الخميس ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

الضفة الأخرى

ألقى عليها تحية الوداع راجيا من صميمه أن يتجدد لقاؤهما المتهدج الأنفاس، الزكي الرائحة. كل خميس تجمعهما في جوفها تلك الشقة المطلة بوجهها الأرجواني على ازرقاق البحر، وعلى زمرة من القوارب المبثوثة هنا وهناك كنجوم مغمورة بسحر التألق، وتغمز من عل.

من النافذة المفتوحة الدفتين يتنشق موجات هوائية رطبة، باردة، تتغلغل في يقين وخفر إلى صندوق قلبه المحكم فتوقظه من ركوده البائس، وتنضو عنه تلك الغلالة القاتمة من الكآبة الأزلية التي استوطنته.

ينصاع لذكرياته الصاخبة، المبهمة كما تنصاع النعجة الأليفة للذبح، يغوص غوصا غير مألوف منقبا عن نفسه التي علاها العطب، وتاهت كزورق رمادي صغير حطمته رعونة الأمواج الزاحفة.

زخات من الحزن الموجع تتقاطر بلا استئذان على شباك قلبه الراعش مؤلفة سمفونية غامضة ألحانها، مبتور أريجها، وتدمن إدمانا لا عقلانيا على التوغل في أوردة المجهول.

ما أعسر تلك اللحظات الحدادية اليائسة التي تنتابه كنوبات قلبية حادة، قاتلة! وما أصعب أن يظل على حالته تلك يمضغ فتات معاناته، ويتوسد خيبات آماله وهزائمه!

متى تنطلق من حنجرته صرخة التحدي مدوية عاليا وهي تمزق شرنقة الصمت، ناسفة كل ما هو ظلم، واستبداد، وقبح؟

مياه الصمت الثلجية تغسله من فوق إلى تحت، يتكمش لا إراديا انكماشة القط المريب، قوة هائلة لا علم له بها تخرس لسانه، وتشتت أحلامه المزروعة في خياله الخصيب كتشتت دمعات الثكالى والحيارى.

تقف أمامه وجها لوجه لتزعزع قلعة مشاعره، تسأله ساخطة، متذمرة: أين كنت حتى هذه الساعة؟ ومع من كنت؟ وماذا كنت تفعل حينها؟

يتهرب من أمامها حفاظا على هدوء أعصابه، يدفن وجهه الأسمر في صفحات الجريدة، ويتشاغل عنها بالقراءة الجادة، تصيح كالليث الهائج الذي يستبيح الدم: أنت رجل جبان، متخاذل، لا تصلح لشيء.

إنها تطعنه بطعناتها المسمومة في صميم رجولته، وشخصيته، وكرامته.

تضج صارخة من جديد: إنك أتفه وأحقر رجل عرفته في حياتي.

ينتفض من مكانه حانقا، ويرفع يده إلى فوق لينهال عليها ضربا، ولكنه سرعان ما يستشعر ضعفا طاغيا، ويترك يده تنزل في فتور، ثم ينصرف مطأطئ الرأس دون أن تتحرك شفتاه بكلمة.

تهيج كالثور، تضطرب كالبحر الغاضب، وتزأر كالرعد: واجهني أيها الجبان الحقير، ما أنت إلا جرثومة تسممني.

ينكفئ على سريره باكيا كطفل معاق، ويضرب الضيق ألف سياج سميك حول قلبه المتعب، يزفر بعمق عساه يطرد أشباح الهموم الرابضة فوق صدره.

قيل له: زوجتك تنتهز فرصة غيابك، وتذهب في فترات متقاربة إلى ساحرة معروفة في بلدتك لتجلب لك السم، عليك بالحيطة والحذر.

أخيرا قرر أن يعبر للضفة الأخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى