الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
في رواية (تحت سقف واطئ) للروائي السوري نذير جعفر
بقلم بيانكا ماضية

الفضاء الضاغط

تولي الرواية في مرحلتها الراهنة اهتماما خاصا ببعدي الزمان والفضاء ، حتى إن السرد لا يتأتى له بث رسالته من دون المعطيات الزمانية والفضائية، لأن المحكي لايكون إلا في موضع، أي ( قائماً على الدلالة على حدث " أو على نفيه" فيلزمه إظهاره. وتعد تسمية المكان من ثم أمراً لامفر منه) (1) واشتغل الروائيون على إعطاء اللحظات والمشاهد إطاراً زمكانياً؛ َلإيهام القارئ بواقعية الحدث، (وربما كانت الحاجة إلى الثبات والتأصل في المكان من أولى الأفكار التي تراود أذهان الروائيين وهم يهمون بتشييد الفضاء الروائي) (2) بينما راح الكثير من النقاد في دراساتهم يخلطون بين مصطلحي المكان والفضاء، فكان أن لم تحدد الفروق بينهما، إلا أن علينا الإشارة إلى أن الفضاء (ينطوي على المكان ويتشكل ويمتلئ به) (3) وإلى أن دراستنا للفضاء الروائي في رواية (تحت سقف واطئ) لنذير جعفر، ستتناول نوعاً واحداً من أنواع الفضاء فيها، وهو الفضاء الضاغط * على الرغم من وجود أنواع عديدة للفضاء .

ولابد من الإشارة قبل الولوج في تبيان مظاهر الفضاء الضاغط، إلى أن نذير جعفر يتوقّف في روايته هذه عند مرحلة السبعينيات في حلب ، بكل ما فيها من ألق ثقافي وأحلام وانكسارات وصخب وتحولات سياسية واجتماعية. وذلك من خلال مجموعة من الشخصيات الطلابية المتمرّدة والحالمة ، والتي تخوض صراعا مع نفسها ومع الآخرين ، محاولة انتزاع مكان لها في دوامة الأحداث التي عصفت بحياتها . وينهض السرد في هذه الرواية بضمير المتكلم فتتعدّد الشخصيات الرئيسة والثانوية بتعدّد الرواة، وتتحدّث كل شخصية عن نفسها حاضرا وماضيا، وعن شبكة علاقاتها الاجتماعية والعاطفية، وما تمرّ به من ظروف وأزمات وصراعات . ويمتزج الواقع فيها بالمتخيّل في رسم الشخصيات وعوالمها الداخلية، وفي تصوير المكان الحلبي بأبعاده الجمالية والتاريخية والنفسية وما يثيره من تداعيات بدءاً من القلعة التي يسميها " الملكة " ومروراً بالأزقة والبوابات في الأحياء القديمة، وانتهاء بمقهى " القصر " الذي كان يشكّل الرئة الثقافية للمدينة، ويعدّ واحداً من الأمكنة التي شكّلت ذاكرة المدينة .

ويتخذ المؤلف من حياة الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين وعدد من أصدقائه وأبناء جيله من الشعراء والمثقفين الرومانسيين محوراً درامياً لعمله. وهو لا يكتفي بالتأريخ والتوثيق البيوغرافي لهؤلاء الأبطال أو لتلك الحقبة الاستثنائية في تاريخ سورية المعاصر ، بل يستحضر الماضي بأبعاده وظلاله المتعدّدة في محاولة لفهم الحاضر وآفاق تطوره .

وهي في النهاية رواية عن الشباب وأحلامهم الشاسعة ، وعن الحب والخوف والتحدي في ذلك الزمن الجميل والقاسي الذي ما زال لوقعه فعل السحر في ذاكرة الجيل الذي واكب أحداثه وعاش أدق تفاصيله .

* * *

إن خصوصية الفضاء الضاغط تطالعنا في الرواية بدءاً من عنوانها الرئيس (تحت سقف واطئ) والذي أتى موحياً بدلالته الرمزية، الأمر الذي يحفز القارئ على استحضار ذاك الفضاء (السقف الواطئ) وتخيله، لا بل يضعه في عالم من عوالم الرواية المكانية، ليفتحه على إمكانية تمثله .

والفضاء الضاغط في هذه الرواية فضاء يقوم على الإحساس بالغربة والخوف واللاحرية وانعدام الأمان، وفي البداية تبدو لنا المدينة وهي حلب (فترة الثمانينيات) فضاء ضاغطاً بامتياز، فالأحداث السياسية (تلقي بظلالها الثقيلة على البلد والجامعة بشكل خاص، بعدما طوقت الدبابات الحرم الجامعي تخوفاً من التفجيرات التي كانت تقوم بها جماعة "النفير") (4)
إلا أن السجن كان المعبر الأساس عن ذاك الفضاء، وهو الذي اقتيدت إليه بعض شخصيات الرواية، تلك الشخصيات المنتمية إلى غير جماعة، ففيه تنعدم الحركة في إقامة جبرية ولذلك من الطبيعي (أن تنعكس محدودية المكان، في السجن، على حركة النزيل وتقلص من قدرته على الانتقال داخل فضاء محدود قبلياً ضمن أسواره وأسلاكه) (5) وفاضل السرحان الشخصية الأولى في الرواية التي اقتيدت إلى السجن، حيث وضع في المنفردة، وهناك تتبدى آثار الموت النفسي والعذاب الجسدي، والخوف من الآتي، حيث يتوقف الزمن، وتتعطل الإرادة، وربما يصاب المرء بالجنون، ويصف لنا هذه الآثار على لسانه قائلاً : (لم أعد أحلم بالخلاص من السجن بل من هذه المنفردة اللعينة التي تعطل عجلة الزمن وتضعك أمام نفسك في اختبار رهيب لا خيارات فيه سوى الموت أو الجنون. فهنا يقتلك الصمت، تحاول الخروج منه فتحدّث نفسك حتى الهذيان، تبحث عن آخر تبوح له فلاتجد أحداً) (6).

لذلك تستحضر الرواية عاملي الصمت والهذيان اللذين اندمجا بفراغ المكان، ليغدو هذا الأخير مقترناً بصفة القهر، ولتغدو الشخصية مسكونة هي الأخرى بالتوتر والعزلة، وهذه العزلة ستعمل على إفشاء الشعور بالإحباط، فتعطي الرواية المكانَ وصفاً دقيقاً لضيقه وعتمته في محاولة لتصوير العجز وفقدان اليقين والإحساس بالموت، فهاهو فاضل السرحان يقول : (لم يكن حولي سوى العتمة والجدران التي تنز رطوبة وعفونة، في مساحة لاتتعدى متراً واحداً. كنت أحاول النوم فلا أستطيع حتى تهمد قواي وتنطفئ عيوني، كم من مرة تمنيت أن أنام ولاأفيق، فالموت رحمة وأمنية عزيزة لكنه يأبى أن يأتي) (7) .

أما السقف الواطئ الذي يشير دلاليا إلى سقف الحريات المتدني ووطأة العنف والقمع ، فيمثله قبو التحقيق الكائن في السجن، والذي يلقى به المساجين إن قاموا بأعمال لاتنسجم وروح السجن الملأى بالعذاب والقهر والضرب والشتم، وهنا تأتي التعليقات الذهنية لتكشف الرواية عن الدلالة المكانية التي يقوم عليها : (لم نكن لنجرؤ على رفع رؤوسنا أو نأتي بأية حركة، وسقف القبو الواطئ كان كفيلاً بشلل أجسادنا وعقولنا وألسنتنا، وظننا أن الأمر توقف عند هذا الحد، لكن سرعان ماحضر الضابط المناوب ومعه عدد من مرافقيه، فأمرنا جميعاً بالانحناء ووضع أيدينا المربوطة فوق رؤوسنا ....... أصبح فوق كل مجموعة منا عنصر مسلح وبيده "كابل" ومن يتباطأ في تنفيذ أوامر الضابط كان "الكابل" يلعب فوق جسده، أما من كان يغمى عليه فالماء البارد والركلات المتلاحقة كانت كفيلة بإيقاظه لمتابعة الرقص) (8).

أما في المهجع فهناك عالم لاعقلاني،لامتوازن، وأسئلة مصيرية ووسائل مناوئة لهذا الضغط النفسي، ولكن قد يتحول هذا الفضاء الضاغط إلى فضاء مفرِح وسارٍّ، باستطاعة المرء فيه أن يقوم بتلك الأعمال التي يقوم بها في الخارج، حيث الحياة وحيث العمل والعلم: ( كنا نتحاور، نتبادل الخبرات، نخلق وسائل تسلية من شأنها إزاحة كابوس المشاهد اليومية المريعة عن نفوسنا، كنا جميعاً نتعلم ونعلم بعضنا بعضاً: قمنا بدورات تعليمية شفهية في الاقتصاد واللغات والعروض وما إلى ذلك، نحفظ الشعر كجزء من تمرين الذاكرة، ونتبارى شعرياً، ونحكي القصص والروايات والسِّير الشخصية، وبعضنا ينسج الخرز أو يصنع الميداليات والمسابح من نوى التمر اليابسة .... باختصار كوّنا بدائل حقيقية ولو متواضعة، وكنا نسعى إلى إدخال الفرح من أي كوّة متاحة ....) (9) .

وكذلك الأمر بالنسبة لـ (لبنى) التي اقتيدت أولاً إلى (فرع فلسطين) في العاصمة، ومن ثم إلى السجن، حيث تجريد النزيل من هويته، وخنق أحلامه وممارساته الحياتية العادية، ومحاصرة الجدران الرطبة له، وهزيمته أمام نفسه والآخرين : (الأمور في السجن أفضل بكثير من فرع التحقيق – كما قالت أم أوس تماماً – فكل شيء بدأ ينتظم نسبياً ، لكن السجن هو السجن، تربة صالحة للتآكل والموت البطيء، موت الأحلام والروح والجسد، لانوافذ ولاشرفات، لاشمس ولاحدائق، لاقهوة في الصباح ولامواعيد في المساء، لاكتب ولاجرائد، وحدها الجرذان والجدران الرطبة الملساء تحاصر حياتنا وآمالنا من كل الجهات) (10).

وقد تشكل مدينة أخرى غير حلب فضاء ضاغطاً لإحدى الشخصيات وهي (رؤى)، إذ يأمرها أبوها للسفر إلى مونتريال حيث يقطن عمها، خوفاً عليها من الخطر الدائم والاعتقال، فتكون مونتريال مدينة عدائية بسبب البعد عن المدينة الحبيبة (حلب) وعن الحبيب (سعد) : (بدوتُ في تجوالي غريبة في المكان والزمان، لاشيء يربطني بهذا العالم الجديد، بل إن حالة من الرفض والعداء المتبادل سرعان مانشأت بيني وبينه، أين حلب من هنا؟ أين المدينة التي عمرها آلاف السنين من مونتريال التي لم يتجاوز عمرها مئتي عام؟ قلت في نفسي ربما لو جئت للسياحة أو في ظرف آخر لاختلف الأمر، فأنا منفتحة على الغرب وثقافته وفنونه وموسيقاه، ومن السهل أن أتواصل مع حضارته، لكني جئت مرغمة لأبقى في أرض ماهي بأرضي، وسماء ماهي بسمائي، وزمن آخر ماهو بزمني، وبشر وعلاقات لا تتآلف مع روحي من قريب أو بعيد) (11) .

فتكون مدينة مونتريال بسبب الغياب والنفي مدينة باهتة، كل شيء فيها يغني للموت، كل شيء فيها يختفي وراء تجاعيد الزمن، حيث كل الوجوه وحيدة وحزينة : ( أن تمتد بك الرغبة حيث الأشياء نافورة من صراخ بعيد .. تصرخ أنت، فيضيع الصوت الأرجواني الجميل .. وتصرح تصرخ .. لابد لصوتك أن يدخل كل النوافذ ويشق صمت المقابر ... الصراخ والكلاب الأنيقة .. ومحطات المترو .. والحانات المضاءة بالحزن والشموع النعسى تشكل أغنية للموت الصادق والفرح الأزرق .. ! سعد .. الشوارع تهرب .. النساء والحافلات والأصوات تختفي خلف تجاعيد هذا الزمن الموحش، وبين كل انعكاسات المدن .. بين كل المرايا .. وجهك يمتد إلي خيوطاً من الشمس والدفء .. وحيداً وحزيناً مثل إله فينيقي خذلته السماء .. شاسعاً كقصيدة ... ) (12) .

فالعلاقة القائمة بين الشخصية والمكان (المدينة) هي علاقة انفصال أساسها ضغوطات قهرية جعلت الشخصية غير منسجمة مع المكان، بسبب علاقة الارتباط المفروضة عليها، فلولا هذه الضغوطات القهرية التي لها دلالاتها الانزياحية في الرواية، لاتخذت العلاقة بين الشخصية والمكان مظهراً إيجابياً، إلا أن تفصيلات المظهر السلبي تقوى هنا، لأن العالم هنا تحوّل (من فضاء يفيض بالدلالة والمعنى وقيم الألفة إلى ركام من الأشياء التي لاتعبأ بالكائن، فضاء يهرب منه الكائن ويتوارى متخفياً من بطش الأشياء) (13).

والمنزل والعيادة والشارع جميعها تشكل فضاء ضاغطاً للدكتور صبحي أبي (رؤى) بعد أن غادرته ابنته إلى مونتريال، ابنته التي تشكل له حارسة روحه، ونجمة سمائه، وهاهو بعد أن رحلت عنه بطلب منه، يتذوق طعم مرارة الفقدان، فتتحول الحياة كلها إلى مرض وكآبة وخراب وضياع، حتى يتحول المرء نفسه إلى (فزاعة في حقل من الألغام .... فزاعة بقدمين حافيتين وسروال قديم وقبعة يحط عليها البوم وينعق مبشراً بالخراب ليل نهار) (14) ... ويتحدث الدكتور صبحي عن إحساسه باللاجدوى والضياع والكآبة، قائلاً : (رائحة العفن انتشرت في كل مكان، في البيت والعيادة والشارع، لا أشم إلا الروائح الكريهة، روائح القمامة والجثث والبواليع، لا وقت لدي للنظافة، لا وقت لترتيب أفكاري وحياتي من جديد. إنها الكآبة .. الكآبة وحدها سيدة وقتي وجسدي وعقلي ... سفر رؤى نقل إليّ عدوى هذا الفيروس القاتل الذي نسميه دون حرج بالكآبة ...... أظل تائه النظرات، تائه الخطا، تائه العقل والفكر، ساعات تتلوها ساعات وأيام تتبعها أيام وأنا في حالة انتظار، انتظار الموت أو الحياة أو رؤى ... ) (15) .

وهكذا فإن المدينة والسجن كانتا نموذج الفضاء الضاغط بامتياز، الفضاء الذي يقدّم كفضيحة وعار، كهزيمة وانكسار، لتأتي خاتمة الرواية محملة بأشكال الهروب والرحيل عن هذه الأرض، وليكون النضال من أجل أرض أخرى تشكل قضيتها القضية الأم في الذاكرة العربية، وهي أرض فلسطين.

الهوامش :

(1) ينظر : الفضاء الروائي، تر : عبد الرحيم حُزل، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، ط1، 2002، ص71

(2) شعرية المكان في الرواية الجديدة، خالد حسين حسين، كتاب الرياض، ع83، أكتوبر، 2000 الرياض، مؤسسة اليمامة، ص99

(3) نفسه، ص81

* آثرت تسمية هذا الفضاء بالضاغط عوضاً عن المغلق كما اصطلح عليه النقاد، بسبب دلالاته في الرواية والتي تحيل إلى ضغط نفسي عاشته جميع شخصيات الرواية.

(4) تحت سقف واطئ، نذير جعفر، حلب، دار نون4 للنشر والطباعة والتوزيع،ط1، 2008، ص32

(5) بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص66

(6) تحت سقف واطئ، ص47

(7) نفسه، ص 46 – 47

(8) نفسه ص171 - 172

(9) نفسه ص50

(10) نفسه ص111

(11) نفسه ص 107

(12) نفسه ص129

(13) شعرية المكان في الرواية الجديدة، خالد حسين حسين، ص367

(14) تحت سقف واطئ، ص 155 - 156

(15) نفسه، ص156


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى