الخميس ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مروة كريديه

الفكر الانفعالي العربي

بين حقائق السماء وخزائن الأرض

"اعتقاد الإنسان، أنه يملك الحقيقة هو مصدر كل قمع، فهذا الاعتقاد يعتقل العقل عقل الذات، وعقل الآخر، ذلك أن كلّ اعتقاد من هذا النوع هو بالضرورة إرادة سياسية وممارسة القوة المرتبطة به، إنما هي الإرهاب والطغيان، بل ربما أصح قتل الآخر."أدونيس

لا شك في أن الكائن الإنساني يعيش بحالة تفكير لا تنتهي سواء كانت بوعيّ منه او بغفلة عنه، غير ان هذه الحالة المستمرة التي جُبل عليها، إما أن تكون في نطاق دائرة إيجابية تؤدي به إلى مزيد من العلم والحكمة وتحقيق كيانه الانساني المتكامل المادي والروحي والنفسي والتطوري في كل الدرجات والأبعاد والمستويات؛ وإما أن تكون في نطاق دائرة سلبية تتمثل بانفعال دائم وتمرّد مستديم فيقع في فخ الرفض والقاء اللوم على الآخرين وتخيل أعداء محيطين متربصين به.

وكما الأفراد فالأمم والحضارات التي هي تجلٍّ لصورة أفرادها، فعند استعرض حالتنا "العربية "نجد ان العقل العربي الحالي، هو عقل سلبي بامتياز يقع تحت وطأة فريسة التمرد والرفض؛ وهذه العلاقة الجدلية التي تشبه الى حدٍّ بعيد ما يسمى بالأواني المستطرقة في الفيزياء، تعيد انتاج دوامة لا متناهية من ردود الفعل وردود ردود الفعل... انها دوامة مفرغة يغرق بها الفكر في أتون من الصراعات الدَّامية بين اطرافٍ كلّ منها يدعي امتلاك الحقائق، تسودها افكار دوغمائية عقائدية مبرمة ضيقة، فالتيارات "الدينية"كلها تزعم امتلاك الحقيقة، واليوم حذت التيارات "العلمانية"حذوها فأصبحت تدور في فلك التطرف نفسه من خلال التمسك بالمواقف الرافضة وان كانت الاسس الفكرية المنبنية عليها غير دينية، لقد استطاعت التيارات الدينية من خلال الهجوم الدائم أن تُدخل العلمانية في حظيرتها المنهجية من حيث لا تدري، لقد اضحى بعض العلمانيون اشد تطرفًا في مواقفهم من الأصوليات الراديكالية، وتحولت العلمانية إلى علمانية شعائرية ترفض الاخر! لقد انتقلت بفعل التجاذبات من دائرة الفعل الحضاري الى دائرة رد الفعل بدورها، وما السجالات العقيمة الدائرة التي نراها في البرامج الفضائية الا احد انعكاسات هذه الصور.

وعند قراءة مجمل الأحداث السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية نجد ان السياسات العربية بمجملها برغم من اختلاف توجهاتها ومشروعاتها واستراتيجياتها وتبعياتها وتحالفاتها الدولية والإقليمة، كلّها تقع في دائرة ردود الافعال ليس إلا وما القمة العربية عنا ببعيد.

وهذا يعكس بشكل صارخ غياب الحرية، حرية الساسة والزعماء وحرية الشعوب وتحديدا حرية الروح، ناهيك عن سائر انواع الحريات الاخرى، فلا ترى الا عبيدا تسوس عبيد...

والحال ايضًا يتجلى ببعض اقلام كتابنا ومفكرينا... التي تقع في دائرة رد الفعل نفسه، وهذا ينسحب على كل مفردات حياتنا بما فيها الثقافة والفن، ف"العقل العربي"لا يكرم مبدعا أو عالما الا بعد ان يُكرم في أوروبا مثلا، ولا يحترم فنانا الا بعد ان يدخل هوليوود، ولا يقرأ لكاتب او مفكر الا عندما يجد ان كتبه المترجمة حققت انتشارا أوحاز الجوائز عليها خارجًا....وكأن أقدارنا الا نُحترم في اوطاننا، هذا العقل الانفعالي السائد يُتقن فنّ الرجم ويجيد سياسة الفضائح ويحترف الخداع.

الكارثة ان الانسان العربي لا يرى نفسه الا من خلال ما يقيّمه الاخر به علمًا انه يجعل من هذا الآخر أما عدوًّا لدودًا يجب رجمه وسحقه، أو حليفًا حميمًا وحلماً مثاليًّا يجب اتباعه والسير على نهجه، لذلك نجد أن المواقف كلها تنقسم الى قسمين متضادين شكلا غير انهما يمارسان طريقة تفكير واحدة في نهاية الأمر، فكلاهما يدعي امتلاك الحقيقة وكلاهما يمارس القمع وكلاهما يقع ضمن دائرة ردود الأفعال، مع العلم ان ما يسمى "بالغرب" فيه ما يكفيه له، أزماته المتفاقمة ومشاكله ومصالحه وهمومه و... وليس من شأننا ولا من صالحنا ان نحمل أعباءًا حضارية الى اعبائنا لا احتذءًا به وتقليدًا له ولا رجمًا له وشتمًا لرموزه، فلحظتنا الإنسانية الحضارية أثمن من نمضيها في تفنيد أخطاء هذا او استنساخ تجربة ذاك اننا نحتاج الى إبداعٍ حرّ خلاق، اننا نتطلع اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى التحرر من دائرة الصراعات الجدلية العميقة والانفلات النهائي من حلقة العنف والعنف والمضاد، إننا بأمسّ الحاجة الى طريقة تخرجنا من أزماتنا المتلاحقة الدامية، وهذا لن يكون الا بتغيير جذري في طريقة التفكير وآليته واسسه ومنهجيته ومنطلاقاته، وان كانت هذه الأسئلة الفكرية بعمقها تعكس قدرًا من التوتر لانها بدون شك تُشكل استمرارية زمنية في ظل السلطات المتحكمة بالبشر، واذا ما اعتبر البعض ان حريّة الفكر حقًّا طبيعيًّا فإنه لابد وأن نذهب إلى ما أبعد من ذلك لجعلها حقًّا ضروريًّا من حقوق الكائن، وهذا لا ينحى بحال من الأحوال الى جعل حرية التفكير طعنًا للاخرين مهما كانت نوازعهم.

إننا اليوم نعيش حالة تَكريس لحالتنا الانفعالية انها حالة انفعال لا تؤدي الا إلى انتاج نفايات الفكر والمنطق، لأننا مازلنا متمسكين بأننا نمتلك حقائق السماء وخزائن الأرض، فنمنح نفسنا القدسية ونجعل انفسنا اوصياء على الامم تحت شعارات مختلفة منها "كنتم خير امة اخرجت للناس"او "شعب الله المختار"، علاوة على الموقع الاستراتيجي والطبيعي والجغرافي مع وجود ثروات طبيعية الامر الذي جعل المنطقة بؤرة جذب مركزي.

لا أريد من هذا العرض بحال من الأحوال، جلد الذات المجتمعية التي لكثرة جلاديها فقد النقد قيمته، لكنه آن الآوان لأن نخرج من طاقة عنف الانفعال الى طاقة إبداعية تطرح القضايا بذهن لاانفعالي هادئ ينطلق من خبرة بسيطة ومعاشة من قلب كينونتنا بحيث يتجلى اللامتناهي لمن يجيد الرؤية دون ان تحجبها رغباته السلطوية، أومخاوفه على هوية، ودن ان تعيقها أناه المجتمعي او الديني اوالاثني... في أحداث الحياة اليومية التي ربما تكون أكثر تواضعًا مما نتوهم.

ربما البداية تكون بالخروج من ضجيج الثقافات المتلاطمة الى سكون الكون، ولو سكتت أجراس المعابد لسمعنا خرير النهر!

بين حقائق السماء وخزائن الأرض

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى