الاثنين ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم مصطفى نصر

الكـــــــابوس

" سيأتى سمير فى الغد " لقد قال لها هذا اليوم .
أول مرة يزورها فى بيتها . جدتها العجوز تجلس فوق درجة السلم الكبيرة غير مدركة لشئ حولها . ترفعها دولت كل ليلة عن الأرض , تضع ذراعها حول رقبتها ؛ وتسير بها حتى السرير.

أختلف أبوها مع أمها وانفصلا , ذهب كل منهما إلى طريق. تزوج ولم تعد تراه , لا يزورها ولا يسأل عنها , وانشغلت أمها بزوجها وأطفالها منه . ولم يتبق لدولت غير جدتها . لم تكن عجوز – هكذا – وقتها . كانت أكثر طولا وعرضا . نعم , أنحنى جسدها – الآن – وضمر . عندما تنام لا تشغل سوى جزء صغير جدا من السرير .
تأتى دولت من المدرسة الابتدائية , تحمل حقيبتها الممتلئة بالكتب, تجد جدتها تجلس أمام باب بيتها , ومعها بعض النسوة – سكان البيوت المجاورة – تضع دولت الحقيبة أمامهن , تنحنى , تقبلها جدتها وتربت فوق ظهرها , ثم تجلسها فوق فخذها رغم جسد دولت الممتلئ . تردد امرأة من الجالسات :
  صارت دولت أبنتك .
  أحس بأنها آخر العنقود .
الكل انصرف عن الجدة العجوز . ابنها – الذى يكسب كثيرا – لا يزورها إلا فى الأعياد , جاءها منذ شهور طويلة ؛ بعد أن اتصلوا به فى العمل , قالوا له : "أمك مريضة جدا " أشترى لها الدواء ولم يأت حتى فى اليوم التالى للاطمئنان . أكتفى بالاتصال تليفونيا ؛ وأوصى دولت بأن تعطيها الدواء فى الميعاد .
وابنة تسكن الدور الأرضى من نفس البيت , لكن لا تصعد إليها إلا فى النادر . فهى مشغولة بزوجها وأطفالها الكثيرين .وأم دولت تسكن بعيدا , زوجها أقل منها عمرا ؛ لهذا تدلله وتتمنى رضاءه , ولا تستطيع أن تتركه أبدا .كلما زارتها دولت , تقبلها قائلة :
  عندما تموت جدتك , ستكون شقتها من نصيبك , تتزوجين فيها .
أول مرة قالت لها هذا , حزنت دولت وغضبت , هى لا تصدق أن العجوز ستموت وتتركها وحدها , لقد دللتها , اشترت لها كل ما تتمناه , أنفقت عليها كل ما تملك : إيجار البيت الذى تملكه , والمبلغ الشهرى الذى يرسله ابنها الذى يكسب كثيرا . تشترى لها الفاكهة مهما ارتفع ثمنها . والملابس تشتريها لها دون أن تطلبها , بل هناك أشياء تخجل دولت من ذكرها , فالعجوز خافت أن تجرى لها عملية الختان – مثل سائر فتيات الحارة – خشية أن تتألم . وعندما لامتها النسوة وحذرتها من عواقب ذلك ؛ قالت :
  لا أستطيع أن أراها تتألم .

فكيف تتمنى أمها موتها لتحصل على الشقة لتتزوج فيها .؟! لكن سمير سيأتى فى الغد . نعم , هكذا قال لها وهما يتناولان الطعام فى حجرة التليفون , العمر مر سريعا , لم تحس به . كل فتيات الحارة – اللاتى فى نفس عمرها – تزوجن, وهى كما هى .
قامت دولت , الظلام بدأ فى الدخول من خلال فتحات النافذة المواربة , والعجوز مازالت تجلس فوق درجة السلم الكبيرة . تعودت تلك الجلسة , فهى تتناول طعامها أمام باب بيتها صيفا, وفوق تلك الدرجة الواسعة شتاء . كانت دولت تجلس قريبا منها , تتحدثان معا . أدخلتها مدرسة أجنبية , ودفعت لها مبلغا كبيرا من المال , لكن بعد سنوات لم تستطع أن تسدد مصروفاتها الغالية , أجرة البيت كما هى ؛ والأسعار فى ازدياد , كما أن خالها الذى يكسب كثيرا لم يزد المبلغ الذى يرسله إلى أمه منذ سنوات طوال . اكتفت دولت بالشهادة الثانوية ؛ وعملت فى مصلحة التليفونات , ترد على المكالمات . زميلاتها تزوجن , واللاتى آتين بعد ذلك؛ تزوجن أيضا, وهى كما هى .

أرادت أن ترى وجهها فى المرآة , لم تره جيدا لأن حدة الظلام ازدادت , أضاءت المصباح,
رأته , ليس دميما , شعرها مجعد حقا , لكنها تكويه من وقت لآخر , لم يحس أحد فى العمل بأنه مجعد , لكن وزنها زائد تلك مشكلتها , عودتها جدتها على الإكثار من الطعام , كانت تلح عليها: " كلى يا دولت " وتأكل دولت .

العجوز مازالت فوق درجة السلم الواسعة . عادت دولت – منذ شهور- وجدتها فى مكانها , لم يدخلها أحد , ثارت على خالتها – التى تسكن الدور الأرضى – قالت لها غاضبة : " حرام عليك " . لم يكن الوقت متأخرا كما هو الآن .
تعرف هى سمير منذ أن عملت فى التليفون . عندما استعرضت الرجال الذين لم يتزوجوا فى المصلحة لإمكان الزواج من أحدهم ؛ رفضت بشدة أن تفترضه زوجا لها . قالت لنفسها : " لو بقيت العمر كله بلا زواج ؛ فلن أتزوجه " . هو شديد النحافة , ملابسه مكرمشة , وحذاؤه باهت متسخ . يقولون إنه يلعب القمار بمرتبه . لكنه يضحك كثيرا , كل النسوة والبنات يضحكن معه , ينادونه باسمات : " سمير , سمير" , يعطونه الحلوى والسندوتشات أحيانا , يطلبن منه أن يشترى لهن " خيوط التريكو " و" ملابس الأطفال " و " علب الصلصة ". ويشتريها فى المساء , ويأتى بها لهن فى الغد .والرجال يعطونه السجائر ساخرين من بقائه بلا زواج , وساخرين من ضياع أمواله فى القمار.

لكن العمر يمر وهى كما هى . تتزوج فتيات الحارة الأقل منها سنا . واحدة وراء الأخرى . وهى لم يسأل عنها أحد . تسمع فى كل يوم عن فتاة تخطب فى المصلحة . وهى مازالت الآنسة دولت . قالت زميلة لها: " لا تصلح لسمير سوى دولت" كانت تسخر وقتذاك , ولم تكن تعلم أنها تسمعها من حجرة التليفون المغلقة . أرادت دولت أن تبكى , لكنها تماسكت , زميلتها محقة فيما تقول . لا يصلح لها سوى سمير , هو ليس دميما , كما أنه موظف قديم وراتبه كبير . القمار؟! تستطيع أن تثنيه عنه, ستحبسه فى البيت لو تزوجته , ولن تخرجه منه أبدا إلا وقت الذهاب إلى العمل, ستشترى ملابسه بنفسها , ستجعله أكثر أناقة من كل رجال المصلحة .

لو ظلت العجوز فوق تلك الدرجة حتى الصباح ؛ لن تئن ولن تصيح . تستطيع أن تقضى حاجتها فى مكانها , لابد أن تسرع إليها لتحملها وتضعها فوق السرير .
اقتربت من سمير , أعطته حلوى كما تعطيه النسوة اللاتى يردن أن يشترى لهن خيوط التريكو وملابس الأطفال , دعته لكى يجالسها , لأول مرة تطيل النظر إلى وجهه , لم تكن تدرك أن عينيه بهذا الجمال , وأن فمه صغير وشفتيه شديدتا الاحمرار . ضحك كعادته , ظنها تريد أن يشترى الأشياء مثل زميلاتها . سألته عن حاله , قال :
  إننى أسكن مع شقيقى المتزوج , فقد طردت من الحجرة التى كنت أسكنها بعد أن عجزت عن سداد إيجارها لمدة طويلة , وأن شقيقى يضيق بى الآن .
فى كل يوم تسأله عن تطور العلاقة بينه وبين شقيقه , وفى كل يوم يحكى لها عن التطورات بينهما , لقد ضاق به ,هدده بالطرد , سألته :
  وماذا ستفعل ؟
ضحك : سأسكن فى فندق رخيص إلى أن أجد حلا .
سمعت صوت خالتها تنادى أطفالها من الحارة , قالت لهم :
  كفى لعبا ,الساعة تقترب من العاشرة .
العاشرة الآن ؟! لقد مر الوقت سريعا ؛ والعجوز مازالت تجلس فوق الدرجة الواسعة . الجو يزداد برودة وهى عجوز ضعيفة. آه لو أحست خالتها بأن أمها مازالت فوق درجة السلم الآن. أو أى ساكن يراها هكذا . ماذا سيقولون عنها ؟!
لقد أحس سمير بها بعد ذلك , مد يده- فى حجرة التليفون – ولمس يدها . ودت لو ضمته لصدرها الممتلئ وقبلته , لكنها خشيت الزميلات الكثيرات الجالسات حول الحجرة , وخشيت التحقيق والجزاء والفضيحة لو رآها أحد , كما أنها لا يجب أن تبدو أمامه متلهفة عليه . عندما سألته : " لماذا لم تتزوج؟ " ضحك بصوت مرتفع ؛ كأنها قالت نكتة .: " أنا أتزوج؟! ". خشيت أن يخرج من حجرة التليفون ويفضحها , ستفهم النسوة الخبيثات مقصدها. لكنه لم يفعل . قال :
  لا تنس أننى أسكن فى فندق الآن .
ليس مهما , كل شئ يمكن تدبيره , المهم أن يوافق على الزواج منها .
  المشكلة فى السكن فقط ؟
  إنها مشكلة الدولة كلها .
قالها وخرج , شردت هى , منذ أيام قلائل زارت جارة لها تسكن فى البيت المقابل لبيت جدتها , قالت لها : " إنها ستخطب يوم الخميس القادم " تلك الجارة أصغر منها بكثير . لقد كانت دولت صديقة لأختها الكبيرة , أختها تزوجت وتأتى لزيارة أمها الآن ومعها أطفالها الثلاثة . لم تحس دولت بنفسها فبكت , والتفت الأسرة كلها حولها ,أحست هى بالخجل , قالت :" أبكى من الفرحة" قالوا: " نعلم " لكنهم يحسون بأنها تبكى من الغيظ ومن الحسرة على نفسها .
حاولت أن تنقص وزنها شيئا ؛ دون طائل . أتعبتها التمرينات الرياضية , والرجيم أفسد معدتها؛ ووزنها كما هو , لكن سمير وافق على أن يتزوجها .
زارت أمها , فجدتها – التى ربتها وتحبها كثيرا – ما عادت تحس بشئ حولها , وخالتها- التى تسكن معها فى البيت - مشغولة بأطفالها الكثيرين الذين يملأون الشارع . حكت لأمها عما حدث :
  ألف مبروك يا ابنتى , ومتى سيأتى ليخطبك ؟
  لكن يا أمى هو لا يملك سكنا , ولا يستطيع أن يوفر مقدم الشقة .
ربتت على ظهرها قائلة :
  يخطبك , وجدتك لو عاشت اليوم ؛ لن تعيش غدا . شقتها واسعة تتزوجين فيها .
لم تضايقها كلمات أمها هذه المرة فالموت أمر محتوم , وكل الناس ستموت .
مرت شهور والجدة كما هى . تصحو فى الصباح , تجلسها دولت , تضع صينية الشاى فوق الفراش , تضع " الخبز الفينو " المغموس بالشاى فى فمها . تلوك العجوز بفمها الخالى من الأسنان . لكنها لا تموت .
قبل أن تذهب دولت إلى العمل تجلسها فى مكانها فوق درجة السلم الكبيرة , وتوصى خالتها وأطفالها بالاعتناء بها . وتعود بعد الثانية ؛ تجدها كما هى ,لا يتحرك فيها سوى العينين .
أرتدى سمير قميصا جديدا , سألته :
 كسبت ثمنه فى القمار؟
  لم ألعب القمار منذ مدة طويلة .
لكن متى سيتزوجها ؟! العجوز عاشت كثيرا , تزوجت وأنجبت وموتها ليس غريبا , ولن يكون مفاجئا لأحد .
أحست دولت بارتعاش جسدها . أسرعت إلى النافذة المواربة , أغلقتها .الأطفال دخلوا بيوتهم ليناموا , وجدتها فى مكانها .

سيأتى سمير فى الغد , قالت له:
  لا تخشى شيئا , الحجرة موجودة , لكن العجوز تموت .
ضحك كعادته , ظنها تمزح. أكدت بأن ما تقوله حق . إنها تخشى أن يضيع سمير منها . أن يتزوج . إنه يبتعد شيئا فشيئا عن القمار, ولم يعد يرتدى ملابسه المكرمشة . قد يحلو فى أعين الفتيات اللاتى لم يتزوجن وقد يفضل واحدة منهن عليها .
سمعت دقات عنيفة فوق باب خالتها , إنه زوجها قد عاد من عمله . تعرف هى دقاته العنيفة . الساعة تقترب من منتصف الليل والعجوز فى مكانها . فتحت دولت النافذة فى حذر , نظرت إلى الحارة ؛ وجدتها ملفوفة بالظلام . الأطفال الأشقياء كسروا المصباح الوحيد الذى يضيئها. ستأتى أمها فى الغد لمقابلة سمير , سيتفقان على كل شئ . طلبت من أمها أن يأتى إلى بيتها لتتفق معه هناك , لكنها رفضت , خافت أن تغضب زوجها .

لو جاء سمير كما أتفق , ستقترض أدوات المطبخ من خالتها . لاشك أنه سيأتى مع أقاربه . أطفأت المصباح وسارت إلى درجة السلم الكبيرة , كانت العجوز مستلقية على جنبها , تخرج غطيطا منتظما , والحاشية التى تجلس دائما بعيدة عن جسدها .
نامت خالتها والحارة ساكنة , امتدت يدا دولت , لامست جسد العجوز , وجهها كان يستند على الحائط , لم تره دولت , ارتعشت يداها لكنها أسرعت بلمس الجسد الضامر؛ ثم دفعته فى عنف , تدحرج الجسد كصرة سوداء فوق الدرجات , لم تر دولت شيئا .

أسرعت إلى الشقة فى الظلام , أغلقت الباب وصعدت فوق السرير , نامت , أحست بارتعاش جسدها , لم تقو على لمس الغطاء, ظلت هكذا حتى الصباح .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى