الخميس ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

المعبر والموكب الرسمي

استوقفني رجل أمن تطل من بدلته الزرقاء سحنة وجه أصفر ، امتدت يده اليمنى بشيء مستطيل أسود نحو بطني ثم خاصرتي ، عرفت أنه جهاز كشف ، يشبه كثيرا ما كان بيد الشرطي في المطار، أعلن مكبر الصوت عن التزام كل شخص مكانه ، في انتظار اكتمال ترتيبات أمنية ، عقب الإعلان عن قنبلة في بهو استقبال المسافرين، صدقا ، فزعت ، خشيت أن أموت في زحمة الضوضاء بلا معنى ، بعدما قضيت عمري أحلم بالتضحية من أجل شيء ما ، طالبني ببطاقة الهوية الوطنية ، وعينه تخترق المارة من حولي ، قبالتي مواطن آخر يخضع ربما لنفس الاستجواب ، لا تحتاج لكبير عناء كي تستشف ما يمكن أن يطرح عليك من أسئلة بليدة ، بعد أحداث ’’ الدار البيضاء ’’، أطلقت يد الاستخبارات بكل ألوانها لتلوث حتى الماء الذي تشربه ، كم كنت أحب زيارة هذه المدينة ، بالرغم مما شيع عن فزاعة المتمسلمين في أطرافها ، ظلت أتردد عليها ، حينا لشراء كتاب ، وأحيانا أخرى للتسكع بين حاناتها الآمنة ، نحتال على النادل ، فندخل متلبسين بإخفاء القنينة الأولى من المتجر الممتاز وسط المدينة ، الرغبة في السكر بأقل كلفة تجعلنا نتصابى لحد الجنون ، يراهن نديمي على النسيان ، و أراهن على حل عقدة في لساني ، يتهجى حروف البطاقة و عينه على الطريق ، ناولني إياها آمرا بتحويل الاتجاه ، أريد الوصول إلى مؤسسة القرض ’’ سبانيسا ’’ ، إنها على بعد عشرة أمتار ، لا تجادل في الأوامر ، انشغل عني بتوقيف راجل آخر ، بدت لي البناية على مرمى البصر ، ترددت في الاستجابة لأمره هامسا لنفسي بمحاولة إقناعه ، تضخم همس المحاولة في اتجاه الإصرار على عبور الممر الخاص بالراجلين ، ليس بيني وبين مؤسسة القرض غير خطوات ، وتريدني أن ألف عشرين شارعا ، حدة نبرته المتجهمة أفاقتني :

’’ يالله أسيدي خوي ’’ (1)، وأشار بيده إلى الذراع نحو المعبر الخلفي ، من بعيد سمع صفير السيارات الرسمية دانيا كالموج : ’’ يالله خوي علينا ’’

تأكد لي أن المراقبة المتشددة على حركة المواطنين ، ليست فقط تحسبا لكل الاحتمالات ، حين مرر جهازه على بطني وحول خاصرتي، لم أفكر سوى في حملة البحث عن الأحزمة الناسفة ، كم سخرت من غباء الموقف الذي حُشر فيه ذلك الشاب الوسيم ، لم تكن صفرته لونا لبشرته ، أزيز المروحيات فوق الرؤوس ، متماوجاً بين أصوات لا تخطئ الأذن مقاتتها ، أطلت كالأفعى بأكثر من رأس سيارات فاحمة السواد ، لم يعد بإمكانه احتمال وجودي أكثر ،’’ يالله ، خوي ’’، و دفعني بكف هوت على ظهري دون التفات إليّ ، ناول فمه صفارته المعدنية، وراح ينفخ بملء ما تبقى في صدره النحيف ، كنا قد صرنا سبعة رجال و امرأتين ، تراجعنا كالقطيع لتحويل الاتجاهات، لا أدري هل كنت أريد مشاهدة الموكب الرسمي لسبب محدد ، ارتكنت زاوية صارية إسمنتية لمتابعة اللقطة ، فوجدتني بين رفاق العبور المستحيل، كانوا مثلي يتربصون بعيون مشدوهة، نظرتْ إليّ امرأة كنت لمحت خالا تحت جفنها الأيسر فابتسمت ، ثم تذكرت الوضع الذي نوجد فيه ، لا شك أنها احتقرتني بداخلها، كيف استسلمت لرجل الأمن، وليس بيني وبين غرضي إلا أمتار قليلة ، ثم ردت عليّ بابتسامة دافئة أذابت توجسي من نظراتها ، عبر الموكب امتداد بصرنا في رمشة عين أو أقل ، صفارات و محركات في الأرض و في السماء ، لم أتساءل عن غياب الحشود التي ظلت لأزيد من أربعين عاما ، تستقدم كالقطعان من كل الأطراف للتهليل والتكبير، يروِّج الكثيرون عن تحولات في نظرة ’’ المخزن’’ للشعب، بل سمعت بأم أذني من أحد الإخوة سامحه الله ، أن لا خوف بعد الآن على هذه الأمة ، لجمته ، فلم يسترسل في حديثه السخيف عن الديمقراطية الجديدة ، كان يعرف قصة تسرب خبر الإشراف الأمريكي على أكبر مؤسسة دينية في البلاد، توارت الأصوات مبتلعة ما تبقى من الأشباح الحديدية ، أين أصحاب البدلات الزرق؟

خلا المعبر الذي استوقفنا فيه ، اندفعت في اتجاهه أبغي طريقي الواصل نحو غايتي ، وجدتني بين الجماعة تلتحق بالممر الذي منعنا منه لخمس دقائق خلت ، لن أنكر أني خفت مثل غيري ، من انفجار قنبلة من هذه القنابل التي تخطئ أهدافها بشكل مريب، وضرني أكثر ، أن تصيبنا في غفلة عن العيون التي انتهت مهمتها .

*************

(1) خوي : بمعنى اخْـلِ ، انزحْ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى