الثلاثاء ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

العم أيوب

من منا لم تكن لديه معرفة سابقة بالعم أيوب؟
إنه رجل ناضج، متزن، متخلق، يبدو أنه شارف على الخمسين عاما أو تجاوز ذلك بقليل، فارع القامة، عريض المنكبين، ناتئ الجبهة، نظراته حادة كما نظرات الصقر، الابتسامة الدائمة تجلل شفتيه الممتلئتين رغم معاناته المريرة المستعصية، يتحلى بعاصفة من النشاط الساحق كأنه ابن العشرين، الصغار والكبار يكنون له بين جوانحهم كل معاني التقدير والحب والاحترام.

يشرق يوم جديد ككل مرة هاتكا ستار الظلام السميك، يحتسي قهوته على عجل ، ثم يحمل أغراضه البسيطة في عربته الخشبية القديمة العهد، يدفعها بيديه الخشنتين مارا من تلك الأزقة الحلزونية الضيقة إلى أن يبلغ موقعه الاستراتيجي الآمن، يركن إلى مكانه الذي اعتاد عليه منذ مدة بعيدة ولسانه يلهج بخشوع وطمأنينة: يا فتاح، يا رزاق، يا كريم.

استساغ لسانه حلاوة هذه الكلمات الطيبة منذ أن باشر حرفته اليدوية الشريفة لأول مرة، في خضم العوز والحاجة يسعى إلى الكسب الحلال ليسد خمسة أفواه فاغرة، اللقمة النظيفة التي يناضل من أجلها تتطلب منه المعاملة الحسنة، ونزف العرق.
ـــ سيدي.......
وانقطع الصوت الشجي فجأة.
رفع رأسه ببطء عما كان يعالجه من بين يديه، زحفت على شفتيه ظلال ابتسامة عريضة، قال عندئذ: أنا في خدمتك، أرني الحذاء.
مده له وحمرة الخجل تطفح بقوة إلى خديه كالنيران اللاسعة.
كان حذاؤه ممزقا بشكل رهيب لا يصدق.
نطق بصوت أجش وكأنه يتهاوى من أعلى برج: لو كان في حوزتي مبلغ من المال لاستغنيت عن هذا، ولاشتريت آخر.
ـــ لا تخجل مني يا بني، كلنا في الهم سواء، أتركه عندي إلى غاية المساء، وعد إليه لتأخذه، سأصلحه لك ، أعدك.

سيارة فارهة من النوع الرفيع تتوقف على مقربة منه، ينزل صاحبها ذو البدلة الأنيقة، يتقدم نحوه ممسكا بين يديه صندوقا خشبيا تتكدس فيه الأحذية، ألقى عليه التحية، وقال بارتياح يغمره: خذ، هذا لك، لم أعد بحاجة ماسة إليه.
ـــ هذا كله لي والله يعجز لساني عن الشكر.
تابع ذو البدلة الأنيقة مؤكدا: هذه الأحذية سليمة مئة بالمئة.
ثم انصرف إلى حال سبيله.

طفق العم أيوب يقلب في أرشيف ذاكرته عن وجه هذا الرجل الوسيم الذي يتقد عزما وقوة، إنه يعرفه، ولكن من هو؟ وفي أي مكان رآه بالضبط؟ وما الظروف التي منحتهما فرصة اللقاء؟ وماذا حدث بينهما؟
أخيرا تذكر، إنه الحكيم أيمن حيث لجأ إليه ذات مرة في عيادته شاكيا من زكام حاد أقعده الفراش لأيام عدة.

عيد الأضحى على الأبواب، سيحل ضيفا بهيجا، معززا مكرما، وككل سنة يشتري العم أيوب نصيبا من اللحم لأسرته، وهذه المرة كذلك سيفعل نفس الشيء.
أثناء عودته إلى منزله ألفى أولاده يصخبون ويتصايحون مرحا، وينطون من حجرة إلى حجرة، والكبش السمين ذا القرنين الملتويين يتوسط فناء الدار.
ـــ من صاحبه؟ من أتى به إلى هنا؟
ردت عليه زوجته رقية: فاعل خير.
ـــ صاح بدهشة افترشت مساحة وجهه: فاعل خير!؟
آذان المغرب يملأ أجواز الفضاء حانيا مؤثرا، يبسط العم أيوب سجادته ليخشع لله ويناجيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى