السبت ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم ريمون جرجي

الكنائس السريانية في تلاقيها مع الإسلام

عُقد أول كولوكيوم سرياني في مدينة سالزبورغ - النمسا في الفترة بين 14 ـ 16/11/2007، بدعوة من مؤسسة "برو أورينتي" وجامعة "سالزبورغ"، حضرها باحثون شرقيون وغربيون، وحضرها من سوريا نيافة المطران يوحنا إبراهيم رئيس طائفة السريان الأرثوذكس في حلب.

وتهدف "برو أورينتي" إلى خدمة الكنائس الشرقية والتي لم تشأ في أن تنحصر نشاطاتها عند الحوار اللاهوتي، حيث قررت تنظيم نشاط فكري بحت، لا علاقة له باللاهوت ولا بالتعليم الديني، فاختارت دعوة باحثين وخبراء في شؤون الفكر والثقافة لخوض مجالات تخدم الكنيسة بشكل غير مباشر".

وكانت مؤسسة برو أورينتي قد أنشأت المنتدى السرياني في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2006، وهو مكوّن من مجموعة من الاختصاصيين في الدراسات السريانية بهدف تعزيز التراث المشترك، والعمل على إثراء متبادل، ووضع دراسات متخصصة من واقع التاريخ بهدف تمتين العلاقات من مبدأ حوار الحضارات والثقافات، وتُعتبر المؤسسة التي يقع مقرها في فيينا- النمسا، وأنشأها الكاردينال فرنسيسكو كونيك رئيس أساقفة النمسا الأسبق بهدف التقارب مع الشرق. واسمها يعني "من أجل الشرق "، حيث تكوّنت الفكرة أثناء انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يُعتبر أهم حدث في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين.

وفي موضوع الحوار بين الأديان فإن للإسلام والمسلمين اليوم الأهمية البالغة، لأن الإسلام أصبح ديانة مهمة ومنتشرة في كل العالم، ويشهد التاريخ المسيحي في الشرق على هذا الحوار منذ ظهور الإسلام، فالعلاقة بدأت مع الرسول العربي محمد، وامتدت إلى أيامنا هذه، مروراً بكل المراحل التاريخية. لذلك اُقترح تسليط الأضواء من جديد على العلاقة بين الكنائس السريانية الشرقية والإسلام والمسلمين، بناءً على الدراسات الحديثة ومصادر التاريخ في الكنائس السريانية، فتقرر بأن يكون موضوع الكولوكيوم السرياني الأول بعنوان: "الكنائس السريانية في تلاقيها مع الإسلام: اختبارات من الماضي وآفاق نحو المستقبل". حضره المطران آلويس كوثجاسير رئيس أساقفة سالزبورغ، وتُليت فيه رسالة الكاردينال فالتر كاسبر رئيس المجلس الباباوي لتعزيز الوحدة المسيحية، الذي اعتبر المبادرة الجديدة لـ: "برو أورينتي" أملاً جديداً للتعاون بين الشرق والغرب.

جلسة الإسلام في المصادر السريانية

ترأسها المطران يوحنا إبراهيم وتحدث فيها المطران لويس ساكو حول: الحوار المسيحي ـ الإسلامي في المصادر السريانية، كما تُليت ورقة المستشرق سيدنى جريفث وهو أستاذ معروف في جامعة واشنطن دى سى بعنوان: "الكنائس السريانية في أيام الخلفاء الراشدين الأربعة"، أعقبها مناقشة مستفيضة حول مضمون هاتين الورقتين.

نظرة المسلمين إزاء المسيحيين

بحسب ما جاء ذكره في التقرير النهائي للمؤتمر، تبين أنه منذ البدايات ظهرت بوادر اختلاف في موقف المسلمين إزاء المسيحيين تبعاً لكونهم عرباً أو غير عرب، وتبين بعد المناقشة بأن هذه النقطة غير مدروسة بشكل كافٍ، فالمسيحيون في المنطقة كانوا عرباً وغير عرب، وكان للمسلمين موقف من العرب المسيحيين، وموقف آخر من المسيحيين غير العرب!!

وهنا ظهر بأن الخلافات في أمور لاهوتية معقدة في القرنين الرابع والخامس للميلاد، جعلت المسيحيين ينقسمون على ذواتهم، و لكن في كل الأحوال يبدو أن الفاتحين لم يقاوَموا بشدة من قِبَل المسيحيين سكان البلاد الأصليين، وبعض المسيحيين تعاونوا مع المسلمين الفاتحين بسبب ظلم البيزنطيين. فهذه مرحلة مهمة جداً، وعلاقة الخلفاء الراشدين بالمسيحيين تبدو كأساس للعلاقة في المراحل التالية. ولا بد من ذكر العهدة العمرية التي هي الأنموذج لما وعد به المسلمون عند فتحهم للمدن في المنطقة.

مداخلة المطران يوحنا ابراهيم كانت عن "الكنائس السريانية في العصر الأموي وتحديداً من سنة 661 ـ 750 م". والورقة الثانية كانت للدكتور ديتمار وينكلر الذي عنوَّن ورقته بـ: "اللقاءات اللاهوتية والأجوبة المسيحية للديانة الإسلامية في العصر الأموي." وقد تميزت الحقبة الأموية الأولى بالانفتاح الكامل ونظرة التسامح إزاء المسيحيين.

ودارت المناقشات حول اهتمام المسلمين بالمسيحيين في الحقبة الأموية نظراً لكفاءاتهم، ولكن هذه الحقبة التي اتسمت بالانفتاح عرفت أيضاً حالات ظهر فيها العداء والظلم، بسبب مزاج الحاكم ورؤيته للآخر!، وفي هذه الحقبة تَبين أن النصوص التي تناولت الإسلام وأكثرها كُتب باللغة السريانية، كانت للاستعمال الداخلي ضمن الجماعات المسيحية، الهدف منها تثقيف المسيحي وترسيخ مبادئ الإيمان في حياته، وفي بعض الأحيان لمساعدة المسيحيين على الإجابة لأسئلة واعتراضات أثارها المسلمون، لهذا فمن الملاحظ بأن المراجع السريانية أخذت: طابعين، الأول: دفاعي، والثاني: جدلي.

الحقبة العباسية

إنها حقبة غنية بالتبادل الثقافي، والسريان قدّموا الكثير من خلال الترجمات التي قاموا بها من اليونانية عبر السريانية إلى العربية. ونذكر هنا فضلهم في بيت الحكمة الذي نشط كثيراً أيام المأمون، كما لا أحد يستطيع أن ينكر دورهم الهام الذي أدى إلى نهضة فكرية ذات أبعاد ثقافية وحضارية. وقد ساهم انفتاح الخلفاء العباسيين مساهمة كبيرة في هذا الإنتاج الفكري الرائد، وشعر المسيحيون بأن الدور الذي أعطي لهم قد زاد من احترامهم وتقديرهم، والمصنفات التي تركوها في هذه الحقبة في العلوم والمعارف خاصة في الطب والفلسفة تشهد على طول باعهم، وتعطي دليلاً ملموساً إلى أن التعاون الفكري قد أدى إلى هذا النشاط المميز.

الحقبة العثمانية

بعد المغول جاء دور العثمانيين وهي مرحلة مهمة جداً. علماً أن السريان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أخذوا ينقلون بعض المعارف والعلوم إلى الناطقين بالعربية باللغة العربية بالذات، وهكذا عاش المفكرون المسلمون والمسيحيون معاً في عالم ثقافي مشترك حتى أن بعض المفكرين المسيحيين مثل العلاّمة مار غريغوريوس ابن العبري 1286 م، توصل إلى أن يميز بين الإسلام كمنظومة من المعتقدات إلى الإسلام كتراث ثقافي.

وعن الحقبة العثمانية قدّم المطران مار ميخائيل الجميل و الدكتور مارتن تامكي بحثين حول هذه الحقبة التي أفرزت نظام الملل والنحل كمفهوم جديد لتحديد أحوال الجماعات الدينية غير المسيحية، وهنا بدأت دراسة جديدة للأحوال الشخصية للكنائس المسيحية وكيفية التعامل مع الرئاسات من خلال السلطان، وعلاقة نظام الملل الجديد بتكوين الطوائف والكنائس، وهي مرحلة صراعات لأن حركات التبشير في هذه الحقبة أدّت إلى تجزئة الكنائس الوطنية. وكان هنالك تدخل أجنبي لصالح الكنائس التي أصبحت رئاساتها في الغرب. كل هذه الأمور أدّت إلى انحسار كبير في دور المسيحيين في المنطقة، كما أدّت إلى انعزال بعض الطوائف عن المدن الكبيرة لأكثر من سبب منها تخلصاً من تأثير السلطة العثمانية عليها. ولكنها أيضاً مرحلة مهمة وخطيرة في حياة بعض الكنائس التي أرادت أن تؤكد على حقوقها من جهة، وتبرز هُوِّيتها من جهة أخرى. ولم تُغطَ هذه المرحلة بالبحثين المذكورين إذ شعر المشاركون بأن المرحلة تحتاج إلى دراسات أخرى.

خبرة الكنائس السريانية في الهند مع الإسلام

و للاستفادة من خبرة الكنائس السريانية في الهند مع الإسلام (الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهند. يربو عدد أبنائها على مليوني نسمة).

تم طرح ورقتين واحدة لـ بابي فاركيس الهندي، بعنوان: "الإسلام والكنائس السريانية في الهند"، و "الاختبار الهندي إزاء الإسلام في ولاية كيرالا، (وكانت معروفة ببلاد الملبار)"، ولكن المَلباريين عرفوا تدخلات استعمارية غربية، كانت تجربتهم معها مريرة، لأنها جاءت لا لكي تقضي على مفهوم هذا العيش فحسب، بل لتدمر النظم التعايشية التقليدية. فمن هذه المداخلة اكتسب المشاركون خبرة جديدة في علاقة السريان الهنود مع الإسلام خارج نطاق الشرق الأوسط.

أما الورقة الثانية للدكتور جوزيف يعقوب الكلداني بعنوان: "الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط والمستقبل"، حيث توقف المشاركون عند كلمة الأقليات وقد رُفضت العبارة بشكل واضح، لأن الدين أو الأثنية لا ينبغي أن يشكلا مفهوماً جديداً في المجتمع على أساس ديني أو قومي أو أثني.

السؤال الكبير!!!!

وبعد هذه النهضة السريانية وخاصة في العصر العباسي جاء سؤال كبير جداً تم وضعه في البيان الختامي وهو: لماذا بدأ هذا التبادل الثقافي الضخم الذي كان قائماً بين المسلمين والمسيحيين ضمن البلاط العباسي في بغداد يأخذ بالأفول بعد الألف الثاني للميلاد، مع ظهور تشدد في تأويل الإسلام أدى إلى انحسار في حرية الفكر والتعبير؟ وبقي هذا السؤال دون جواب!

في اليوم الأخير للمنتدى، شاركُ فيها المطران يوحنا ابراهيم مع المطران لويس ساكو والأب كرم رزق، حول موضوع: صراعات دينية_ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في العراق وسورية ولبنان. و كان الحضور المثقف فيها كبيراً، تفاعل مع المعلومات التي وردت في هذه الندوة، وطرحَ أسئلة تدل على اهتمام الحضور بقضايا شرق أوسطية، خاصة ما له علاقة بمستقبل المسيحيين في هذه البلدان، وكذلك تصور المشاركين في الندوة للعلاقة التي تربط بين المسيحيين والمسلمين في هذه البلدان على ضوء التطورات الحاصلة على أرض الواقع، وقد تناولت الصحف النمساوية هذه الندوة بالتفصيل.

في كل الجلسات تبين بأن العلاقات المسيحية ـ الإسلامية اليوم مبنية على اختبار الكنائس السريانية ماضياً وحاضراً، فالأمل بأن تتطور هذه العلاقة يوماً بعد يوم للمساهمة في عملية الحوار، والشهادة المشتركة، والتعاون الدائم في كل مجالات الحياة، وقد طالب المشاركون بمتابعة مبادرة برو أورينتي للدراسات المشتركة للمساهمة في تعميق العلاقات من مبدأ حوار الحضارات والثقافات بين المسلمين والمسيحيين. بعدها صدر التقرير النهائي الذي صدر باللغة الإنكليزية ووزع على الصحافة في الغرب، وخُتم هذا الكولوكيوم السرياني الأول بانطباع جيد نقله المشاركون إلى أوطانهم وكنائسهم.

تم إعداد المقال والنقل عن موقع مطرانية حلب للسريان الأرثوذكس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى