الاثنين ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٤
بقلم محيي الدين غريب

المحاكمة 4

قلقت عندما نادتنى زوجتى هذا الصباح لتبلغنى عن وصول خطاب من مسيو جاك، قلقت لأنه قلما تصلنى منه خطابات، إذ نحن على تواصل إما هاتفيا أو بالبريد الالكترونى. وزاد من قلقى عندما تذكرت أن خطابه الأخير كان منذ عدة أعوام يبلغنى فيه عن حادثة له بالسيارة أثناء زيارته لأبنته فى استراليا وليطمأننى عن نفسه والعائلة، وكان باقى خطابه الطويل فى وصف شيق للطبيعة والحياة هناك فى استراليا.

أسرعت بلهف لقراءة الخطاب وبعدها طمأنت زوجتى أن مسيو جاك بخير وهو يقترح علينا أن نرافقهم فى رحلة بحرية بالعبارة حيث نتوقف فى عدد من الموانئ والجزر للزيارة. كان مرفق مع الخطاب تفاصيل وصور وخط سير الرحلة وما إلى ذلك مما شجعنا بالموافقة ولتحديد تاريخ الرحلة.

كان الأبحار من مدينة برشلونه بأسبانيا، وفى اليوم المحدد تقابلنا وكان علينا المرور بعدد من الأجراءات المكثفة تكاد تكون أكثر من أجراءات رحلات الطيران. ويبدو أنه لابد من كل تلك الأجراءات إذ نحن نكاد نبحر داخل مدينة متكاملة قد تحتاج إلى خريطة للتحرك فى داخلها من مكان إلى آخر.

أتفقنا على أن نقضى معظم النهار للأستمتاع بالشمس والهواء النقى والقراءة على سطح العبارة العملاقة وفى الموانئ التى سنزورها، ثم فى المساء للأستمتاع بالعروض الفخمة التى تقدمها إدارة العبارة.

انتهزت الفرصة فى أحدى الأيام ونحن نسترخى فى أعلى سطح العبارة بالدور الخامس عشر، حيث كنا ربما اقرب للسماء منا للأرض، انتهزت الفرصة لكى أثير موضوع جدل اللقاء المتفق عليه من المقابلة الأخيرة، ألا وهو عنصرية الإله. وكأن مسيو جاك قرأ ما يدور فى خلدى، وقبل أن أتفوه قال فجأة وبدون مقدمات: أؤكد لك ياعزيزى أن محاكمة الأنبياء لاتزال قائمة، حتى ونحن بصدد موضوع مختلف مثل عنصرية الإله. لأن الأنبياء والوسطاء إما أقروا عنصرية الإله وروجوا لها، أو أنهم أخفقوا فى تفسيرها كما يريد الإله، أو أنهم غفلوا عما جلبته على الإنسان من مآسى ومعاناة.

قلت: كأنك تبرئ الإله وترمى اللوم على الأنبياء.

قال: لا بالطبع فالمسئولية تقع على الإله الخالق. فمنذ بداية الخلق، تعمد الإله القدير أن يبدأ الحياة بأول تميز عنصرى عندما خلق آدم أولا ثم خلق حواء من ضلعه، بدلا من أن يخلقهما معا وفى نفس الوقت ومن نفس المادة.

قلت: كما تقول الكتب السماوية أن الإله أراد أن تخرج حواء من ضلع آدم رمزا للأبوه والرعاية ورمزا لعلاقة أبدية من السكن والمودة والرحمة. كما أن الإله أوصى بها آدم مرارا وتكرارا. وكان لابد من التفرقة فى القدرات العقلية والبدنية والنفسية حتى يكون هناك قائد واحد يسير أمور الحياة.

قال مسيو جاك: هذا ما كان يتمناه الإله، ولكن ما حدث وما يحدث هو غير ذلك. فخروج حواء من ضلع آدم كان يمثابة تشجيع له من الإلة ليصبح أكثر سيطرة واستبدادا وتكبرا. وجاءت الأديان السماوية لتؤكد ذلك. فالأسم المذكر يستخدم للإشارة إلى الله محاطا بملائكة ذكور ويختار أنبياءه الذكور وهكذا... وتتعرض المرأة للإهانة والتهميش من خلال التعاليم الدينية التى ميزت الرجل على المرأة مرارا وتكرارا. فالرجال قوامون على النساء، وهى ترث نصف الرجل، وشهادتها نصف شهادة الرجل، بل أن شهادة الرجل كشهادة مائة أمرأة كما فى بعض الديانات ...الخ.

ولولا القوانين المدنية والإنسانية لمساواة الرجل والمرأة لكانت حالة المرأة أسوأ يكثير. ومع ذلك فهى لاتزال ترجم وتهان وتستغل فى معظم بلاد العالم.

قلت: إن الكتب المقدسة علمتنا أن الرجل والمرأة متساويان في نظرالإله ولكن لديهم أدوار مختلفة في خدمته، وأن الإله أعطى المرأة حقوقها مثل الرجل، وأمر الرجل بأن يعاملها بالمعروف.

قال: وبعد ذلك أصر الإله على المزيد من التميز العنصري عندما فرق بين االبشر على أساس اللون.

قلت: إن تفاوت الالوان في البشر مثله مثل التفاوت فى الكروموسومات والجينات والشكل والمظهر والذوق، أراد الإله بها التنوع والأختلاف حتى لا يسود الملل والضجر، وربما لحكمة لانفهمها. ومع ذلك أمر الإله بالمساواة والمحبة، وهو بالقطع ينظر إلى عمل الإنسان ونواياه وليس إلى لونه.

قال: كل التفاوتات الأخرى سواء فى السلوكيات أو فى الموروثات استطاع العلم والإنسان أن يتحكم فيها ويطوعها من أجل ما هو أفضل، فيما عدا تفاوت الألوان في البشر والذى هو بالقطع متعمدا من الإله.

فإذا كان هذا التعمد لحكمة ما لانستطيع فهمها بعقلنا الكونى فإن ذلك يكون تقصيرا شديدا من الإله لما له من آثار دمرت فصيل كبير من البشرمنذ الخليقة. الكتب السماوية والرسل ساهموا فى هذه الظلم على هذا الفصيل دون أى ذنب أرتكبوه، وكأنه نوع من العقاب.

حتى آيات الكتب المقدسة تحرض على هذا التمييز العنصرى: "يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون". وحتى فى يوم الحساب: " ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة"، وفي سفر التكوين 9 :"فنجد أفريقيا السوداء كلها من أبناء حام، وقد تم الحكم عليهم بالعبودية بسبب خطأ حام الفظيع" فأين الحكمة فى ذلك.

قارة بأكملها تعاقب وتروع ويحكم عليها بالعبودية تبعا لحكم الكتاب المقدس، وفوق ذلك أبتلاها الإله الفقر والمرض وقسوة المناخ، فأين الحكمة فى ذلك.

اللون الأسود بقترن بالظلام وتعفن الطعام وتفسخ الأجساد بعد الموت وبمرض الطاعون وما إلى ذلك، فأين الحكمة فى ذلك. الطفل الصغير البرئ يولد اسود الجلد، ليجد نفسه مختلفا بين الأطفال الآخريين، فأين الحكمة فى ذلك. ولا يزال السود يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية حتى وقتنا هذا.

للأسف ياعزيزى، إن جميع الديانات السماوية فشلت في محاربة التمييز العنصري، بل كانت تشيع العبودية والرق والجواري. ولولا تدخل الإنسان والمنظمات الإنسانية التى تدين التمييزعلى اساس العرق واللون لتدهورت حالة وعلاقة الشعوب أكثر مما هى عليه الآن.

مسيو جاك تنهد قائلا: ثم جاءت الأديان السماوية، وهى أيضا عنصرية فى طبيعتها (حيث أنها ظهرت جميعها بين السلالات السامية)، وفيها يتمايز أصحاب كل دين من الأديان على أصحاب الديانات الأخرى، ما يعرف بالتعصب الديني. جاء أول الأديان المنزلة معبرا عن نخبة مختارة من الشعب اختصها الإله بالحب والصلاح دونا عن الآخرين. وبعد عدة قرون يأتى دينا جديدا ورسولا يأتى بالمعجزات ويضحى بنفسه من أجل الإله، بعد أن أخفق الشعب المختار. ثم عدة قرون أخرى ويأتى دينا جديدا ورسولا جديدا، هذه المرة هو خاتم المرسليين واتباعه سيدخلون الجنة والمشركيين إلى النار.

قلت: عزيزى جاك، أن الأديان واحدة والرسل متفقة، وإنما الاختلاف والتنوّع هو في أنماط الممارسات العقائدية وفي الطقوس والشعائر، وهو تنوّع إيجابي فيه ثراء يحفّز على الأبتكار ويمكن كل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يريدوها.

وربما أن الإله الذى خلق الإنسان أنزل هذه الديانات على أختلاف تعددها وأختلاف أزمانها وأماكنها لكى تساعد الإنسان أن يتجاوزعدم فهم تعقيدات الحياة وأسرارها.

قال مسيو جاك: لا، بالقطع جاءت الرسل غير متفقه، جاءت بشرائع وقوانين مختلفة حتى أنها أربكت الإنسان وجعلته لا يعترف بالأديان الأخرى، وكأنها لآلهة مختلفة.

أختلافات دفعت الإنسان على مر العصور وحتى الآن إلى حروب دينية طاحنة فى سبيل هذه الآلهه مدعومة بآيات الله وأقواله وأقوال رسله وأنبيائه، يتجلى فيها تفوق إله بعض الشعوب على إله البعض الآخر، وكأنها حروب خاصة بالآلهة نفسها لبيان تفوقها. بل أحيانا حروب بين طوائف الدين الواحد.

الله الخالق، الذي يقول للشيء كن فيكون، كيف يصور نفسه فى كتبه المقدسة فاقدا القدرة ومغلول الأيدى، وعاجز على الدفاع عن نفسه فيدعو الناس للقتال وحتى الموت في سبيله كي يمنحهم حبه.

يقول نيتشه: "إن الأديان تعلن صراحة عدائها للحياة وللطبيعة ولإرادة الإنسان ".

قلت: إن الأديان بحكم إنتمائها إلى السماء، فإنها تدعو للحق والصلاح والسلم والسلام، وإنما العائق في هؤلاء الذين يسيؤا فهم الأديان ويستغلّونها للتحكم في أقدار الناس ومصائرهم.

قال: أنظر أيضا كيف أن الطبيعة التى يتحكم بها الإله وهو الذى سواها وطوعها من أجل البشر، جاءت عنصريتها طاغية ولم تعدل بين البشر، فليس هناك تكافؤ طبيعى بينهم فى القوة أو فى الغنى أو فى الذكاء أو فى الجمال، ناهيك عن العيوب الخلقية التى يولد بها ملايين الاطفال كل عام.

ومع ذلك جاءت الأديان تدعو إلى قبول كل ماهو كائن على علاته لتضيف تميزا عنصريا آخرعلى الإنسان. فهل كان ذلك متعمدا من الإله أو خطأ فى الصنع؟.

ولحسن الحظ جاءت القوانين المدنية الرحيمة التى صنعها الانسان لتعوض هذا الأختلال فى التوازن، لتساعد الضعيف والفقير والاقل ذكاء والمريض والمعوق وهكذا.

حتى المخلوقات من الحيوانات لحقها شيئ من العنصرية، فصوت بعض الحيوانات نشاذا ولحم بعضها حراما وملامسة بعضها نجاسة، وهكذا يفرق الإله بين الحيوانات ويوحى للإنسان أن بكرهها أو يتجنبها.

أفقنا على نداء زوجاتنا يذكروننا أن نستعد للعشاء ثم لحضور العرض المسائى للبالية، وكانت الشمس فى الأفق تستعد هى الأخرى للغروب، وشعاعات الشمس تتسلل الواحدة تلوالأخرى مع نسمات الهواء المنعشة.

وأتفقنا على أن تكون المقابلة القادمة خاتمة لهذه السلسلة من المناقشات التى امتدت لعدة سنين، ولتكون نوع من المرافعة لتعضيد أو رفض فكرة المحاكمة. وأيضا حتى نفسح المجال للجدل فى مواضيع أخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى