الثلاثاء ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد عباس علي

المرآة

لا أكاد أذكر تلك الظروف التى اضطرتنى للنظر الى هذه المرآة ولاحتى مكانها فى البيت. هل كانت فى حجرة النوم أم الردهة ..كل ما أعيه جيداً هو أننى وقفت أمامها ولم أر وجهى كما أعرفه ..لم يكن زجاج المرآة مكسوراً ولم يكن ماؤها باهتاً بل كانت سليمة مصقولة الزجاج، ورغم هذا حين نظرت فيها رأيت وجهى مبعثراً كل عين فى ناحية والأنف فى ناحية والفم فى ناحية ..الغريب فى الأمر أن رقبتى كانت محنية على صدرى كأننى اتلقى اوامر من شخص أعلى أو أنصت الى تقريع عنيف ورغم هذا كانت هناك ملامح مبعثرة!

المرآة لاغبار عليها، تعكس صور الأشياء حولى كما هى، المقعد الكبير فى الركن بخشبه الذهبى وقوائمة المتآكلة ومسنديه وظهره الطويل، المائدة الصغيرة أمامه بزجاجها الأزرق أ والنافذة المفتوحة الشيش التى ينفذ عبر فتحتها شعاع الشمس الذى يشى بما فى الهواء من غبار وأتربة، ويرتمى على السجادة المتهرئة النسيج ولونها الذى كلح من طول عشرتها لنا وانعكاس صورة جزء من الحديقة بأشجارها العتيقة وأزهارها الذابلة التى تشكو الاهمال منذ سنين، فاذا أدرت وجهى فى عمق الحجرة قليلاً فهناك السرير النحاسى الذى لم يعد لمثله وجود هذه الأيام بزخارف أعمدته النحاسية التى ينتهى كل منها بأكليل من زهر معدنى أصفر مايزال يحتفظ ببعض لمعته الى الآن، والدائر القماش الذى يلف أعلى العمدان الأربعة بلونه الأبيض المنطفىء، وزخارفه من الورود وفروع الأشجار، وهناك ايضا الدولاب ذو الضلف الأربعة بحجمه العملاق وأدراجه العديدة وارتفاعه الذى يقارب السقف ..كل هذا بنظرة من المرآة أراه ..احدد معالمه .. إلا وجهى أراه مبعثر الأجزاء، عين هناك على اليمين تدور حدقاتها فى متاهة فراغ لاحد له، ترى ظلالا تتجه نحوها، تعود خائبة السعى لاتستقر على شىء، وعلى البعد منها وفى الناحية المقابلة عين أخرى تتجه الى اليسار ..اليسار حدوده معروفة بلا أعماق، تدور لأعلى وتهبط لأسفل ولا جدوى، ثم الأنف يتشمم رائحة تعبق المكان، الرائحة لاتطيب له، يشكو منها، يبحث عن مصدرها دون جدوى، ثم الفم وبه اللسان يتذوق طعم الهواء، يعلن أن به طعماً غير مستساغاً فيمجه رغما عنه، يحاول الكف عنه يغلق الفم..الأنف به عيب، التنفس فيه ليس طبيعى، يحتاج لاستمرار فتح الفم للمساعدة على التنفس، يتذوق اللسان رغما عنه طعم الهواء، يضيق به ولايملك الاعتراض ..أنظر أبحث أدقق ..أشك فى هذه الصورة الجديدة التى لم أرها من قبل أهرول الى مرآة اخرى ..نفس الوجه المبعثر ..أشك فى البيت ..أدور فى الطريق أفتش المحال ..المقاهى ..نفس الشىء ..أسأل أحد المارة هل ترى فى وجهى شيئاً...؟
يقاطعنى قبل أن أكمل سائلاً:-
 هل ترى فى وجهى شيئاً أنت؟

نوقف المارة ..تتجمع الوجوه..نسألهم..يسألوننا..تكتظ الطرق
..بالوجوه المتسائلة بلا مجيب.

تقرر صرف مرآة لكل مواطن ليرى فيها وجهه سليماً موحد الأجزاء على أن تسحب المرايات القديمة من البيوت فوراً..نظرنا جميعاً ..الأجزاء المبعثرة تجمعت ..الأشلاء توحدت ..صفقنا بحماس وهتفنا بقوة:
 رجعت الى البيت ممتلىء القلب بالأمل..رأيت إمرأتى وسط الصالة ..وجهها كما عهدته .. تتحرك على مهل نحو المائدة

لتجهيز الافطار ..وضعت المرآة الجديدة مكان القديمة ووقفت أمامهاعلى ضوء الشمس أنظر متباهياً بما
فعلت ..سمعتها تسأل :
 الى متى سيظل وجهك مبعثراً ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى