الأربعاء ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
قـصـة قصـيرة
بقلم عبد الجواد خفاجي

الظـــــلام

أدركت فى لحظة ما أننى قادم من الظلام ، وأننى هكذا منذ فترة ـ لم أكن معنيًّا بها ـ أسير إلى الأمام ، ولأننى لم أكُ أرى شيئًا فى الظلام الكثيف الذى يعم الوجود حولى ؛ لم أكن بالتالى أستطيع تحديد الجهات تمامًا ن بَيْدَ أن الأمام كان يعنى بالنسبة لى الاتجاه المجهول الذى تحدده رجلى اليمنى عندما تكون اليسرى ثابتة ، أو العكس تمامًا .
هل كان الظلام سيِّدًا علىَّ ، أم كنت وحدى سيد هذا الظلام ؟ .. لست أدرى .. لم يكن الرأس معنيًّا بأسئلة أو إجابات .. رجلاى أيضًا لم يكن يعيقهما شىء .. لا اصطدام .. لا تعثُّر .. لا ارتطام .. لا انزلاق .. لا .. لا .. فيما ظننت أننى سابح فى الظلام .، وأن حركة رجلىَّ هاتين ، تلك التى أحس بها ليست إلا وهمًا كبيرًا أتوهمه .

ما الذى ساعدنى على تحديد اللحظة تمامًا غير ما حدث فجأة ، عندما انعطفت ـ لا إراديًّا ـ ناحية اليمين ؟ .. وكان الذى رأيته نورًا .. حقيقة لم يكن الأمر خيارًا بين النور والظلام ، مثلما أنه لم يكن خيارًا بين بين التوقف والمسير .
لأمر ما ــ مجهول ـ كنت أسير ، ولأمر ما مجهول أيضًا انعطفت يمينًا ، منسلاً من الظلام الذى كان يملأ الكون كله .. أدركت لحظة أن عنَّ الضوء لى أننى أضع يدىَّ فى جيب بنطالى ، وأننى أضع قدمىَّ فى حذاء أبيض ، مثلما أننى أرتدى ثيابًا بيضاء ، وأننى إلى حدٍّ كبير أبدو نظيفًا ، مهندمًا ، صامتًا مطمئن البال .. أتهادى فى الضوء .. شامخًا لأول مرة .. واثق الخطو .. أتأمل المنعطف الجديد .. سعيدًا بحواسى جميعها التى بدأت تعمل حقيقة لا وهمًا .

كان شارعًا عريضًا لامعًا ، تتوزع على جانبيه أعمدة رمادية قصيرة منمنمة ، تنتهى بتيجانٍ مذهبة .. لم أرَ ذرة من تراب ، كما لم أرَ كائنًا ما .. وثمة حاويات قمامة فارغة ، موزعة بعناية ، وطوار على كل جانب ، يحضِّن على ممر رخامى لامع ، تنتظم فيه أشجار داكنة الخضرة ، مقصوصة الأفنان بأشكال هندسية متعددة ، وكانت الأبنية الرخامية الشاهقة تحدُّ الشارع من الجانبين دون أن تدع فرجة ما بينها .. موحدة الارتفاع تقريبًا ، تتوزع على جدرانها نوافذ عريضة ، ذات لون أزرق فاتح ، وثمة أبواب عريضة منمنمة ، وموصدة ، وكان النور الفضىُّ يمتد عبر الشارع من السماء إلى الأرض ، ولم تكن غير نسمة خفيفة تتحرك منحدرة من أعالى الأشجار إلى سفح الشارع ، ثم ترتد منه إلى أعلى مسافرة فى الفراغ .. أىُّ وجود هذا ، وأى ثراء ؟ ! .

سرت إلى أنفى هذه النسمة معبقة بأريج أزهار ملونة تمتد على جانبى الطوار ، وتملكنى شعور رائع بالنشوة ، وتمنيت أن أظل هكذا سائرًا إلى الأبد ، فى هذا الهدوء النائم .. ظلت عيناى تتنقلان بين النوافذ المغلقة ، وقد تصاعدت فى نفسى الرغبة فى رؤية شىء ما خلف النوافذ .. هل ستمتد إحدى الأيادى إلى إحدى النوافذ ؛ فتنفتح الضلفتان ؟ .. كيف الحياة هنالك خلف هذى الحوائط الرخامية ، مع نباتات الظل والهواء المكيف ؟ .. كيف تسترخى الأجساد الناعمة فوق الأسرَّة الوثيرة ، ثم تنهض خفيفة .. تتهادى نحو البانيوهات المعطرة .. تسترخى فيها مستمتعة بلزوجة الرغوة الساخنة ، وتخرج لترتطم نظراتها بالأثاث المطعَّم بالصدف والعاج ، وترتد إلى الستائر المزركشة المسدلة على زجاج ملونٍ تتماوج عليها أضواء خافتة ، ثم تترقرق ناعسة على السجاجيد الزاهية .. كيف يمرق فى هدأة المكان نهدى امرأة شبقة ؟ .. تلقى نظرة سريعة على مائدة للورد والأطعمة .. تلمح الأطباق البيضاء المذهَّبة المرصوصة بعناية فائقة ، ثم تروغ إلى وهدة سانحة مع شاشة تلفاز لا تبث غير الرقص والتسلية ، وثمة ما يستلقى على السرير بجوارها : ديوان شعرٍ لامرأة لم تذق رجلاً .. مذكرات ممثلة منتحرة .. رواية لكافكا .. قطة تموء .. أوراق كوتشينة .. حمَّالة صدر ، وصورة عارية .
كنت هناك اجلس هادئًا إلى مكتبى ، مع فنجان قهوة ساخنة ، ورائحة امرأة صامتة .. عينين للسفر البطىء .. نافذتين تفتحان على الظلام .. قمر وحيد يختفى سريعًا .. ساعة حائط هادئة الدَّقَّات .. فراشة وحيدة تائهة .. بعض أقراص مهدئة .. تابلوهات على الحوائط لبحر ، وتلال خضراء ناعسة ، وبعض نخلات متشابكات خلف البحر، يلامسها شفق الغروب .. طير وحيد يمخر عباب الأفق نحو غيمة تائهة فى السماء ، وامرأة عارية تخرج من البحر تطأ الرمال خفيفة .. تترك خلفها أثرًا لخطو متتابع على وجه الرمال .. مارقة كمشق بهىٍّ ، نحو أحضان رجلٍ يطل بعينيه من كهف بعيد .. سلة قمامة وحيدة فى فراغ اللوحة ، كانت فارغة إلا من كتاب فى السياسة .

وحيدًا أستلقى على السرير .. أزيح الغطاء جانبًا .. أخطو إلى الباب .. أتسمع آخر زغرودة لجرس الباب .. أنظر من العين السحرية .. أراها .. فى عقدها الثانى : وجه صبوح كشمس بعيدة تمخر الظلام إلىَّ .. أفتح الباب .. تدخل جارتى الوحيدة .. تشبك يديها خلف عنقى .. أستدفئ قليلاً بنهديها ، ثم ألثم خدَّها .. تحرر يديها .. تتهادى أمامى .. أتابع النظر إلى زيِّها المزركش ، وردفيها السابحين نحو لذة مرجأة .. تسترخى على إحدى الأرائك .. تسلمنى عينيها .. أبدأ السفر لحظة أن تبدأ فى الكلام .. تقص ما تشاء من حكايات ماضيها .. أبتسم قليلاً .. تفض بعض أحلامها .. أفض بكارة الوقت .. أستدفئ بنهديها قليلاً .. تمضى .. أغلق الباب خلفها .. أكمل الليلة مع الموسيقى الكلاسيك .. أقرأ قصيدة لعاشق قديم .. أحل بعض الغاز الكلمات المتقاطعة .. أشرب الشاى .. أدخن .. أتلقى مكالمات من أشخاص مجهولين .. أطالع بريدى الإلكترونى .. أرد على أشخاص مجهولين يخاطبوننى بود عن أمور لا تخصنى .. أتناول كأسين من خمر ، ثم أنام .
عندما أصحو أفرك عينىَّ وجبهتى .. أتلفت يمنة ويسرة .. ألقى نظرة مجهدة إلى ساعة الحائط ، ثم أزيح الغطاء .. أتمشى نحو الباب .. أسحب الجرائد من تحته .. أعود إلى السرير .. أطالع العناوين البارزة .. أنهض إلى المرآة .. ألقى نظرة إلى وجهى .. ألحظ تورم عينى .. أدخل إلى المطبخ .. أتناول بعض ساندويتشات البيض والجبن والمربى ، ثم أشرب الشاى بالحليب .. أدخل إلى الحمام ، أدير التلفاز ، ثم أسترخى فى البانيو .. تظل عيناى على الشاشة .. أضغط الريموت كنترول .. أتوقف عند قناةٍ مغناجةٍ .. أدلك جسدى ، ثم أخرج إلى الفراش .. تضغط جارتى جرس الباب .. أنهض .. أنظر من ثم أفتح الباب .. تدخل .. تشبك يديها خلف رقبتى .. أُقبِّل شفتها السفلى ، ثم أسحبها إلى السرير .. تدلك لى جسدى .. ترش عليه بعض البودرة .. تفركها على جلدى قبل أن تستأذن فى الذهاب .. أنهض وراءها إلى الباب ، ثم أعود إلى السرير .. ألتقط الجرائد ، وأخرج إلى الصالة .. أرتمى على إحدى الأرائك ، وأتابع القراءة ، قبل أن أنهض إلى مكتبى .. أسجل ما يجول بخاطرى .. أضع الأوراق فى درج مكتبى .. أرفع سماعة التليفون .. أطلب أرقامًا لا أعرف أصحابها .. أتسلى مع امرأة قد تكون على الطرف الآخر .. ربما طلبت رقمًا لامرأة وقحة من الأرقام التى سبق أن سجلتها من شاشة التلفاز .. سيكون صوتها ناعمًا .. وستكون مغناجة بالتأكيد .. ربما كانت وقحة كما ينبغى لها أن تكون .. أمارس معها رغبة الثرثرة ، والحديث غير المألوف فى موضوعات غير مألوفة .. أنهض بعدها لجهاز الكمبيوتر .. أتسمع لامرأة رقيقة تلقى شعرًا .. تهمس كأنفاس الليل .. تأخذنى إلى جزر بعيدة .. تسافر بى على زورق يحوى كثيرًا من المحار والأساطير .. تداعبنا نسمات البحر ، وأمواجه المتكاسلة .. يتهادى الزورق حتى يهدأ على شاطئ مجهول لجزيرة لم نرها من قبل .. نلقى نظرة على أشجار الجوز واللوز والجزورينا .. نتابع الغزلان التى تتنقل تحتها ، قبل أن ننهض من جوف القارب .. هنالك نخطو على الرمال الدافئة ، قبل أن نمرق بين الأغصان المتشابكة .. نستلقى أخيرًا على الحشائش السندسية الخضراء .. ينزاح عن ساقبها الثوب الوردى .. ثم .. نبدأ فى تفاصيل عشقٍ غير مسبوقٍ على هذى الشطوط .

أنهض بعد ذلك إلى المطبخ .. أجهز وجبة دسمة مسبَّكة .. أرشرش كثيرًا من التوابل والفلافل على التقلية .. أغطى قطع اللحم النائم بالبيض المخفوق .. أجهز السَلَطَة .. أتناول الوجبة ، ثم أشرب كأسين من الخمر .. أجلس بعدها فى الشرفة .. أدخن بشراهة ، وأنا انظر إلى السماء الصافية الممتدة عبر المدى .. أعاتبها قليلاً ، ثم أدلف إلى الداخل .. أجلس فى الصالة ، أطالع الشاشة .. أتجنب الحروب الدائرة .. أعود إلى مكتبى مرة أخرى .. أبدأ فى تسجيل خواطرى .. ألقى بالأوراق فى درج مكتبى ، أنهض إلى السرير .. أسترخى حتى تعود جارتى تدق الجرس .

السماء كانت زرقاء صافية ، ولم أكُ أرى شمسًا ولا قمرًا .. لم يكن الوقت واضحًا أبدًا .. وكأن الشارع قد انقرض فجأة أمامى عندما اعترضنى حائط رخامى بعرض الشارع .. مسحته بعينىَّ .. كان فيما بدا حائطًا لمبنى كبير ، يقطع الشارع من الشمال إلى اليمين .. كان شاهقًا ولامعًا .. تتوزع عليه نوافذ خشبية بُنْيَّة عريضة .. تأملتها .. كانت توحى بعظمة القاطنين خلفها ، بَيْدَ أن الصمت المريب كان لا يزال سيِّد المكان ، وكنت لا أزال أبحث عن أثر لحياةٍ ما .. مشيتُ مع الحائط يمينًا .. التقطت عيناى فجأة هيكلاً بشريًّا جالسًا على كرسى بنى لامع فى أقصى اليمين .. مشيت إليه .. راعنى أنه ساكن ، وصامت .. كان يرتدى بذَّةً عسكرية ، وكانت رأسه تستلقى إلى الأمام ، فيما رحت أتأمل القبعة العسكرية على رأسه ، والطيور المعدنية النائمة على كتفيه ، فيما بدأ سؤال يتخبط فى رأسى : ـ هل هذا الجالس على كرسيِّه شرطى بشرىّ من دم ولحم ؟ .. بدا رغم سكونه وحشًا مغوليًا نائمًا ، يكسو الشعر السود النافر المساحة المكشوفة من صدره ، ويديه .. فيما لاحظت أن عينيه تختفيان تمامًا تحت شعر حاجبيه المسدل .. فيما بدا شعر لحيته أثيثًا مرسلاً حتى سُرَّته . . أية هيئة هذه ، وأى شرطى هذا ؟ ! .. كان يعطى قُبُلَه للشارع ، بينما كان ظهره لباب حديدى شاهق وعريض .. يوحى بالعظمة والرهبة فى آنٍ ، وكانت ألوانه داكنة ، مطعَّمة بألوان فضية وذهبية ، فيما لاحظت إحدى ضلفتيه مواربة قليلاً .. اختلست نظرات إلى داخل الباب عبر المساحة الضيقة التى خلَّفتها الضلفة المواربة .. هل أدفعها قليلاً وأدخل ؟ .. سؤال مباغت طرأ فى رأسى ، بينما كانت عيناى موزعتين بين الرجل الجالس على كرسيِّه ، والمساحة الضيقة بين ضلفتى الباب .. هل ألمسه .. أريح يدى على كتفيه .. أهزَّه ببطء ؛ فيستيقظ ، أم أتركه فى نعاسه ، وأدلف إلى ما خلف الباب الكبير ؟ .. اختلست نظرة سريعة أخرى إلى الداخل .. لم أظفر برؤية شىء ما .. ولم يكن من شىء يلوح غير دكنة يتخللها ضوء فى مساحة ضئيلة تتسرب من الشارع إلى الداخل عبر المنفرج الضيق بين الضلفتين .

أى برزخ هذا ؟! .. ارتددت سريعًا خشية أن يلمحنى أحد يكون بالداخل .. سحبت نَفَسًا عميقًا وتركت عينىَّ تروغان فى الفراغ ، واستسلمت لأفكار تمرق سريعة فى رأسى ، وأسئلة حيرى تتبدى : ـ أى منزل هذا ؟ .. ربما هو أهم منزل فى هذا الشارع .. يموج بالغوانى والخدم .. ربما أنه مسكن للرئيس .. مفاعل ذرى .. متحف لهياكل ديناصورية .. بيت راقصة ثرية .. قصر أثرى لواحد من مجرمى التاريخ .. منفى حكومى لواحد من الرؤساء السابقين .. بيت سرى لواحد من الوجهاء ، أو السياسيين الكبار .. مركز وزارى .. بيت لعائلة ثرية لم يبقِ الزمان منها غير عجوز بالداخل .. سأدخله طالما أن هذا الجالس لم يستيقظ بعد .. قد أوقظه لأسأله ؛ فيسألنى .. كيف ستكون الأسئلة .. بماذا سوف أجيب ؟ .. ما الذى أتى بك إلى هنا .. ماذا تريد .. عمن تبحث .. من أنت .. أين هويَّتك .. أوراقك الشخصية ؟؟ .. قد يطلب منى أن أُخْرِج يدى من جيب بنطالى .. ربما طلب منى أن أقف منتصبًا ثابتًا صامتًا على بعد ثلاث أو أربع خطوات .. سأرفع ـ ولا شك ـ رأسى عاليًّا .. أسحب نَفَسًا عميقًا ، ثم أنكسها ثانية إلى الأرض ، وأزفر بشدة .. أعاود النظر إلى وجهه .. تثبت حركة جفنىَّ .. تثبت المقلتان فى محجريهما .. أسحب أنفاسًا هينة .. أخرجها بطيئة .. أرد بصوت ناعم منكسر .. أجيب بصراحة ووضوح وبلا مواربة على أسئلة وقحة جريئة .. قد يبصق على وجهى ، أو فى الهواء الذى أتنفسه .. يسب أمى .. أتابع النظرات المنكسرة إلى الأرض .. أُسْلِمه صدغىَّ الضامرين .. يصفعهما .. أشيح بوجهى عن نظراته الغاضبة .. أسمح لمحبس الدمع أن يهطل .. أشهق خفيتًا .. لا أجرؤ على رفع يدى لمسح دموعى .. أتركها تنحدر إلى شفتى السفلى ولحيتى .. ألعق ما يستقر على شفتى ، وأتابع الأجوبة .. أعرب عن رهبتى وخوفى وتبجيلى وهيبتى واحترامى .. أرتجف قليلاً ، وابدأ فى الاعتذار .. أعلن عن أسفى وتوبتى .. ربما ينفلت البول من محبسه .. يبلل سروالى وخصيتى .. أحبسه وأستأنف الإجابات مرة أخرى ., أسئلة كثيرة قد تستعصى علىَّ إجاباتها .. ربما أجبت بأية أجوبة .. سيلتقط ألفاظًا ومواقف متنافرة .. ربما أنتبه إلى الأحداث الوهمية والقصص الخرافية القديمة التى سأقصها عليه ، دُكْنَةٌ من ألفاظ قد لا تفصح لعقلية عسكرية ، تلعثم ، وتمتمات لا تتواصل بقدر ما تتقطع .. ربما كانت حالتى غير مناسبة لمستوى البلاغات الرسمية المطلوبة .. ربما خانتنى بلاغة الخطاب والتوصيل .. سأترك نفسى لاختياراتها .. ربما انفلتت منى طبيعتى النى لا تعرف التحفظ .. ربما ارتأى أن ذلك لا يعد مناسبة بين اللفظ والمعنى .. ربما تسافلت عن مقتضى الحال .. ربما اتهمنى بالبلاهة ، أو بالغموض .. سيغتاظ .. ربما اتهمنى بالوقاحة ، أو بالبوهيمية .. سيرانى رغم بياض وجهى وثيابى رثًّا وعفنًا .. ربما كانت لحيتى هذه مدعاة لاتهامى .. سأكف عن الكلام ، وقد جحظت عيناه وبرقت بالاتهام الشنيع : ابن للظلام .. واحد من الخفافيش التى قذفها الظلام إلى الشارع الراقى .. لا تنتمى للنور .. دقات قلبك تنبئ بالمروق .. وجهك لا ينم على خنوع .. قف صامتًا .. اركع .. ربما قال : " يل بغل " .. سيوثق قدمىَّ ومعصمى .. ربما سحبنى .. سيجرجرنى على الأسفلت اللامع إلى آخر نقط الضياء .. ربما ركلنى ، أو رفعبى عاليًا بيدٍ واحدة .. سيميل إلى الخلف ، ثم يقذفنى مرة أخرى إلى بطن الظلام .. هكذا سأعود مرة أخرى إلى الظلام .. يبتلعنى .. أتوه .. أتوه .. أحلم بشارع جديد .. شارع صامت وهادئ ، ومضئ ، يخلو من شرطى مغولى أرعن .

ولماذا كل هذا ؟ .. لن ألمسه .. لن يستيقظ .. لن تحدث مواجهة .. ربما لو استيقظ لأشار إلىَّ بالثبات .. أتابع حركة إصبعه فأثبت .. سأحرك ذراعًا واحدة ، وسأبدأ فى الكلام .. جريمتان إذن : حركة ذراع فى وجه السلطة ، وحركة اللسان فى موقف الصمت الرهيب .. حركتان غير لائقتين ، ويتنافيان مع العرف والواجب والقانون .. قف .. اثبت .. صفعة .. صفعتان .. ركلة .. ركلتان .. البول سيسرسب .. يبتل سروالى وجسدى .. ولماذا كل هذا ؟ .. مغامرة خاطئة قد تنتهى بجحوظ عينيه .. سيسحب بعدها مسدسه هذا المعلَّق فى حزام بنطاله .. يرميتى هادئًا برصاصة بين عينيَّ .. يحملنى جثة إلى الظلام .. هناك يقذف بىَّ طعامَا سائغًا للبوم والخفافيش .. لن يحدث شىء من هذا .. سأدلف سريعًا عبر المنفرج الضيق بين الضلفتين إلى الداخل ، وبعد أتم دخولى سأدفع الضلفة المواربة بكلتا يدى .. ستتعشق بالأخرى .. يتعشق المزلاج أيضًا .. سأكون فى مأمن من الشرطى البغيض .. سأتجول قليلاً بالداخل ، ربما صعدت الدَّرج إلى الطابق العلوى .. قد يصادفنى شخص ما .. سأحاول أن أكون لبقًا ، ومن ثم سأبحث عن بلاغة خطاب مناسبة .. سأفتش فى ذاكرتى عن ألفاظ عالية الجودة ، وسانحنى بأدب جمٍّ ، ربما مدَّ لى يدَا بالتحية .. سأمد يدى بهدوء .. سأكون كيِّسًا فطنًا .. سأعلن عن رغبتى فى الحياة ها هنا ، ولن أذكر شيئًا عن الظلام الذى قذفنى إلى هذا الشارع ، وسأمدح النور .. أى نور بالداخل سأمدحه ، وسأهزُّ رأسى موافقًا على أية شروط للحيلة هنا .. صعدت إلى الأدوار العليا ، حيث الردهات الواسعة ، والسجاد النائم ، والمشروبات الروحية ، والخدم ، والموائد العامرة .. ربما أعطونى دورًا ما أجد فيه لذة ما .. سأكتشف شيئًا مجهولاً ، وسأعيش مثلما يعيشون .. ها هنا تبدو الحياة مختلفة وعميقة ، ورائعة . قد تكون واحدة ثرية تعيش فى هذا القصر .. سأقتسم الحياة معها ، حتى وإن كانت عجوزًا .. ستكون رائعة ، وهى تقص ماضيها المتخم بالحكايا .. سندخِّن ، وسنشرب الشاى معًا فى المساء ، ونحن جالسين على الأرائك التى بالشرفة الخلفية .. سنطالع القمر ، ونلعب الشطرنج ، والنرد .. ندخل إلى غرفة النوم .. نشاهد التلفاز .. فى الصباح نقرأ الجرائد سريعًا قبل أن نتناول إفطارنا ، ثم نخرج بعدها للنزهة .. ستأخذنى بعدها ـ ولا شك ـ للشواطئ البعيدة .. سأجد هناك بعض الأصداف ، والرمال الدافئة .. سألاعب الأمواج ، وأغوص تحت الماء .. ربما أمسكت بالسنارة .. سألقى بالشص فى الماء ، وأخرج بعض الأسماك .. أجمع بعض الحطب ، والأعشاب ، وأشعل النار .. أشوى الأسماك ، ونتناول الغداء فى الهواء الطلق .

ستموت ـ ولا شك ـ وستترك لى ثروة كبيرة ، وهذا القصر المنيف .. أعيش الحيلة بعدها مع واحدة أخرى لم تذق رجلاً قبلى ، ولاشك ستكون حورية تتهادى فى القصر .. لن أزحم حياتنا بأكثر من خادمة وحيدة تجهز لنا وجباتنا ، وسأصحبها إلى الشاطئ كل يوم .. ربما اصطحبنا كلبًا أو قطة .. ربما عدنا ببعض الأصداف والصخور ، والزلط الملون .. سنحول القصر إلى تحفة فنيَّة ، سأكتب كثيرًا ، ولن أحتفظ ـ هذه المرة ـ بأوراقى فى درج مكتبى .

دَخَلْتُ .. عيناى كانتا على الشرطى ، وأنا أدخل رجلى اليمين .. استدرت بكامل رأسى تجاه الشرطى ، وجعلت ظهرى إلى الباب ، وبدأت فى إدخال جسدى رويدًا .. بطيئًا ، هادئًا كالهواء المنساب .. أدخلت جسدى كله ما عدا رأسى , كانت وحدها خارج الباب .. عيناى لا تزالان على الشرطى النائم ، أرقب سكونه ، وسباته للحظة الأخيرة ، قذفت برأسى إلى الداخل وراء جسدى .. كانت حركة خاطفة ورائعة .. أصبح جسدى كله داخل الباب .. ظهرى للخلف ، ووجهى للباب .. كفَّاى لا تزالان عالقتين بضلفة الباب الموارب .. دفعتها سريعًا للأمام .. تعشقت الضلفة بالأخرى .. أُقفل الباب تمامًا .. سمعت صوت مزلاجه يتعشق ببعضه .. ها أنا ذا فى مأمن من الشرطى .. سأبدأ سريعًا ، وسأحاول الكشف الجميل .. سأكون لبقًا ، وكيِّسًا فطنًا .. مؤدبًا مع أول شخص يصادفنى .. سأنتقى ألفاظًا عالية الجودة .. مناسبًا للمقام .. سأراعى مناسبة اللفظ للمعنى ، ولمقتضى الحال ، وسأوظف النبر والجرْس .. مخارج الحروف .. رصانة اللغة .. انحناءة سريعة ، وخشوعًا عبوديًا رائع الامتثال والتسليم ، وهكذا أبدأ . استدرت بجسدى ، بحركة فجائية سريعة إلى الداخل .. أصبح االباب خلف ظهرى ، ووجهى للفراغ الداخلى .. راعنى أننى لم أرَ شيئًا .. خطوة .. خطوتان .. ثلاث .. لكأنى أصبت فجأة بالعمى .. أو لكأنه الظلام ! .. ثمة ستارة كثيفة من ظلام عتيق .. رفعت ذراعىَّ .. تلمست المصير .. لم يصادف يدى عائق ولا حاجز .. خشيت السقوط .. كيف يمكننى السير إلى المجهول ؟ : أرض لا أراها ، وحظ تعيس .. أى حيلة ، وأى ذكاء ؟ .. تراجعت للخلف .. استدرت مرة أخرى أبحث عن الباب .ز تقدمت خطوة .. حطوتان .. ثلاث .. أربع .. ارتطمت يداى بسطح كأنه الحائط ، كان محببًا ، وكانت الحبيبات حادة ، ويابسة .. ارتدَّ ذراعاى إلى الخلف .. فردتهما على الجانبين .ز فمددتهما للأمام ثانية .. لم يصادفهما سوى الحبيبات الحادة والحائط الصلد .. كان على رجلىَّ أن تتحركا أيضًا .. شمالاً فيمينًا .. للأمام ، للخلف .. الباب لم يصادفنى .. ارتعبت .. بركت على الأرض .. كانت ثمة برودة وعفونة ، وتراب يتصاعد إلى أنفى كلما حركت يدىَّ .. تملكنى الفزع ، وثمة تساؤلات حيرى بدأت تتخبط فى رأسى : أى آلهة تمر .. أى آلهة تجئ ؟؟ .. لم يعد من شىء أقدسه غير ظلام مخيف ، ومستقبل مجهول .. عينان كليلتان ، وقلب شغوف ! .. كيف يكون الظلام إلهًا .. أى آلهة أكثر سخفًا من هذا الذى يحرسه شرطى ماغولى يغلبه النعاس ؟! .. أى حكمة مقدسة تلك النى جمعت بين النعاس والظلام الإله ؟ .. كان يجب أن أفهم ذلك مبكرًا : ظلام تحرسه غفلة الحواس .. أية شرارة مقدسة يمكن أن تضىء ؟! .. أيظل ديدنى هكذا عشقٌ لما لم أره ، وخوف من مجهول سادر .. تقديس لروعة أتوهمها خلف تخوم لا تبين ؟! .. هكذا .. حتى يصدمنى الظلام بالظلام .. يطاردنى الفزع مثلما يطاردنى الآن النوم .. رطوبة التراب .. عفونة ساجية .. دكنة المصير .. الرغبة فى الخلاص .. حيلة يائسة يغلبها شعور بالفشل الذريع .. أمور جميعها تبعث على الهروب إلى قرارة النوم السحيق .. كيف يجتمع النوم والفزع ودكنة المصير ؟! .. هل سأصادف الباب ثانية ؟ .. لقد سمعت صوت مزلاجه حين تعشَّق .. هل سيُفْتَحُ الباب ثانية ؟ .. سأخبط عليه عنيفًا ، حتى يصحو الشرطى المغولى من نومه ؟ .. ربما أجابنى ، وقام ليفتح الباب .. سيكون الموقف محرجًا .. سيسألنى متى .. كيف دخلت ؟ .. سأجيب بصراحة .. ربما صفعنى .. سأكون صاغرًا ، فذًا فى تقبل الإهانات .. سأقف وقفة صنمية عالية الامتثال .. سأنحنى بأدب جمٍّ .. سأكون كيِّسًا فطنًا .. وسأنتقى ألفاظًا عالية الجودة .. سأراعى المناسبة بين اللفظ والمعنى ومقتضى الحال ، وربما بحثت عن بلاغةٍ جديدةٍ مناسبة للمقام .. ربما صفعنى رغم ذلك ، أو ربما أعتقنى .. سأعلن على مسامعه توبتى عن ذنوب لست أدريها تمامًا ، سأكون جادًا وساجدًا عند قدميه ، سأقول : " لك العتبى حتى ترضى " طالبًا الصفح الجميل ، وسأمدح الظلام ، وكل حُرَّاس الظلام .. وسأبدأ فى الإجابات .. ربما كتمت أنفاسى حتى لا تزعجه ، وحتى لا يلفح السكون الجميل البليد .. لن أدع لجفنىَّ فرصة لحركة أخرى .. ربما سحب مسدسه من جرابه وفرَّغه بين عينىَّ .. قد يسحبنى .. سأستسلم تمامًا لقيوده ، وهو يجرجرنى على الإسفلت اللامع الأملس .. سأمتدح فعله ، وربما سأقبِّل الإسفلت ، وهو يجرجرنى حتى آخر حدود الشارع ، تمامًا حتى آخر نقطة للضوء .. سيرفعنى عاليًا بيدٍ واحدة .. سأستسلم تمامًا لحركته الفجائية السريعة ، وهو يرفعنى على كفِّه ، ويطوحنى فى الهواء .. سأكون خفيفًا ، وسأضرب بيدى ورجلى لآخر مرة أجواء الفضاء البورانى الجميل .. سأسمح لصدرى أن يسحب آخر نفسٍ عميق من هواء الشارع النظيف المضىء ..وسأنطلق كطائر عفىٍّ إلى الأمام .. نعم نعم .. سيمسل الشرطىّ المغولى بجسده إلى الخلف .. يميل مشرِّعًا ذراعه ، فاردَا كفَّه فى وجه السماء ، ساعتها سأكون مستلقيًا على كفِّه ، لا حول ولا قوة لى غير أن أرفرف بذراعىّ ورجلىَّ .. سيتحرك ذراع الشرطىِّ إلى الخلف بحركة إرادية محسوبة تمامًا يحبس نَفَسًا عميقًا فى صدره ، ثم ... يبدأ فى قذفى إلى الأمام .. ساعتها سأكون جاهزًا كطوبة فى مقلاع .. سأطير .. أطير إلى آخر الشوط .. ساعتها سيكون ما بينى وبين الشرطىِّ قد ابتهى .. وسأهبط سالمًا فى جوف الظلام .. هل يفعل الشرطىُّ هذا ؟ .. ربما يفعلها ، أو ربما لوجهة أخرى يتركنى وحيدًا ؛ كى أضع يدىَّ فى جيب بنطالى ، وأعود ـ مثلما جئت ـ وحيدًا أتهادى مرة أخرى ، وأخشُّ فى جوف الظلام ؟ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى