الخميس ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
تطور الفكر الديني في
بقلم محمد زكريا توفيق

القرن التاسع عشر

ثورتان علميتان عظيمتان هما اللاتي شكلتا حضارتنا الحديثة. الأولى نتجت عن الاكتشافات الجديدة الفلكية، والثانية بسبب ما تمخضت عنه الأبحاث والاكتشافات الجديدة البيولوجية.

الأولى بقيادة كوبرنيق، أعطتنا عالما جديدا، والثانية بقيادة داروين أعطتنا تاريخا جديدا. في الواقع، كان تأثير نظرية التطور لداروين أشد وأقوى من نظرية مركزية الشمس لكوبرنيق.

الفكر السائد قبل ذلك كان يتمثل في أن الكون في صيغته النهائية قد خلقه إله قادر، وأن الأرض تقع في قلب هذا الكون فهي المركز. الإنسان والحيوانات والنباتات كلها خلقها الإله في صورتها الحالية. الإنسان هو المخلوق المفضل لدى الإله.

الإنسان في البدء كان خاليا من المعاصي كالحمل الوديع، لكنه سقط من عليائه إلى أسفل سافلين. الخلاص الوحيد من ذنب الخطيئة الأولى للإنسان، التي يحمل وزرها بالوراثة، يتأتى عن طريق ميلاد المسيح وصلبه.

الإنجيل هو كلام الرب وخطتنا للخلاص من وزر الخطيئة الأولى. الكنيسة هي وسيلتنا الوحيدة للتخلص من ربقة هذا الذنب الذي لا يغتفر، والذي لم نقترفه، وجعله عن طريقها ميسرا وفي متناول كل الناس.

لكن نظرية التطور البيولوجي لداروين، تقلب كل هذه المفاهيم رأسا على عقب. الأخطر من ذلك، أنها تطلب منا إعادة النظر فيما لدينا من عقائد وقيم وفلسفة وأخلاق وعلم نفس. نظرية داروين هي بمثابة كرسي في الكلوب. داروين خلاها ضلمة.

مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبح من الواضح أن العالم الذي نعيش فيه غير ثابت. بل هو دائم التغير. كل شئ يتغير، حتى الأخلاق. وكذلك مفهوم الإله عند الإنسان، والكتب المقدسة، وكذلك مفهوم الحق والصدق، إلخ، كلها مفاهيم دائمة التغير. فهمنا لها اليوم، يختلف عن فهمنا لها بالأمس، وعن فهمنا لها غدا.

العقل نفسه هو تطور بيولوجي. سلاحنا الوحيد للحياة والتأقلم في بيئة صعبة، وجدنا أنفسنا نعيش فيها بدون إرادتنا. الفكر المطلق بجبروته، نجده قد استسلم ورفع الراية البيضاء في مواجهة الفكر النسبي. الوحي، كمصدر وحيد للحقيقة، أفسح الطريق للتجربة العملية للوصول للحقيقة.

الميكروسكوب والتليسكوب وأنبوبة الاختبار أصبحت أدواتنا لكشف الحقائق. ولم تعد أشكال الكائنات ثابتة كما خلقها الرب، وإنما هي دائمة التغير والتحول من صيغة إلى أخرى. حقائق جديدة تنبثق، وصيغ حديثة تظهر، وصيغ أخرى تختفي وتندثر وتنقرض.

لا يوجد شئ اسمه الحقيقة المطلقة. الموجود هو حقائق احتمالية أو تقريبية، تصلح فقط لهذا الجيل. المؤكد أصبح مشكوكا في أمره، أو مؤكد إلى درجة ما. أي إلى درجة احتمالية معينة. المعرفة، بقدر ما يمكن التحقق من صدقها. فحقائق اليوم هي أساطير الغد. الأفكار والنظريات والحقائق ، ما هي إلا فروض تسهل لنا عملية التفكير، وليست حقائق مطلقة.

نظرية التطور، كثورة فكرية، قوبلت بمعارضة عنيفة من الفكر الديني. ولا غرابة في ذلك. تقول لي أن كل شئ يتغير، هذا مساس بكرامة المطلق، وإهانة للكتب المقدسة، وامتهان لفكرتنا عن الإله والإنسان. يا دي المصيبة! الحيوانات والإنسان لم يخلقها الرب هكذا منذ اليوم السادس؟ ده كفر والعياذ بالله.

الفكر الديني منذ الإنسان الأول حتى الآن، عبارة عن وحي وغيبيات وخرافات وأساطير الأولين. تتمركز كلها حول مفهوم الإله. الإيمان بهذه الأشياء والامتثال للكنيسة والجامع و رجال الدين، هو شرط القبول والخلاص والمكافأة بالجنة والعتق من النار.

قبل نظرية التطور لداورين، كان الفكر الديني وعالمه الثابت الذي لا يتغير، يطلب وجود إله خارج ومنفصل عن هذا العالم. جالس على كرسي العرش وحوله الملائكة.

بعد انتشار فكر النسبي والتطور، بدأ رجال الدين المسيحي في القرن التاسع عشر يرون العالم كطريقة أو كأسلوب، بدلا من رؤيته كماكينة أو كساعة تتحرك بأمر الإله المنفصل عنها.

الإله عندهم عبارة عن روح لهذا العالم، أو كما يقول إسبينوزا، هذا العالم هو جسد الإله. الإله عبارة عن طاقة عظيمة، ليس جسد جالسا على كرسي العرش ليستريح في اليوم السابع.

إنما عبارة عن قوة دائمة الحركة والعمل. طاقة لانهائية خالدة، ذكية وخيرة وحكيمة. روح قدس تسكن في نسيج هذا العالم وبين طياته لتغيره من الداخل بقوانينها التي لا تحيد عنها.

ليمان أبوت، الفيلسوف وعالم اللاهوت الأمريكي، كتب لنا في القرن التاسع عشر يقول: "منذ عصر الأنوار حتى الآن، كلما زادت العلوم في كشف طبيعة هذا العالم، كلما قل الإيمان بتدخل الإله القادر في شئونه"

طبيعة الإله وليست قدرته الغير محدودة، هي مفهوم ليبرالي حديث. جعلت الإيمان بالإله قضية عقلانية لا تتعارض مع الثورة العلمية الجديدة. هذا رأي فلاسفة وكتاب كثر، مثل برونو وليسنج وإسبينوزا وشيللنج وفختة وجوته وآخرين. فالإله عندهم لا يتعارض مع التطور، ولا يلغي أيا منهما الآخر.

هذا الفكر، فكر وحدة الوجود والفكر الصوفي، ينتقل بيسر إلى الحركة الرومانسية، كما يظهر من أشعار وردزورث، كوليريدج، تنيسون وإيميرسون. الإله بالنسبة لكوليريدج هو طاقة الحياة الأبدية للطبيعة. بالنسبة لتينيسون، الإله هو روح سرمدية أقرب إليك من حبل الوريد. أما وردزورث فيرى الله في الأبيات الآتية:

بديهيات فعالة: مهما بعدت
من الشعور أو المشاهدة، قد تجلت
في كل شئ، في الطبيعة، في النجوم
في زرقة السماء، والسحاب والغيوم
في الزهور والأشجار، في كل رملة حصى
مهدت مسار الغدير، وحددت مكان الصخور
وحركة المياه والهواء غير المنظور
روح لا يخلو منها مكان
لا فجوة، لا غربة، بل وصال بعد وصال
الروح لكل العوالم، حركة وتجدد ونضال

نظرية التطور ترى الكون كوعي سرمدي أو كطاقة إلهية. الإنسان هو جزء من هذا الوعي أو هذه الطاقة. لذلك فهو لا يحتاج إلى قوى خارقة أو معجزات أو طقوس سحرية.

الإنسان يحتاج فقط إلى أن يعي إمكانياته الإلهية. بالنسبة لليبرالية الرومانسية، المسيح جزء من الوعي السرمدي والطاقة الإلهية. إختلافه عن باقي البشر يأتي في الدرجة لا في النوع.

الإتجاه نحو هذا الفكر اللاهوتي التجريبي، كان بقيادة جون ستيوارت ميل وهيربرت سبنسر اللذان كانا قد تأثرا بأفكار كومتيه وهيوم، ويعارضان وجود المطلق.

سبنسر (1820-1903م)، كان فيلسوف التطور، وهو الذي جاء بمصطلح "البقاء للأصلح"، لا داروين. قام سبنسر باستبدال التأثير البيولوجي في نظرية داروين بالتأثير الاجتماعي في نظريته.

استبدل سبنسر مبدأ البقاء للأصلح بالنسبة للأفراد، بمبدأ البقاء للأصلح للقيم الإجتماعية. لقد تأثر داروين ب "سبنسر"، وسبنسر بداروين. تعبير "البقاء للأصلح"، جاء بمعنى النضال من أجل البقاء.

المعرفة عند سبنسر ظاهرية وشكلية. يعني خواص فيزيائية. المطلق لا يمكن إثبات وجوده عمليا. الكل في حركة دائمة نحو التطور، بغية الوصول إلى التوازن والاستقرار. ما نعتقد أنه حقيقي، لا بد أن يفحص ويحقق ويقاس بمدي فائدته وتوافقه مع الظروف المحيطة به.

ما يهمنا ويتضح لنا هنا، هو تطور الفكر الديني في القرن التاسع عشر من المطلق إلى النسبي. القوى الدافعة وراء هذا التطور نجدها في كل فروع المعرفة والتعلم، وهي مستمرة حتى الآن.

هنا يلقى الفكر الاستبدادي الديني أولى هزائمه. لم تعد العقيدة هي المسيطر الوحيد على عقول الناس. الرب نفسه لم يعد القادر على كل شئ، وإنما أصبحت قدراته محدودة ومقيد بقوانينه.

الكتب المقدسة ليست كلام الرب الحرفي، وإنما وثائق إنسانية، تبين تاريخ الفكر الإنساني في بحثه الدؤوب عن الحقيقة. بها أفكار مقتبسة من أعمال سابقة وأشياء من بنات أفكار مؤلفيها.

الثابت، بدأ يلقي سلاحه ويرفع الراية البيضاء أمام المرن والمتغير. في مكان الرضى والأمان والبنج الذي يصبغهم التدين على المؤمنين، يأتي الكفاح والنضال والعرق. معهم يأتي الأمل الإنساني والتقدم الإجتماعي.

العصر الذهبي والأمل المنشود سيأتي في الغد، لا الأمس. في المستقبل، لا الماضي. في التقدمية لا السلفية. لقد انتشل هذا الفكر الإنسان من الحضيض، ولم يعد الإنسان يسقط من عليائه إلى الحضيض.

الهدف من الحياة، هو العلو والنهوض بالقيم الأخلاقية والإنسانية والحفاظ على البيئة ونظافتها وحماية حيواناتها ونباتاتها، على سطح هذا الكوكب. لا العودة إلى جنة عدن، المطرودين منها، للتمتع بالحور العين. الحياة نفسها عبارة عن برنامج تعليمي وتهذيبي للنفوس، وليست مرحلة مؤقتة نعبر عن طريقها وننتقل منها إلى الحياة الأخرى.

روح الإنسان ليست في حرب طاحنة دائمة ضد الخطيئة. وليست خوارق الطبيعة والمعجزات في حرب ضروس ضد ما هو طبيعي ومنطقي. الإنسان يحمل داخل جيناته تاريخا وأصولا موغلة في القدم، ويسكن بين جوانحه إمكانيات ربانية من الحب والعطاء بغير حدود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى