الاثنين ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم تركي بني خالد

المتخلفون (2)

يعيشون على الشعارات، ويطلقونها في كل مكان وفي كل أوان، لديهم شعار لكل مرحلة، ويظنون أن ذلك كاف لأداء واجباتهم نحو أنفسهم. يعيشون على البلاغة ولديهم فيها باع طويل، ولذلك هم يبالغون في تقدير كل شيء، حتى في البلاغة نفسها، ولغتهم تسمح بذلك، فلا مكان للواقعية حيث تسود البلاغة والمبالغة.

لا يتعلمون من الثقافات الأخرى، ولا يأخذون من الآخرين إلا القشور. لا ينفتحون على حضارات غيرهم ولا يستفيدون مما أنجز غيرهم من علوم, فهم يعتقدون أن ما وصلهم من الأجداد كاف، ولذلك يرفضون كل ما هو جديد.

يسخرون من الجديد، وربما يحاربونه، لكنهم في نفس الوقت يقبلون على ما يعتقدون انه من الموضة، فلا جديد يتبعونه غير الموضة. يلبسون الجينز حتى تحت ثيابهم الفضفاضة، كما يلبسون الجينز ويلبسون معه غطاء تقليدياً للرأس.

ليس لديهم أولويات محددة، لكن إن توفرت لديهم السيولة، فتصبح السيارات أهم الاهتمامات، والتلفونات المحمولة أو المتنقلة تتحول إلى هوس لديهم. والشيء الوحيد الذي لا هوس لهم فيه هو التفكير أو القراءة أو العمل الجاد.

المتخلفون لا يؤمنون بالقوانين، لكنهم يتحدثون كثيراً عن سيادة القانون. لديهم قوانين وتشريعات وتعليمات وأنظمة من كل نوع وصنف، لكنهم لا يطبقونها، ولا يحترمونها، ولا يعاقبون من ينتهكها. لديهم قوانين رائعة ورادعة لكنها على الورق، فالجميع يمجد القوانين ويطالب بتفعيلها بشرط أن لا يكون هو أو هي المقصود بذلك. لا يخافون من القوانين لأنهم يعلمون أنها حبر على ورق، وأن طبقت فعلى البسطاء فقط.

أفراد المجتمع المتخلف كلهم من نفس النوع، ويتصرفون بنفس الطريقة، فلا مجال للتعددية بينهم. المجد للمجموعة، والقيمة للمجموعة، ولا مكان للفرد، وإبداعات الفرد. فالفرد لا وجود له في مجتمع التخلف، فالجميع سواسية في احترام التخلف، والويل لمن يفكر بطريقة غير متخلفة.

ولا وجود للتفكير المنطقي العقلاني في مجتمع المتخلفين، ولا وجود للتفكير الناقد، فالمهم هو التقليد والتكرار وليس الابتكار. المهم هو الأسطورة، والمهم هو الخرافة. لا مجال للتحليل ولا مجال للتفسير إلا ما جاء به الآباء والأجداد. ولا مجال للعلم فالجهل سيد الموقف. ولا مجال للنقد، فكلام المعلم هو الصحيح، وكلام الكتاب المقرر هو الحل، ورأي الأب هو الأفضل، وقول الأخ الأكبر هو المهم، وقرار المجتمع هو الأجدر.

في المجتمع المتخلف عقم أخلاقي من الدرجة الأولى رغم أن الجميع يتغنى بالأخلاق ويدعي أنه الأول بها والأولى بها. حتى حين يسمعون عن أخلاقيات الآخرين، ينسبونها لهم ويدعون أنها سرقت منهم في لحظة غفلة.

ولدى المتخلفون وسائل إعلام قوية تدخل الأعماق وتسري في الشرايين. وسائل تجعل من الأسود أبيضاً ومن الأبيض أحمراً، فالألوان قابلة للتغيير والمزج حتى لو أصبحت بلا لون، وسائل تجعل من البروباغاندا هدفها، وتنجح في مأسسة التخلف الذي لا يستغني عنه أحد.

والمتخلفون متعصبون بالفطرة، ولا ولاء لهم غير عصبتهم وعصبيتهم، فلا يرون الا من ثقب واحد. والانتماء لا يكون إلا لمدرسة واحدة في التفكير. والمتخلفون لديهم الاستعداد لخوض الحروب إذا تعرضت عصبيتهم للنقد، لكنهم يسمحون لأنفسهم بتسخيف الآخر، وتحقير شأنه، لأنه ليس منهم.

عقد من كل الأصناف، فكل شيء معقد، وكل شيء ممنوع أو شبه ممنوع، وكل شيء إما أبيض أو أسود، ولا مجال لشيء بين هذا وذاك، وخطوط مرسومة هنا وهناك ولا يمكن لأحد أن يتخطاها حتى لو كان ذلك في الخيال، لأن الخيال لا وجود له في ثقافة التخلف، فالخيال يقود إلى الابتكار، والابتكار لون من الإبداع، والإبداع شيء منكر، فلا مجال لممارسته.

الحقيقة لها وجه واحد في مجتمع التخلف، ولها مصدر واحد، والويل لمن يدعي انه رأى حتى لو في المنام صورة أخرى للحقيقة. فالوردة دائماً حمراء ولا يمكن لأحد أن يتخيلها غير ذلك، وأن تبين لأحد أن الوردة قد لا تكون حمراء دائماً، فإنه لا بد من الرجوع إلى كتب التاريخ بحثاً عن فتوى تجيز بالنظر إلى الوردة على أنها من لون آخر غير الأحمر المعهود، وفي المجتمع المتخلف لا وجود للنسبية ولا احترام لانيشتاين، فالحقيقة مطلقة ولا يجور أن تصدر إلا عن جهة واحدة بعينها.

وفي المجتمع المتخلف فساد من كل صنف، وتلوث من كل نوع، وتزوير في كل شيء، فاللغة ملوثة، والتاريخ مشوش، والهواء والماء يتعرضان للتلوث، والأطعمة غير نظيفة، والنفوس مريضة، والعقول جامدة، لكن الملفت للنظر أن أحداً لا يعتبر نفسه طرفاً في ذلك، فالأنا لا يدخلها الباطل، أما الآخر فهو دائماً مذنب يستحق أشد العقوبات، إلا في حالة واحدة وهي عندما تقتضي المصلحة المادية للأنا غض النظر، وإلقاء اللائمة على المجهول، الذي لا يمكن إلقاء القبض عليه، لأنه من صنع عقولهم المتخلفة.

أقول قولي هذا وأتمنى أن أكون مخطئا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى