الجمعة ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم خالد المواجدة

الميسة خضراء الكرك

الميسةِ... شجرة توحدت على قمة إحدى تلال الكرك الجنوبية... ترفع كفها الأيمن فوق عينيها وكأنها خضراء الكرك، تراقب من بعيد بعيد مؤاب من الشمال لعلها ترى ميشعَ، وتراقب طلائع الفتح الخارجة من الجنوب...وتفك أسرجة الخيل في مؤتة من جانبها الأيمن...تتعقب أبناءها من فوق...تنثر ظلال شَعرها فوق "عْينونْ"...تستجمع قواها من اجترار ذكريات من رحلوا وتركوها... تبسط ساقها الأيمن كيما تتكئ ابنتها الصغرى لتروي لها حكايات من عشقوا وراحوا...زرتها مرة فانتفضتْ فرحة بهذا القادم من الجنوب.

أقترب وجلاً، بعد أن أحكمت وثاقي الآلام والأحزان، وركبتني هموم الزمن الغادر، فعدت لحضن أمي... اقتربت، وألقيت قميصي المرقّع على وجهها الذي اتسع ليحمل كل تواقيع الزمن المر...تناديني لأقترب أكثر...مرحبا يا ابن من نثروا دماهم فوق أرضي فاحمرت دهراً، واخضرت دهورا

يترقرق في عينيها الدمع الأخضرُ
تبكي جزعاً
تبيض العينان
أم يئست من عودة ولد ضل وتاه
اقترب بصمت المذنب حين يلامس وجه المصحف
أتحسس هذا الوجه الشجري
وألامس مرتجفاً هذي الأغصانْ
أحضنها في رئتي اليمنى.. في خاصرتي
تخنقني العبرات وأكتمها
أتذوق طعم الدمعة
حين تفتش عن وطن فوق الوجه الأسمر
يا هذا المجد الغائر في أعماق الصوّان
إني أجثو ملتحفاً زمن التوبة
أطلب منك الغفران
يا أمي الميسة
إني أتذوق وجه أبي
تتموج في لحيته الكثة أنفاسي
تغرقني حبات المطر النازل من فوق
يرتد بصيراً هذا الوجه اليعقوبي
يا أمي الميسةُ
آلاف السنوات تراقب أفياءك
والنايات الجذلى تعزف ألحان العشق
يا من راحوا
يا من رحلوا
هذي الأم تنادي صامتةً أحفاد الغيم
و تداعب نقع الصهوات
وتنادي خالد والجعفر
يا من رحلوا
أين الزمن الأخضر
أين صباحات التكبير
أين مساءات التهليل
أين أهازيج الخيل
أين الروم وأين العربُ
أين صليل السيف الطالع من غمد مؤاب
*****
تذرف عيناها ثانيةً
يا أمي الميسة لا تبكي
إني أتجذر تحت ترابك كي لا تبكي
إني باقٍ تحت ظلال الخيل
باق كيما أرتشف رحيق العمر المرّ
كي أتجرع كأس الغربة
كي أظمأ أكثر
*****
يا أمي الميسة
يدك الممدودة تلهو في شعري
يدك الأخرى
تلهو في جمر الجدب ونيران الريح
أغفو صحواً
أتخيل زيداً يأتي من مؤتة
يجلس تحت ظلال الميسةِ
يلعق جرحاً من غسّان
يصلح غمد السيف
ويربت فوق الترس الجسدي
ويهرول نحو الشرق
****
يا أمي الميسة
نحن بقايا جعفر لا تبكي
راح الروم وراح الفرس
وظلت أمي تمسح وجه الشمس
وتهدهد ناصية البدر العربي
وتغني من فوق التلة
إني الباقية المغروسة
في قلب الأرض وفي رئة الأجواء
أكتب تاريخاً ورثاء
إني أم الأرض العطشى
لكن
أرويها شهداءً ودماء

مشاركة منتدى

  • رغم قدم تاريخ نشر هذه القصيدة لكنها استوقفتني لأتغزل بكلماتها التي أسرت حروفها ثنايا روحي وعقلي، إبداعك شاعرنا الحبيب فوق الوصف وبعيد المنال لكنه يطير بالقارئ إلى الجنوب ليغرف عشقاً بترابه ويطير هياماً في سمائه. كم أحسد الجنوب لأنك من ابنائه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى