الثلاثاء ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم زياد يوسف صيدم

المتزوجة العاشقة

تعود سكان مدينته البعيدة عن شواطئ البحر في بلد مترامي الشواطئ أن ينطلقوا تجاه المناطق الساحلية في كل صيف، وفى هذا الصيف بالذات قرر سعيد أن يذهب هو الآخر بعد أن أقنعه صديقه بسحر وجمال المكان، فلولا زوجته التى أصرت على قضاء هذا الصيف في بلد مجاور لكانوا هناك كعادتهم المتبعة من سبع سنين .. وصل سعيد إلى المصيف حسب العنوان بعد غياب الشمس وكان تعبا مرهقا من عناء الطريق المزدحمة بآلاف الزاحفين و المنتشرين على الطرقات وفى المحطات يقصدون الشواطئ التى بمائها المالح يتخلصون من عوالق وشوائب على أبدانهم وفى عقولهم على مدار عام كامل فيرمون أثقالهم من الهموم والجراح والأفكار التى وسوست بهم في مياه البحر المالحة. نام ليلته في البنسيون الملحق بالمصيف وفى الصباح استيقظ على صوت يدق عليه باب غرفته ومن خلف الباب صوت الشغالة برق و حنان تطلبه بالنزول إلى القاعة للفطور.. عندما انتهى من قضاء خصوصياته لبس ملابسه التى تناسب حياة المصايف في شهر أغسطس الحار ونزل عبر سلم داخلي يربط الطابقين الوحيدين إلى القاعة والاستقبال ، اختار طاولة صغيرة تتسع لاثنين وما أن جلس حتى جاءته فتاة يافعة تحمل صينية بتا فنجان من الكابوتشينو وقطعة جاتو وعصير برتقال وبيض مقلي أضيف إليه شرائح من المارتاديلا وفى صحن كان المربى والزبد .. شعر براحة غامرة فقد تذكر كلام صديقه عن المكان وخدمته الراقية ووفرة وكرم أصحابه مع زبائنهم الدائمين في كل عام ، نظر بعينيه متفحصا القاعة والحضور ومر على معظم الوجوه الجالسة فلم يتأخر أحدا فقد كانت القاعة ممتلئة بالنزلاء ولفت نظره فتاة كانت تقد اختارت مثله طاولة صغيرة ..كانت هي بلحمها وشحمها فقد لمحها أمس لحظة وصوله إلى صالة البنسيون فابتسم لها ملقيا تحيته فردت عليه التحية .

ما بين البحر ورمال الشاطئ ، وما بين عصائر مثلجة وساندويتشات خفيفة مر الوقت سريعا، وقرُبت الشمس إلى المغيب فبدأ في لملمة حاجياته للعودة للاستراحة واخذ حمام من المياه العذبة، وما إن وصل حتى بادرته صاحبة البنسيون بإعلامه عن موعد العشاء وعن مفاجأة للنزلاء الجدد ؟؟.. تجمعت أسرة البنسيون في المعاد المحدد وكان في الهواء الطلق في مكان تم إعداده بعناية فائقة فالكل يحاول تقديم أجمل ما عنده لراحة الزبائن الدائمين لكسبهم في كل عام، وهذا ما يحدث فعلا فالجميع هنا من النزلاء قد تعودا على القدوم كل صيف وهم يعرفون بعضهم البعض جيدا، وعلى أنغام الموسيقا المتنوعة ما بين الرومانسية الهادئة والصاخبة وانبعاث روائح الشواء الشهية التى تسيل اللعاب في المكان استعدادا لحفلة العشاء الرئيسية المعتادة فقد كان الجوع يضرب الجميع لم تخفيه فرحة الوجوه حول مواقد الشواء الذي تنوع ما بين اللحم والأسماك والدجاج فالجميع طوال اليوم قد أنهكوا جراء السباحة وأشعة الشمس اللآفحة والهواء والأكل الخفيف الذي لم يكن يستقيم مع جهد يوم حافل ...

جلس سعيد إلى ركن بعيد بعض الشيء فما زال غريبا عن الجميع، واختلس نظرات متفحصة يستكشف الحاضرين، يبحث عنها عله يجد رفيقته فهو وحيدا كغيره ،شعر بارتياح يملأ قلبه عندما لحظها حيث كانت هناك جالسة وحيدة تبدو عليها علامات إحراج وتململ فهي أيضا مستجدة على هذا المكان... تبادلا النظرات و التحية للمرة الثانية .. لم يمر وقت طويل حتى تقدمت صاحبة البنسيون تعلن للجميع عن ضيفين جديدين ينضمان إلى المجموعة لهذا العام فتنبه سعيد إلى ذكر اسمه واسم آخر لفتاة فهز رأسه وعرف بسريرته أنها هي كلاوديا كان اسما على مسمى فعلا كصاحبته، حيث قدمتهما لمجموعة المصطافين الذين جاءوا من أنحاء مختلفة ليقضوا إجازاتهم كأسرة واحدة فصفق الجميع لهما ودعوهم للمشاركة بالرقص على حلبة أعدت لهذا الغرض أشبه بخشبة مسرح تعلوها أضواء ملونة تضيء وتتحرك حسب الأنغام الموسيقية، وعلى وقع هذه الأنغام الرائعة السابحة في أرجاء المكان الذي تلون بألوان الليزر المختلفة المنبعثة من السقف كأنها سماء اقتربت بنجومها المتلألئة، تقدما بخطوات مترددة ولكن سرعان ما تشابكت الأيدي في الرقص معا بناء على الدعوة الموجهة وكان التصفيق صاخبا ترافقه أصوات الإعجاب والفرح.. بعد انتهاء الوصلة الراقصة ،قامت صاحبة البنسيون بدعوتهم للعشاء على نفقتها الخاصة هذه الليلة كتعارف وهى عادة تتبعها لكل مستجد تنم عن كرم وحسن ضيافة...

جلس سعيد بالقرب من كلاوديا واستكملا التعارف أكثر وتبادلا الضحكات وانسجما مع الجميع في ليلة رائعة وسهرة جميلة استمرت حتى ساعات الفجر الأولى ، بعدها عاد الجميع إلى مضجعه منشرحا ومنتشيا وراضيا وقام سعيد بمرافقة صديقته الجديدة حتى باب غرفتها وحتى الغد افترقا على موعد باللقاء سبقتها ابتسامة عذبة من ثغرها الساحر..

في صباح الغد عندما استيقظ سعيد قام بطلب كلاوديا عبر التليفون مستفسرا إذا كانت ترغب في شرب القهوة وتناول الفطور بصحبته فأبدت سعادتها وموافقتها الفورية .. مرت ربع ساعة بالضبط عندما حضرت كلاوديا و على ثغرها ارتسمت ابتسامة عذبة و بدت مشرقة الوجه بنضارة تتفتق من وجنتيها وشفتيها وبشعرها المسدل إلى أسفل أكتافها دون كوابح تلجمه وبقوام ممشوق تناسقت فيه أنوثتها بملابس صيفية خفيفة .. تناولا القهوة ثم طلبا الفطور وأشعلا سجائرهما معا و حدثها بكل صراحة عن وحدته فهو هارب من قصة أدمت قلبه الكبير العامر بالحب ما يزال !! فابتسمت مقتنعة وراضية ونطقت مختصرة حديث لم يكن معاده قد حان بعد !! أنا أقضى إجازتي وحيدة هنا يا سعيد ولم تسترسل بالحديث كثيرا ؟! ثم غيرت الموضوع سريعا وبذكاء واضح تخفى شيئا تريد له الكتمان في هذا الوقت هكذا فهم سعيد بذكائه وخبرته قائلة بأنها مندهشة من اسمه الغريب فقهقه وأين الغرابة تساءل.. نعم فانا غريب فأصابتها بلبلة للحظات فسارعت بالقول أأنت أجنبي ؟ لم أتخيل هذا فلهجتك وشكلك لا يدلان على ما تقول فقد اعتقدت أنك من احدي مدننا الجنوبية فرد : لا عليك فانا من منطقة الجنوب في بلادنا !! .. ولا فرق وقهقه عاليا وأردف قائلا : الجنوبان متشابهان عندكم وعندنا في الكثير من النواحي وضحك مرة أخرى وضحكت هي أيضا .. سألته عن إقامته حاليا فلما أجابها بدت عليها علامات الارتياح والفرح يا للصدفة فانا أقيم على ضواحي مدينتك وأعمل محاسبة في البلدية فابتسم وشعر براحة غريبة في أعماقه وهمس لها نحن الآن أصدقاء على الدوام ولن نكون مثلهم مجرد صداقات موسمية فابتسمت ابتسامة فيها نوع من الذكاء والحذر ! وهذا يعتمد عليك يا سعيد قالت....؟؟!!
حاول أن يستوعب الموقف ولكنه أجل فهمه وتحليله لما بعد.....

انقضى النهار سريعا كما الأيام والأوقات الجميلة بالعادة تمضى، وفى المساء قررا الانفصال عن المجموعة والذهاب إلى مكان مجاور للعشاء استدلوا عليه من دليل البنسيون حيث طلبا أطباق من السمك الطازج والذي يميز المكان وشربا قليلا من الجعة و النبيذ الأبيض الذي قدمه المطعم متناسبا مع الأسماك كعادة متبعة.. شعرا بالانتعاش الذي بدا واضحا على كلاهما وحركاتهما فقد ذابت الحواجز بينهما ورفع التكليف..!! واقتربت الشفاه المرتعشة تمثل مرآة لكل منهما وحاجة كل واحد للآخر.. كانت قبلة تعلن بداية لعلاقة حميمة لم يسمحا للقدر أن يقف حاجزا بين رغبتيهما الجامحة في هذه اللحظات.. مضت الأيام سريعا كلمح البصر وكانت سعادتهما مع بعضهما تتعمق في كل دقيقة وساعة تمر فلا يفترقان فنالا إعجاب جميع من يراقبهم، وبدئوا ينسجون حولهما قصصا وحكايات في غيابهما وفى وجودهما أضفت نوعا من التغيير والمرح على الجميع .

عندما قرب موعد مغادرة سعيد بعد اقتراب انتهاء مدة إجازته حيث يتوجب أن يكون في عمله في اليوم الحادي والعشرين من يوليو فقد بقى على هذا التاريخ ثلاثة أيام فقط حيث لم يعد مرغوبا به فكلما كان يقترب هذا اليوم كلما شعر سعيد وتهيأ له بأنه وحش يريد الانقضاض على سعادته فيرغب بقتله وهكذا يتخلص منه ويبقى مجاورا إلى حبيبته .. بينما هو في تخيله طالبته كلاوديا أن يمكث يوما آخرا فوافق.. وفى الغد كانت في وداعه وهى تقول له هذا عنوان عملي وتليفون مكتبي الخاص ؟؟ سنلتقي بعد أسبوع حال انتهاء إجازتي اللعينة !! ... لن يؤخرني عن لقائك إلا....أطبقت يدها على فمه قائلة لا تكمل سنلتقي إن شاء الله فأحس بدفيء يدها وحرارتها التى تعكس وهج قلبها المتدفق بالحب .. رافقته إلى محطة فرعية قريبة فاحتضنته دون تقبيله على أمل اللقاء به من جديد.. وطبع قبلة على جبهتها وبنظرة اشتياق وألم من كلاهما على لحظات الفراق تخلص من ذراعها بهدوء بعد أن سلمها رسالة قصيرة كتب عليها عنوانه ورقم تليفونه، وسطور تمنى فيها أن تتكرر برؤيتها ثانية وقريبا.. أوشك القطار على الحركة وصفارة المراقب بدأت تصرخ بصفير يقترب فترتجف لها طبلة أذنيهما ، تحذرهم فيها لآخر مرة بالصعود وبإغلاق الأبواب...فكانت إشارته التالية بالوداع من خلف زجاج الشباك وهى ما تزال هناك واقفة حتى اختفى القطا ر عن الأنظار......

انتظم سعيد بعمله بالتاريخ المحدد وكانت تبدو على وجهه حيوية ونشاط غير معهودين، وعينين فيهما بريق على غير عادته، انه إحساس فريد من نوعه يكتسح مشاعره فتفيض على حركاته ونظراته وتصرفاته مع زملائه وغير هم بشيء من الارتقاء والتسامي، إنها سعادة في أعماق قلبه الذي عاد ليخفق، فتنعكس على مجمل حياته بعد أن اكتست بحلتها من جديد..!!

لم ينقض الأسبوع بعد حتى دق تليفون منزله من المتحدث.. أجابت أنا كلاوديا لقد وصلت الآن محطة القطارات المركزية !! كيف أستطيع الوصول إليك ؟؟ فاخبرها برقم الحافلة الثاني عشر التى ستستقلها و مطعم البيتزا الذي ستزل أمامه حيث سيكون في انتظارها.. وهو في طريقه إلى المكان المحدد تذكر بأنه باق لها خمسة أيام على انتهاء إجازتها هناك، حيث البحر والهواء والراحة والاستجمام فحك رأسه مبتسما.. ولكنه لا يريد أن يستبق الأحداث وما هي إلا دقائق حتى نزلت كلاوديا من الحافلة وكانت المفاجأة فهي ما تزال تحمل بيدها حقيبتها الكبيرة وهذا يعنى أنها لم تذهب لبيتها وجاءت مباشرة إليه...!! وما أن اقتربت منه حتى ارتمت بين ذراعيه هامسة له هناك لم أعد أحتمل البقاء دونك حيث صغر البحر على كبره وضاق بى الكون على اتساعه و اختنقت أنفاسي بدونك وبدا الناس هناك كالأشباح في نظري ولم يعد للحياة طعما في غيابك.. لقد جئت لأمكث معك بقية إجازتي فهل تسمح لي ! فأجابها تسبقه لهفته واشتياقه هذا أجمل كلام أسمعه في حياتي وسكت منطق الكلام واصطحبها منطلقا إلى شقته ..وهناك سُمعت أصوات الموسيقا الرومانسية التى استمرت تنثر أنغامها حتى ساعات الفجر !!.

في اليوم الخامس والأخير والذي حسبته بدقة متناهية ؟؟ سألته بصراحة إن كان قد فهم شيئا عن وضعها الخاص ،فأجابها فكرت في كثير من كلماتك الغامضة أحيانا ،ومن الممكن أن أكون قد فهمت بأنك.....أجابته بعد أن قطعت عليه الكلام نعم فأنا متزوجة ولكنى لا أحب زوجي فقد كان زواجي منه نتيجة لأوضاع مركبة يطول شرحها.. فأجابها سعيد كنت أشك بذلك من دلالات كلماتك وإجاباتك المتقطعة وأنك تبحثين عن شيء مفقود بداخلك يا كلاوديا ولكنى لم أكن متيقنا ولكنك أخطأت العنوان !! فانا لا استطيع السير على هذا الطريق وبيننا رجل آخر يحول دون تواصل مشاعري تجاهك فهذه أنانية مفرطة حد القسوة بل انها سادية لن أمارسها على الآخرين فهو أحق منى بجسدك وحبك الذي بمرور الوقت قد يحن قلبك له يوما ما...؟ فليس من أخلاقي أو مبادئي أو عاداتى في الحياة أن ابني حبا على أنقاض وعذابات الآخرين وتعاستهم فهل نسيت بأني أنحدر من بلد يعانى أهلة الحرمان و قهر العالم وسادية المحتلين .. فاني أعتذر لقلبي ومشاعري الصادقة.. ولقلبك أن يتراجع ويُحكم العقل فمن يحب بصدق لا يتمنى إلا الحب والخير للجميع.. ولتكن أيام سعادتنا القصيرة التى أمضيناها معا ذكرى نتذكرها دوما فهي لا تمحى من الذاكرة.. فهي هنا مغروسة في ركن عميق في قلوبنا الكبيرة والعامرة بالحب والبعيدة عن معاني الأنانية والخيانة للآخرين فهم هناك ينتظرون عودتك بشوق ..

هنا أيقنت بأنها نهاية قصة حبها العابر فأخرجت من حقيبتها وردة حمراء وتركتها على الطاولة، وبنظرة حزينة صادقة إليه بدموعها ألقت و مضت.. و هو هناك متسمرا في مكانه كالتمثال ولكن من عينيه تحركت دمعتين تدحرجتا على صحن خده ومسحهما بيده اليمنى من على لحيته الخفيفة.. فكانت النهاية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى