الخميس ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم تركي بني خالد

المتخلفون (1)

أنا أعتقد أنه لا يوجد هناك تخلف، وإنما يوجد متخلفون. وهؤلاء نراهم في كل مكان وزمان، ولكنهم يكثرون في مناطق معينة، وهؤلاء المتخلفون لا يدركون مدى تخلفهم ولا يعرفون نوع تخلفهم، بل إنهم يعتقدون انهم أكثر الناس تقدماً وتطوراً. كما أنهم يعتقدون بتفوقهم على جميع الخلائق، ولا ينافسهم في ذكائهم المتخلف أحد.

هؤلاء المتخلفون يتميزون بالأنانية المفرطة وحب الذات إلى درجة تسمح لهم باحتقار الآخرين وتقليل شِأنهم. إنهم لا يعترفون بالآخر، ولا يرون غير أنفسهم. نظرتهم فوقية تجاه الآخرين، ونظرتهم أحادية للأمور، فلا يرون إلا من زاوية واحدة.

المتخلفون لا يرون إلا لوناً واحداً ولذلك لا يعرفون قوس قزح، وهم مصابون بعمى الألوان، رغم معرفتهم باللون الأسود. نظرتهم سوداء ويتشاءمون من كل شيء، حتى عندما يضحكون، فإنهم يختصرون الضحكة إلى أقصر وقت ممكن تجنباً لسوء الحظ.

لا هوية لهم، كما أنهم ضائعون ولكنهم لا يبحثون عن هوية، فهم يلتصقون كالطفيليات على أقرب جسم قوي ويدعون انتمائهم له.

لا يتسامحون رغم أنهم يعلنون بأنهم هم الذين اخترعوا المحبة ورعاية الآخرين. يتمترسون بالتاريخ، ويتغنون بأمجاد الأجداد، لكنهم لا حاضر لهم، ولا وزن لهم، ولا يحسب حسابهم أحد.

لا يستوعبون دروس التاريخ، ولا يفهمون الجغرافيا، ولا يقدرون على ملاحقة التطور عند الآخرين. لديهم أدمغة. لديهم عقول لكنها مشلولة منذ البداية، وفي حالة وجود بعض هذه العقول، ونموها إلى حد ما، فإنها سرعان ما تهاجر إلى بلدان أخرى في هذا الكون.

المتخلفون لا يقرأون، وبينهم وبين الكتب والأقلام عداوة متأصلة. وإن قرأوا فإنهم لا يفهمون، وإن فهموا فإنهم لا يتجاوزون حدود المعنى الحرفي للنص والكلمة، والغريب انهم يدعون في تراثياتهم بأنهم أول من برع في القراءة، وأنهم أول من علم الناس الكتابة.

المتخلفون متناقضون في مشاعرهم، خاصة وأنهم لا تفكير لهم. فهم أحياناً يشعرون بأنهم مضطهدون، ومظلومون، وأنهم دوما ضحية لمؤامرات الآخرين، فالاستعمار هو الذي يسبب لهم مشاكلهم والاستعمار هو الذي يسبب عجزهم، بل أنهم يلومون كل شيء، وأي شيء، حتى إنهم يدعون أن القدر هو الذي جعلهم هكذا. وأحياناً يشعرون أنهم أهل المستقبل، مثلما كانوا أسياد الماضي. ويتفاءل بعضهم أحياناً بأن السطوة ستكون لهم يوماً ما، لكنهم لا يدرون كيف سيحصل ذلك، ومتى؟

يشعر المتخلفون بالنقصِ، تماماً مثلما شعورهم بالتفوق. وفي هذا قمة التناقض. يشعرون بالنقص والدونية إلى درجة تفقدهم ثقتهم بأنفسهم. يقلدون الآخرين تقليداً أعمى في كل شيء، ويشتمون الآخرين بنفس الوقت على أي شيء. يلعنون الظلام في كل لحظة، لكنهم لا يشعلون شمعة واحدة، وحين يحتاجون لشيء من النور، فإنهم يستوردون ضوءاً من الآخرين الذين يسمونهم أحياناً بالأعداء، وأحيانا بالأصدقاء.

المتخلفون فاشلون في كل شيء، لكنهم ينجحون في شيء واحد هو العيش بالتخلف، والرضى به، وعدم الرغبة أو القدرة على التخلي عنه.

لديهم لغة وطنية يعتقدون أنها أصل كل اللغات، ويؤمنون بتفوقها على كل اللغات، ويعلنون أن لغتهم ذات مكانة خاصة وفريدة، لأنها الأجمل والأوسع ، والأقدر. ولكنهم في الوقت ذاته يتخلون عنها بطواعية، لا يستعملونها بشكلها الصحيح، ويقزمونها إلى لهجات عامية كثيرة لا يفهمها إلا القلة الذين يتكلمونها. ويسمحون للآخرين طواعية بفرض لغاتهم، ويتكلمون لغتهم بخليط عجيب من اللهجات والعبارات المستوردة من لغات أخرى، لدرجة أنهم باتوا بحاجة إلى من يترجم لهم لغتهم التي طالما تغنوا بها.

المتخلفون لهم في التخلف فنون، وفي الحديث عنهم شجون، ولذلك سأكتفي عند هذا الحد في توصيف حالهم العجيب، لعلي أجد فيما بعد مزيداً من أوصافهم وطرائقهم في الحياة، وإلى لقاء أخر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى