بحاجة للتحدث معك.

مختلج الشفتين بصوتٍ واهنٍ أرهقه الجفاف:
 عن أي شيء؟... وهو منهمك بالكتابة على كاتبة كومبيوتره وعينيه بين فينه وأخرى تزوغان وتسرقان النظر من شاشة الموبايل.

 عرفت منها بأن ابن أخيك في المستشفى وعلينا زيارته؛ الواجب يحتِّم فعل ذلك.

قاطعها بحدة غير متوقعة كالمصعوق:
 أي واجب هذا الذي تتحدثين عنه؟

تابع بريقه الناشف:
 لا وقت لدي لهذه المجاملات!؛ هم يعرفون الظروف وسوف يقدِّرون!؛ سيغفرون لنا ذلك، أنا متأكد مما أقول، أخي رجل حكيم وسيفهم، هو يعيش الغربة مثلنا ويعرف هكذا مسائل!، لسعته الغربة قبل أن تلسعنا، لا تقلقي أنت، دعيها على الله، ستحل كل مشاكلنا بإذن منه.

تدخلت حاسمة النقاش:
 اتصل بهم على أقل تقدير.

طائش اللُبِّ:
 سيحصل.

باغتته كالسهم الذي لا يخطئ هدفه:
 هل تحبني يا يوسف؟

لم يرفع رأسه إليها، كان يقرأ ويكتب ويهتز كلهب المشعل وهو يتحدث بتركيز ضعيف:
 طبعًا...

ثم صاح لاعنًا بلا وعي:
 لماذا يضايقني برده هذا الأجرب؟ لا أعرفه ومع ذلك ينافسني، لا أعرف على ماذا؟

انتبه لحظة على واقعه، وجد زوجته واقفة بجانبه تنتظر جوابه، نبر مضيفًا:

 أقصد، هل تشكين في حبي لكِ بعد كل هذا العمر الذي قضيناه معًا؟...
أصابعه مازالت تتحرك معقوفة ومنبسطة كأفاعي حُرَّة سائبة تحاول أن تندس في كومة قش.

 كلامك لا يوحي لي بأي شعور بالاطمئنان كأنه صادر من ظهرك!.

 هي..هي..هي.. فنانة بلا شك، تعرفين كيف تتلاعبين بالألفاظ...

تابع بوجه ممصوص علاه الشحوب كشحوب عانس أصابتها نوبه هستيرية لتوها:
 أنتِ تعرفين كم أحبك فلماذا تسألينني؟...
قهقه.. ناح من بين أسنانه:
 أخزاكِ الشيطان يا سناء، رومانسية كما عهدتك..

بجدية صارمة متقبله منه سقطاته الكلامية:
 هذا لا يكفي، أريدك أن تشاركني حياتي، ألا تتركني دائمًا لوحدي، لا صديقات لي، بدأت أتحدث مع نفسي كالمجنونة ويستطيع من يرغب بمعرفتي أن يعاشرني فيغفر لي سعادتي!... أولادنا لا شغل لهم غير هذه الأجهزة اللعينة التي تستعملها أنت والتي أخذتك مني كما ابتلعتْ أولادنا من قبل، لم يعودوا يمارسوا الرياضة كما في السابق، أصدقاؤهم باتوا معدودين على عدد الأصابع أو أقل، خروجهم من البيت بات من الأمور المستحيلة، اعتكافهم، عزوفهم، انطوائهم وعزلتهم أصبحت مرضية لا يمكن السكوت عليها، لا يتسامرون مع بعضهم، لا يجلسون معنا، كل شخص يعيش لنفسه، يقيم مع ذاته، لم نعد نراهم تقريبًا إلا في المناسبات، غادرتنا الكلمة ثم تبعتها الابتسامة، أشعر بأننا أغراب عن بعضنا رغم قربنا!...

قاطعها نابصًا:

 حماكِ الله ورعاكِ، اختصري، لا وقت عندي، قولي، ما المطلوب مني بالضبط؟

 هى.. مازلت لا تعرف؟

أضافت متدفقة:

 تصرفك يذكرني بشخص يعيش بما يمنه الله عليه؛ لقد أصبحنا نعيش في عزلة شبه تامة كسجناء في زنزانة، لا نَزور ولا نُزار والبركة بالعلم.

 لماذا لا تقولين البركة بالدين بعد أن أفلس وبالتالي تراجعت القيم والمبادئ وانحسرت الأخلاق، وكلما صار هذا، تقدم العلم موازيًا في طريق آخر تمامًا كما لا يخفى.
أصابعه لم تتوقف، كانت تشتغل، تتحرك بسرعة رهيبة تفوق الوصف.

بخيبة أمل فادحة:

 وما دخل الدين في قضيتنا؟...

أردفت مباشرةً دون أن تلتقط أنفاسها مأخوذة:
 من يعتنق مبادئ الحرية لا يكون بالضرورة ملحدًا، أنا أتحدث عن العلاقات الإنسانية التي لا يمكن للإنسان أن يحيا بدونها، أريدك أن تبتعد عن هذه الأجهزة المدمِّرة التي لا تعرف الرحمة ولا خالقها، أن تذهب وتجبر أولادك كي يمتثلوا أمامنا، نسألهم عما يحتاجونه، نعرف عنهم أحلامهم وبما يفكرون...

قاطعها مجددًا ضاحكًا:

 ها.. ها.. ها.. من سابع المستحيلات طبعًا!؛ كيف تجرؤين وتطلبين مني طلبًا كهذا؟ هل تقدرين أنتِ على إقناعهم بالنزول والمثول أمامنا؟ من يقدر على إجبار الأولاد في أيامنا هذه؟ لو طلبتِ مني أن أحضر لك قطعة من السماء ربما استطعت فعل ذلك، العلم سيساعدني، لكن أن أجعل الأولاد يستمعون لصوت المنطق والحكمة، كلا، لن أقدر...

وهو يرتعش أضاف:

 باختصار، الإيمان الحقيقي بدأ يذوب، يتسامى ويحل محله شك وأسئلة وأجوبة وتجارب ونجاحات لا عدّ لها ولا حصر وكل هذا يدر عليهم بالمال.. مال كثير، مال يغرق الأرض وما عليها.. هذه ليست مشكلتي وحدي، بل مشكلة العصر، أعتذر منك يا حبيبتي.

 حبيبتك؟ هه.. حياتنا يا يوسف ليست حياة، أنها مسخ مشوه من بقايا متنافرة، متناثرة، متناقضة لا حياة فيها والمخطئ كما تعلم لا يمكن إصلاحه بالموعظة فقط؛ سيستهلك الإنسان طاقته الإبداعية بسرعة جنونية رهيبة لا يتوقعها حتى خالقو هذا العلم وأجهزته الشيطانية ثم يهوى إلى التهلكة...

أنهت لوعتها بأسئلة نازفة بالمرارة وهي ترشقه بنظرة مشتعلة:
 يخال لي بأن التطور الذي يحدث اليوم في العالم كالقتل العشوائي سببه اليأس والسأم... ترى من هو المذنب هنا؟ العلم، أم الدين، أم الإنسان نفسه؟... هل هذا هو ما يسمى بالصعود نحو الهاوية؟...

تقلصت عضلات وجهها، ارتجفت شفتاها، اِحمرَّ وجهها، تابعت بمشقة:

 أظن بأن الشعور الديني المتراجع وما يترتب عليه من ضعف ووهن في العاطفة الدينية الحقيقية فسح المجال للعلم بأن يظهر بقوة عارضًا نفسه على الإنسان بعد أن فهم ضعف الأخير تجاه المغريات المادية التي من السهولة جدًا الإدمان عليها ما أن يقربها ويستمر في تعاطيها حتى يذبل، وقبل أن يهلك يفقد ذاكرته فيرحل عن الحياة في الحياة قبل أوانه، يتفتت إلى أجزاء ثم يختفي دون أن يترك أي معنى من وجوده كجثة تنتظر ساعة دفنها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى