الأربعاء ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم إبراهيم ياسين

الهوية والعنف

وهم المصير الحتمي

صدر العدد 352 لشهر يونيو 2008 من سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان(الهوية والعنف ـ وهم المصير الحتمي) للفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا صن الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1998 ترجمة الأديبة والمترجمة سحر توفيق. صدر الكتاب في طبعته الأصلية بنيويورك سنة 2006.

لقد سبق أن نشر لنفس المؤلف كتاب بعنوان(التنمية حرية ـ مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر)عدد 303 مايو 2004 ضمن سلسلة عالم المعرفة.

قسم المؤلف الكتاب إلى تمهيد ومقدمة وتسعة فصول وخلا من الخاتمة، حيث خصص آخر الكتاب لهوامش الفصول.

إن ما دفعني إلى محاولة عرض وتلخيص هذا الكتاب هو طبيعة الموضوع الذي يتناوله، وهو مجال شائك تتداخل فيه جوانب متعددة متنوعة تجعل الاختلاف حولها أمرا ممكنا، لكنه من الضروري الحسم في القضايا التي يتناولها، قصد الوصول ـ في حدود الممكن ـ إلى أقرب عوامل التفاهم والتقارب بين الأمم والشعوب... وتحقيق أكبر قدر ممكن من الحوار بين الثقافات والحضارات... في حال توفرت النوايا الحسنة.

التمهيد:

تناول فيه المؤلف مفهوم الهوية على اعتبار أنه يؤثر في أفكارنا وأفعالنا، مؤكدا أن التقسيم الحضاري أو الديني لسكان العالم يؤدي إلى مقاربة (انعزالية) للهوية الإنسانية: (والمقاربة الانعزالية) كما يقول: (من الممكن أن تكون طريـقة جيدة لإساءة فهم كـل شخـص تقـريبا في العالم.)

ويضيف بأننا: (في حياتنا العادية نرى أنفسنا أعضاء لعدد متنوع من الجماعات. ونحن ننتمي إلى كل هذه الجماعات.)

إن هذا الانتماء المتعدد المتنوع يعطي الإنسان شخصية خاصة ومتميزة:"وليس فيها ما يمكن أن يعتبر هو الهوية الوحيدة للشخص، أو فئة العضوية الانفرادية."

بناء على ما تقدم يدعونا الباحث إلى أن نتحمل مسؤوليات الاختيار والتفكير لأن العنف ـ في نظره ـ ينمو عندما نعمق إحساسا بالحتمية حول هوية نزعم أنها فريدة.

ويوضح وجهة نظره مؤكدا بأن فرض هوية فريدة هو غالبا أحد المكونات الحاسمة من"الفن القتالي"وأحد أسباب إثارة المواجهات الطائفية.

إن إنسانيتنا ـ كما يؤكد الباحث ـ تتعرض لتحديات وحشية عندما توحد التقسيمات المتنوعة في العالم في نظام تصنيف واحد مهيمن ومزعوم ينبني على عنصر واحد.

إن كثيرا مما نشاهد اليوم من أشكال الغليان يعود إلى"التشوش المفهومي"ـ كما سماه الباحث ـ أكثر منه إلى مجرد النوايا البغيضة.

المقدمة

يشير الباحث إلى أن أنه مع"التحريض المناسب"يمكن أن يتحول وعي متعمق منذ النشأة بهوية مشتركة مع جماعة من الناس إلى سلاح قوي ضد جماعة أخرى. فكثير من النزاعات التي عرفها العالم تتغذى على وهم هوية واحدة.

"وفن بناء الكراهية يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى..."

وحينما تعطى هذه الهوية شكلا ميالا للقتال بإمكانها أن تهزم أي تعاطف إنساني تجاه الآخر.

هنا يؤكد المؤلف بأن من أهم مصادر الصراعات الكامنة في العالم المعاصر الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفا متفردا مؤسسا على الدين أو الثقافة.

فثمة هويات أخرى يتمتع بها الإنسان: النوع، المهنة، اللغة، العلم...

عندما ينظر إلى العلاقات في شكـل انفـرادي تضيع الكثير من النواحي المهمة في الحياة الإنسانية، وبعبارة المؤلف:"يتحول الأفراد إلى أشخاص محبوسين داخل صناديق صغيرة."

اعتبر أمارتيا صن تحديد الهوية في نطاق ضيق تصغيرا للإنسان.

ويقترح بأن مشهد السلام في العالم المعاصر قد يكمن في الاعتراف"بتعددية انتماءاتنا"

وإذا كان الباحث يستعمل عبارات يتعذر في بعض الأحيان تلخيصها ـ حتى بعد الترجمة ـ فإننا التجأنا في حالات كثيرة إلى تدوينها كما هي محاولين تجنب الإطالة.

يقول:"إن مشهد السلام في العالم المعاصر قد يكمن بكامله في الاعتراف بتعددية انتماءاتنا، وفي استخدام التفكير والمنطق باعتبارهما موجودات مشتركة في عالم متسع، بدلا من جعلنا نزلاء محصورين بقسوة في عبوات صغيرة."

الفصل الأول: عنف الوهم

إن الشعور بالهوية يمكن أن يكون مصدرا:"ليس فقط للفخر والبهجة، بل أيضا للقوة والثقة."

إلا أن الهوية يمكن أن تقتل، وبلا رحمة، في حالات تضييقها.

إن التضامن الداخلي لجماعة ما يمكن أن يغذي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى، والتحريض على العنف يحدث بفرض"هويات مفردة انعزالية وعدوانية".

إن المؤلف لا يغفل المساهمة المهمة التي يمكن أن يقدمها الشعور بالهوية في جعل العلاقة قوية ودافئة بين أعضاء جماعة معينة، وبالتالي فإنه لا يدعو إلى كبح استحضار الهوية بشكل عام بناء على أنها يمكن أن تكون مصدرا للثراء والدفء، كما يمكن أن يكون مصدرا للعنف. يقول المؤلف:"ومع الاعتراف بتعدد هوياتنا، والمعاني الكامنة المتنوعة لهذه الهويات، ثمة حاجة ماسة ومهمة لإدراك دور الاختيار في تقرير مدى قوة الإقناع والاعتبارات وثيقة الصلة التي تنطوي عليها هويات معينة متعددة الأشكال بشكل لا مفر منه."

إن ما يسعى المؤلف إلى التأكيد عليه هو أننا ننتمي إلى جمعيات متعددة وليس فيها ما يمكن أن يؤخذ على أنه"الهوية الوحيدة"للمرء أو"التصنيف الوحيد"لعضويته في المجتمع.

إذا كان مجموعة من المفكرين الجماعيين يميلون إلى الاحتجاج بأن سيادة هوية جماعة إنسانية ليست مسألة اختيار فإن المؤلف يرى أنه من الصعب التصديق بأن شخصا ما لا اختيار لديه في اتخاذ قرار يخص مدى أهمية اتصاله بالجماعات التي ينتمي إليها.

"وجود الاختيار لا يدل، بالطبع، على عدم وجود ضغوط تقيد الاختيار."

إن المشكلة التي قد تواجهنا هي في إقناع الآخرين بأن يرونا بالطريقة التي نريد أن نرى بها أنفسنا، وهو ما يؤكده المؤلف بقوله:"إن حريتنا في توكيد هوياتنا الشخصية يمكن أحيانا أن تكون مقيدة بدرجة غير عادية في عيون الآخرين مهما كانت نظرتنا إلى أنفسنا."

ويستطرد قائلا:"والواقع أننا أحيانا قد لا نكون مدركين لتعريف الآخرين لنا، وهو التعريف الذي قد يختلف عن إدراكنا لذواتنا."

يؤكد أمارتيا صن بأن الإصرار على الاشتراك في الإنسانية جزء من مقاومة التوصيفات المهينة والموجودة في ثقافات مختلفة.

كما يشير إلى أنه من الممكن ربط هوية ما بالشخص لنحط من قدره.

ويضيف بأنه بإمكاننا تصنيف الناس، في هذا العالم، وفقا لعدد كبير من التقسيمات التي لها جميعا علاقة ـ بعيدة الأثر ـ بحياتنا: مثل القومية، الموقع، الطبقة، المهن، المكانة الاجتماعية، اللغة، السياسة...

إن مشكلة أطروحة"صدام الحضارات"تبدأ ـ حتى قبل أن نصل إلى الصدام ـ من زعم مسبق بأن تصنيفا أوحد له أهمية بالغة، وهي نظرة اختزالية في نظر المؤلف، لأنها تتناسى التنوع الداخلي في تلك التصنيفات من جهة وتغفل التفاعلات الثقافية والمادية التي تتحرك عبر الحدود الإقليمية.

كما يلاحظ الباحث تزايد الاعتماد على التصنيف القائم على الدين، والتركيز على التصنيف الديني الضخم وحده:"لا يعني فقط أن يفوت علينا الاهتمامات والأفكار التي تحرك الناس، بل إن ذلك يؤدي أيضا إلى التضخيم بشكل عام من صوت السلطة الدينية."

والمشكلة تكمن في أن التصنيف الديني أو الحضاري يمكن أن يكون مصدرا"للتحريفات الحربية".

وبعبارة مختصرة يؤكد الباحث بأنه لا ضرورة لأن تكون ديانة المرء هي كل هويته.

مستشهدا بالإسلام كديانة لا تلغي الاختيار المسؤول للمسلمين.

إن الإصرار على جانب واحد لا خيار فيه للهوية الإنسانية ـ في نظر أمارتيا صن ـ لا يتوقف ضرره على الانتقاص منا جميعا بل إنه يجعل العالم ملتهبا.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الادعاء بأننا متماثلون أمر غير صحيح.

إن نظرة إلى العالم من منظور هوية واحدة ضيقة أكثر إثارة للشقاق من نظرة ترى العالم في اتساعه، وهي مسألة قد لا تختلف فيها مع الباحث.

الفصل 2: إدراك مفهوم الهوية

يعود المؤلف للفكرة نفسها ليؤكد بأن انتماءات الشخص الواحد لا حصر لها. وهذا لا ينفي أن يكون انتماؤه لعضوية أي جماعة مهما للغاية داخل سياق معين.

إن الانتماءات المتعددة التي يتمتع بها الشخص يتم طمسها عند النظر إليه بصفته:"كائنا كله وبكامله داخل انتماء واحد لا غير..."

وهو يتحدث عن شكل من أشكال الاختزالية المعنون ب"فرضية الانتماء المنفرد"يقول بأنه من الصعب تبرير:"نظرة الانتماءات الانفرادية كتلك الفرضية الفجة التي تقول إن أي شخص ينتمي إلى مجوعة واحدة، ومجموعة واحدة فقط."

وهنا يقف عند نقطة محورية يلخصها بقوله:"والأكثر أهمية واستدعاء للانتباه هو أن قدرة تصنيف معين على أن يولد بصورة معقولة شعورا بالهوية أم لا أمر لابد أن يعتمد على الظروف الاجتماعية". مفسرا الأمر بأنه في بعض الأحيان نجد تصنيفا يكتسب أهمية من خلال الترتيبات الاجتماعية رغم أنه من الصعب تبريره بصورة عقلانية.

ثم يضيف ملخصا المسألة بقوله:"ولهذا لابد أن يتجه التفكير في اختيار الهويات ذات الصلة إلى تجاوز ما هو ذهني خالص إلى أهمية اجتماعية طارئة ممكنة، فليس العقل فقط مرتبطا باختيار الهوية، ولكن التفكير لابد وأن يلاحظ السياق الاجتماعي والأهمية العارضة أو الممكنة لأن يضع الإنسان نفسه في فئة أو أخرى."

إن التعامل مع الهويات المتعددة التي ينتمي إليها الشخص ينبغي التعامل معها بشكل نسبي.

إننا نمارس ـ في الحقيقة ـ اختيارات بصورة مستمرة حول الأولويات التي تتعلق بانتماءاتنا وإن كان ذلك أحيانا بشكل ضمني.

والمشكلة تكمن في ما سبق للمؤلف أن تطرق إليه في فصل سابق هو أن حريتنا في اختيار هويتنا في عيون الآخرين يمكن أن تكون محدودة جدا في بعض الأحيان.

إننا في الحقيقة نختار داخل قيود معينة سواء كنا نعتبر هوياتنا كما نراها بأنفسنا أو كما يرانا الآخرون

ولتوضيح المسألة يلجأ الباحث إلى مثال اقتصادي، وهو أن المستهلك يختار دائما ما يشتريه في إطار قيود الميزانية التي تسمح له بمجال ضيق من الاختيار.

إن مما يجعل الأمور أكثر تعقيدا هو أن بعض الصيغ الفكرية الفلسفية الجماعية تفترض ـ وعلى نحو صريح أو ضمني ـ"أن هوية المرء المشتركة مع جماعته لابد أن تكون هي الهوية الرئيسية أو المهيمنة (بل وربما الوحيدة التي لها أهمية)."

إن كان المؤلف لا يشك في أن الجماعة أو الثقافة التي ينتمي لها الفرد يمكن أن يكون لها تأثير عظيم"على الأسلوب الذي يرى به حالة أو يدرس قرارا."

فإنه يرى أنه وإن كانت مواقف ومعتقدات ثقافة ما قد تؤثر في طبيعة تفكيرنا"فليس من الضروري أن تقرره كاملا."

هذه مسألة أولى وثمة مسألة ثانية أو سبب ثان وهو:"أن ما يسمى بالثقافات ليس من الضروري أن يتضمن أي قائمة استثنائية محددة من المواقف والمعتقدات التي يمكن أن تصوغ تفكيرنا."

ويوضح المسألة بأننا لسنا مسجونين في مواقعنا وانتماءاتنا المتلقاة:"بقدر ما يبدو في افتراضات المدافعين عن وجهة النظر القائلة باكتشاف الهوية."

الفصل الثالث: العزل الحضاري

يؤكد المؤلف بأن موضوع"صراع الحضارات"كان موضوعا متسترا قبل أحداث 11 سبتمبر. إن المشكلة التي يطرحها الباحث هي أن هذه النظرة التي تختصر الناس إلى البعد الواحد تعاني هذا القصور حتى قبل أن يطرح موضوع الصراع الحتمي، بل إن معارضي نظرية صراع الحضارات يمكن أن يساهموا في دعم أساسها إذا انطلقوا من قبول التصنيف الأحادي لسكان العالم.

إن الإيمان المتعاطف بين الناس الذين ينتمون إلى حضارات منفصلة أمر مختلف تماما عن النظرة التشاؤمية الباردة القاسية لمن لا يرون إلا الصراع والعراك بينهم.

غالبا ما يتم إقحام التقسيم الحضاري في التحليل الاجتماعي، الأمر الذي يخنق الطرق الأخرى الأكثر ثراء في رؤية الناس.

"وبدلا من تقسيم خطير يفصل سكان العالم إلى حضارات متبارية، كما في عالم هنتنغتون المتخيل، فإن التنويعات الأقل لهذا التناول ترى السكان المحليين منقسمين إلى جماعات متصارعة..."

يعود المؤلف إلى الفكرة نفسها ليؤكد بأن أي شخص هو عضو في جماعات مختلفة متعددة ومن دون أن يكون في ذلك أي تناقض بأي شكل من الأشكال. وهذه الهويات مجتمعة يمكن أن تعطي الشخص قيمة وتجعله شخصا مهما.

كما يرى أمارتيا صن بأن هذا الفهم الأحادي ليس فقط ضد إنسانيتنا المشتركة، ولكنه يقوض الهويات المتنوعة. ويمكن القول بأنه إضافة إلى أن الاعتماد غير المقبول على فرضية التصنيف المنفرد، تعاني من تجاهل التنوعات داخل الحضارة الواحدة، كما تعاني من إغفال العلاقات المتبادلة الممتدة بين الحضارات المختلفة.

ينتقل بنا البحث لمناقشة موقف هنتنغتون، مؤكدا بأن بيانه التفسيري لصراع الحضارات عندما يصف الهند بأنها"حضارة هندوسية"فإنه يقلل من قيمة الواقع، وهو أن الهند بها من المسلمين أكثر من أي بلد آخر في العالم باستثناء اندونيسيا وباكستان. فضلا عن أنه سيكون من العبث الوصول إلى فهم طبيعة واتساع ما أنتجته الهند في كافة المجالات إذا تغاضينا عن مساهمة المسلمين والسيخ.

كما يوضح بعبارة لا لبس فيها بأن تصنيف هنتنغتون يحمل العديد من المشكلات الوصفية إضافة إلى أنه قابل للاشتعال سياسيا. ويقف المؤلف موقف الرافض للزعم الذي تقدم به صمويل هنتنغتون أن الغرب كان غربا منذ زمن بعيد وأنه كان وما زال هو الممثل الوحيد لقيم التسامح، فضلا عن النظرة إلى الديمقراطية باعتبارها جوهريا فكرة غربية، ويبني المؤلف نقضه لهذا الزعم القائل بالطبيعة الغربية للديمقراطية على شكل قفزة من اليونان إلى الغرب الحديث على ثلاثة أسباب:

1 ـ السبب الأول هو اعتباطية التصنيف في تعريف الحضارة بتعبيرات عنصرية.

2 ـ السبب الثاني: إذا كانت تجربة الإغريق رائدة في عملية الاقتراع فهناك حكومات إقليمية سارت في نفس الطريق في القرون التالية.

3 ـ السبب الثالث هو أن الديمقراطية ليست فقط عملية التصويت والاقتراع، فثمة أيضا التشاور..."وتقاليد النقاش العام يمكن أن نجدها في كل مكان من العالم."

بعبارة واضحة يؤكد الباحث بأن العالم الغربي:"لا يمتلك حقوق ملكية الأفكار الديمقراطية" مشيرا إلى أن الأشكال الدستورية العصرية جديدة نسبيا إلا أن تجلياتها في شكل المشاركة والمناقشة العامة كانت منتشرة في العالم.

يقف أمارتيا صن عند ما يسمى بالعلوم الغربية ليؤكد بأنها اعتمدت على تراث عالمي، وهناك مجموعة كبيرة من المساهمين في هذه العلوم ومن مجتمعات متعددة.

فإذا كان صحيحا أن ثمة اعتراف بما قدمه الغرب على مدى القرون القليلة الماضية:"ولكن افتراض أن ذلك كله كان نتيجة ازدهار"حضارة غربية"منفصلة تماما، نشأت في عزلة مدهشة، هو وهم خطير."

كما يعمد إلى تلخيص عيوب التقسيم الحضاري في مسألتين:

ـ المسألة الأولى: هي أنه يغرق الطرق الأخرى لتعريف الناس في مستنقع.

ـ والمسألة الثانية: أنه قائم على فجاجة وصفية وجهل تاريخي.

الفصل 4: الانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي:

أشار المؤلف في هذا الفصل إلى أن النظريات الحديثة شأن صراع الحضارات اتجهت إلى الاعتماد على الاختلاف الديني علما أن من يعتنقون الديانة نفسها كثيرا ما ينتشرون في بلدان مختلفة وقارات منفصلة مؤكدا أنه:"لا يمكن للتصنيف الديني أن يناسب تصنيف البلدان والحضارات بسهولة."

إن التقسيمات بناء على التصنيف الديني وإن كانت تتسم بترابط منطقي أكبر من التصنيف الحضاري إلا أنها ـ في نظر الكاتب ـ ترتكب الخطأ نفسه دون أن ينفي أن ذلك يمكن أن يكون مفيدا إلى حد ما في سياقات كثيرة:"لكن اتخاذ ذلك أساسا رئيسيا للتحليل الاجتماعي والسياسي والثقافي بشكل عام سوف يؤدي إلى تجاهل كل الصلات والولاءات الأخرى التي يمكن أن تكون لدى أي فرد، والتي يمكن أن تكون لها أهميتها بالنسبة إلى سلوك الفرد وهويته وفهمه لنفسه."

هنا يحاول الباحث أن يعود إلى الفكرة التي طرحها منذ أول الكتاب ليضيف بأن استخدام الهويات الدينية باعتبارها المبدأ الرئيس أو الوحيد للتصنيف أدى إلى كثير من"الفظاظة في التحليل الاجتماعي"

إن الأشخاص الذين يمكن تصنيفهم على أساس الدين الإسلامي يختلفون في معتقداتهم السياسية والاجتماعية.

بعد نقاش مسهب يلجأ أمارتيا صن إلى عبارات مختصرة توضح وجهة نظره حيث نجده يؤكد بأن:"كون الإنسان مسلما ليس هوية تطغى على ما عداها بحيث تقرر كل شيء يؤمن به"

إذ أنه يمكن لمسلمين أن يتخذا نظرتين مختلفتين حول قضية معينة كالكفر مثلا فيكون أحدهما متشددا والآخر متسامحا ودون أن يفقد أي منهما إسلامه.

إن إنكار التعددية ورفض الاختيار في مسائل الهوية يمكن أن ينتج ـ في نظر الباحث ـ نظرة ضيقة ومضللة.

بعد هذا سعى الباحث إلى تأكيد الفرق بين رؤية المسلمين حصريا بناء على ديانتهم وبين فهمهم بشكل أوسع بناء على انتماءاتهم الكثيرة التي لا يلغي فيها الدين الالتزامات الأخرى خصوصا مع النمو السريع لتسييس الديانات."إن الخلط بين الهويات المتعددة للمسلمين، وهويتهم الإسلامية خصوصا، ليس مجرد خطأ في التوصيف، لكن له آثارا خطيرة على سياسات السلام في العالم الحرج الذي نعيش فيه."

إن التصنيف الواحد لشعوب العالم أثار بلبلة وفوضى. وصعوبة العمل بناء على فرضية هوية واحدة ليست مشكلة خاصة بالمسلمين وحدهم.

وبعبارة موجزة يعمد المؤلف إلى الفكرة المحورية السابقة ليزيدها تأكيدا، قائلا:"إن رؤية الانتماءات الدينية ـ باعتبارها الهوية المستغرقة للإنسان ـ يمكن أن تؤدي إلى دفع ضريبة سياسية باهظة."

والحل الذي يقترحه الكاتب هو الاعتراف بالهويات المتعددة في العالم.

يعتقد المؤلف أن هذا التصنيف للهوية بناء على الدين هي التي قادت الغرب إلى تجنيد الإسلام في ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب.

الفصل 5: الغرب وضد الغرب

بعد حديث المؤلف عن مشاعر النفور تجاه الغرب في مرحلة ما بعد الامبريالية أشار إلى أن عيش الإنسان حياة يهيمن عليها النفور بناء على تاريخ ماض يعد نوعا من ظلم النفس فضلا عن أنه يمكن أن يصرف الانتباه عن أهداف تستحق التقدير إضافة إلى ما يمكن أن تقدمه من عداوة لا ضرورة لها.

في هذا الفصل تناول المؤلف قضايا تتعلق بعلاقة كل من دول آسيا وأفريقيا بالغرب، وخصص آخر الفصل للحديث عن الأصولية ودورها في الوضع العالمي الراهن.

الفصل 6: الثقافة والأسر

يشير الباحث إلى أن حبس الثقافة داخل صناديق صلبة منفصلة عن الحضارات أو الهويات الدينية لا يأخذ سوى نظرة ضيقة إلى ما يمكن عزوه إلى الثقافة، كما أن التعليمات الثقافية يمكن أن تقدم فهما ضيقا لخصائص البشر.

"وقد حظيت التفسيرات الثقافية لتأخر النمو الاقتصادي بكثير من التأييد في الآونة الأخيرة". ويفسر ذلك قائلا:"ولا يعني ذلك الإيحاء بأن العوامل الثقافية لا علاقة لها بعملية التنمية. ولكنها لا تعمل بمعزل عن التأثيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أنها ليست غير قابلة للتغيير."

يعترف المؤلف بأن لخلفيتنا الثقافية تأثيرا هائلا ورئيسيا في سلوكياتنا وتفكيرنا وفي نوع الحياة الذي نعيشه، بل وفي إحساسنا بالهوية وإدراكنا للانتماء إلى جماعات نرى أنفسنا فيها،"إن هوياتنا الثقافية يمكن أن تكون عظيمة الأهمية، لكنها لا تقف في تصلب وحدها، معزولة عن التأثيرات الأخرى في فهمنا وأولوياتنا."

فثمة ـ إلى جانب الثقافة ـ أشياء أخرى لها دور قد يكون شديد القوة مثل الطبقة والعنصر والنوع والمهنة والسياسيات.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالثقافة ليست صفة متجانسة حيث إنه من الممكن أن تكون هناك تنويعات هائلة داخل وسط ثقافي معين.

ويضيف بأن الثقافة لا تقف ساكنة بلا حركة بل إنها تتفاعل مع حتميات أخرى للإدراك والعمل الاجتماعي:"إن افتراض الانعزال ـ الذي يثار غالبا ضمنيا ـ يمكن أن يكون شديد التضليل."

إن الحرية الثقافية أو التعددية الثقافية رغم أهميتها يمكن أن تقف أمامها حواجز عندما لا يسمح مجتمع ما لجماعة بعينها بأن تمارس بعض أنماط الحياة التقليدية التي يمكن لهم اختيار اتباعها بحرية.

إن التنوع الثقافي يمكن أن يتعزز لو سمح للأفراد بأن يعيشوا كما يحبون ويقدرون، وهو ما يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في تعزيز الحرية.

واللاحرية يمكن أن تنتج عن افتقاد المعرفة والفهم للثقافات الأخرى ولأساليب الحياة البديلة.

الفصل 7: أصوات العولمة

ركز المؤلف في هذا الفصل على التناقض المهول الذي يعرفه العالم الحاضر بين ثراء مذهل وفقر موجع، حيث إن"التفاوتات الهائلة في الفرص التي يحظى بها أناس مختلفون شجع الشكوك في قدرة العولمة على خدمة مصالح المستضعفين والمضطهدين."

يعتقد أمارتيا صن بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن الحرمان والحيوات المنقسمة هي عواقب العولمة بدلا من رؤيتها كفشل للتدابير الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ويشير إلى أنه رغم الاختلاف الشديد بين مؤيدي العولمة وبين معارضيها فهي ليست:"في جملتها مفهوما محددا جيدا"

هناك حشد هائل من التفاعلات العالمية تدخل هذا العنوان العريض، فيها ما يرتبط بالثقافة والاقتصاد...: ويلح على أن"رفض العولمة بجملتها لن يكون فقط ضد الاقتصاد العولمي، لكنه سوف يقطع حركة الأفكار والفهم والمعرفة التي يمكن أن تساعد كل شعوب العالم..."

إن الرفض الشامل للعولمة يمكن أن تكون له نتائج مضادة، إن هناك حاجة قوية إلى فصل القضايا المختلفة التي تبدو مندمجة.

وحول سؤال"هل العولمة فعلا لعنة غربية جديدة ؟"يؤكد المؤلف أنها لا هي جديدة ولا هي غربية ولا هي لعنة... مؤكدا أن العولمة:"ساهمت، عبر آلاف السنين، في تقدم العالم ن من خلال الترحال، والبحارة، والهجرة، وانتشار المؤثرات الثقافية، ونشر المعرفة والفهم... وأحيانا كانت الوساطة النشطة للعولمة تقع في أماكن بعيدة جدا عن الغرب."

من خلال الطرح الذي قدمه البحث، يمكن التركيز على النقط المحورية التالية:

ـ إن التشخيص الخاطئ أدى إلى غرس وجهة نظر إقليمية ضيقة فضلا عن أنه قلل من قيمة التقدم في العلوم والمعرفة العابر للحدود.

ـ إن تحديد ما هو"غربي"وما هو غير ذلك أمر من الصعب تحديده في ظل تداخل العلاقات الثقافية والفكرية في تاريخ العالم.

ـ إن رفض عولمة العلوم والتكنولوجيا على أساس أن ذلك هو الامبريالية الغربية سوف يكون قرارا عمليا سخيفا، فضلا عن أنه يغفل المساهمات العالمية في هذا المجال، إضافة إلى أنه سيسد آفاق الاستفادة من عملية الأخذ والعطاء الفكري"وبالطبع يجب ألا نتجاهل حقيقة أن هناك قضايا تتعلق بالعولمة تتصل فعلا بالامبريالية."

إن المحتجين المناهضين للعولمة ينتمون إلى معسكرات عديدة مختلفة وبعض معارضي العولمة الاقتصادية لا مشكلة لديهم مع عولمة الأفكار، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن كثيرا"من الانجازات الإيجابية خاصة للعولمة الاقتصادية واضحة أيضا في أماكن مختلفة من العالم."

يؤكد الباحث أنه من الصعب أن نصدق أن تقدم الأحوال المعيشية للفقراء عبر العالم كان من الممكن أن يكون أسرع إذا منعنا عنهم المزايا العظيمة للتكنولوجيا المعاصرة...

وحول حـديثه عن الفـقـر أكد أنه غالبا ما يرافق هذا الضعف الاقتصادي عجز سياسي:"ويمكن أن يكون أي تعيس جائع شديد الضعف وموهن العزيمة إلى درجة تفقده القدرة على النزاع والحرب، بل حتى الاحتجاج والشكوى، ومن ثم ليس من المدهش أن أغلب حالات الإجهاد الشديد وانتشار المعـاناة والبـؤس كانـت مصحـوبة بالسلام والصـمت بـدرجة غـير عادية. لكن هذا ينبغي ألا يجعلنا نعتقد بأنه لا علاقة بين الفقر من ناحية، والعنف من ناحية أخرى.

الفصل 8: التعددية الثقافية والحرية

إن ثمة تناولين مختلفين أساسا للتعددية الثقافية:

ـ أحدهما يركز على ترقية التنوع كقيمة في حد ذاته.

ـ في حين يركز الآخر على حرية التفكير وصناعة القرار.

رغم تنويه الكاتب بالنموذج البريطاني في هذا المجال فإنه يشير إلى أن قبول أنماط الحياة المتنوعة وأولويات ثقافات متعددة لم يكن دائما أمرا سهلا حتى في بريطانيا.

بعد كل هذا يعود بنا المؤلف إلى الفكرة نفسها ليزيدها توكيدا قائلا:"إن تجاهل كل شيء إلا الدين معناه طمس حقيقة الاهتمامات التي تحرك الناس لتوكيد هوياتهم والتي تتجاوز الدين بكثير."

لابد من إعادة التفكير في فهم التعددية الثقافية تفاديا للفوضى"المفهومية"أولا ومقاومة الاستغلال المغرض لأسباب الشقاق التي تتيحها هذه الفوضى المفهومية ثانيا.

الفصل 9: حرية التفكير

يحاول المؤلف في هذا الفصل الانطلاق من وضعية الهند وباكستان وبنغلاديش للوقوف على نماذج الفهم الضيق للهوية، الفهم الذي يحول البشر متعددي الأبعاد إلى مخلوقات ذات بعد أحادي.

إن ما يثير دهشة الكاتب هو كيف تنجح الفردية الأحادية كل هذا النجاح رغم فجاجتها وسذاجتها.

يمثل المؤلف لنموذج الهند حيث تم تصنيفه ضمن"الحضارة الهندوسية"على الرغم من أنه يحتضن ما يزيد على 145 مليون مسلم فضلا عن السيخ واليانيين والمسيحيين وغير هؤلاء... من الذين لا يربط بينهم الدين وإنما تربط بينهم روابط اقتصادية وسياسية وثقافية... وبالتالي فإن"التصغير المصطنع للكائنات البشرية داخل حدود هويات انفرادية يمكن أن تكون له آثار مسببة للخلاف والشقاق، وتجعل العالم قابلا للمزيد من الفتن والقلاقل."

وهذه الانفرادية قد تكون أكثر ضيقا داخل الإسلام نفسه بين السنة والشيعة مثلا.

في آخر هذا الفصل يقول أمارتيا صن:"لمقاومة التصغير من شأن وحجم الكائنات البشرية، الأمر الذي دار حوله هذا الكتاب، يمكننا أيضا أن نفتح إمكانا لعالم يستطيع هزيمة ذكريات ماضيه المضطرب وقهر أخطار حاضره الصعب."

وهم المصير الحتمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى