الخميس ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٣
بقلم إبتسام أبو شرار

بأديم ترابه يحيا الإنسان

للشهيد غسّان كنفاني
كانت عكّا تنفخ في كفّيها،
تتلو أحجية بأغاني النّورس،
تدني موج البحر من ساعديها،
تنقش في بطون الصّدف:
تبّت عينا من قذف الشّمس بنار السّدف،
تطرد أظلال الصّلفْ،
عن محراب صلاة عينيها.
 
وعلى أهداب الشّاطئ يافا تجلسُ،
تروي للموج سرًّا، تدفنه في شفتيها،
وجنون الخوف بمهجتها يُنبِسُ،
تخشى أن تأخذها سنة، وهي تلهو بأوتار ضفيرتيها.
 
عكّا ... يافا،
... حول البحر في أغنية تلتفّان.
تجمعان الأناشيد والأغنياتْ،
تنسجان جدارًا حول السّديمْ،
تنثران العصافير؛ لتحرسا أمواجه من زبد يجتاح النّساءْ .
 
كلّ شيء في السّاحل أزرقْ.
كلّ شيء في الأزرق يترقرقْ.
كلّ شيء في المهجتينْ
بين سكينة وفزعْ .
 
وهناك تبرعم غصن ماؤه يحيا بالأزرقْ.
قلبه يخفق بالأزرق.
 
كان يَعُدّ صوت الحمامْ،
ينسج من هديله أنشودة للسّلامْ،
يبني أحلام الطّفولة في أعشاش اليمامْ،
ينثر قوت الحبّ فوق الغمامْ.
 
كان وجهه يرسم وجه الرّيح إذا هبّت،
والطّيور إذا غنّت،
والمروج إذا حنّت،
والقلوب إذا أنّت،
والدّروب إذا سدّت.
 
كان لا يفتأ يملأ راحتيه بعشق السّحابْ،
حتّى حملته الرّيح بأضراسها من أرض السّنابلْ،
ورمته بأرض اليبابْ.
 
... وهناك... تذكّر،...فكّر،... هبّ،... اهتاج، كما البحر حين تغشّى ثوب السّرابْ.
في أرض غزتها سروب الذّبابْ.
ضعف السّالب والمسلوب ساعة غلّوا ثوب السِّلابْ.
 
فوق الرّيح، فوق الإعصارِ، توثّب غسّانْ،
وامتطى صهوة الثّائرِ،
فتّت جسد الخزّانْ.
رسم الأرض هادئة، هاجدة، شادية، تائبة، غاضبة، كافرة،...
فيها حمر مستنفرةٌ،
فرّت من قسورةٍ،
بالحنظل تَمذق شهد الأوطان.
 
... ... ...
وتماهت كلّ الألوان،
وغدا الأزرق أرجوانيًّا،
وغدا الأرجوانيّ أسودْ،
ودمًا نزفت كلّ الألحان،
غسقًا نزفت كلّ الألوان،
في ريشة غسّان.
اشتعل الفنّ، تسلّق كلّ الجدران؛
ليصير نخيلاً، طلعًا، زهرًا، قمحًا، حبًّا، عصفًا، ريحًا، نارًا... في قبضة فنّان.
كتبت بحروف النّزفِ:
بأديم ترابه يحيا وجد الإنسانِ،
في كبد الأرض تنبض مهجة غسّانٍ.
تعد الأرض بخنساوات، ينجبن عناقيد قرابينْ،
في الخصلة خمسون مليون قربانٍ.
ولدوا في ظلام الأزقّة في ليلة عصف في اختزال المنفى،
في أجسامهم كبرت صورة قفلٍ،
صارت وطنًا،
هجرت منفى.
أشرق فجر من حنين المنسيّينْ،
من حنين فلسطينيّاتٍ،
كنّ يغسلن الدّمع بضحكات الدّمْ،
ويضمّدن الجرح تلو الجرح بطلقةْ،
ويواسين البتر تلو البتر بقنبلةٍ،
والموت بزنبقةٍ.
 
كان غسّانٌ ينمو في سعد، ينبت نسرًا، وهو يطير إلى الأفق المنثني خلف أراجيح الضّباب.
كانت أمّه تحمل أسداف المخيّم، تطويها في جيوب الوغابْ.
تغتال براثنها بصهيل رصاصةْ،
وأزيز توثّب خيل عرابْ.
ولدت في ليلٍ به اهتاجت في وكر الكون الذّئاب،
وترامى البعوض بكلّ مثاب.
 
ظلّ النّسر يحلّق...، كان يلمّ المنفيّينَ...، يشري أحلامهم الجريحةْ...،
يمدّ حنينه نحو جراح السّهولِ ... إلى أشواق الهضابْ .
يتلو في أسفارهِ:
"اقرأ"...
فطريق العودة "اقرأ"
ودروس العودة "اقرأ"
وخطى العودة "اسلك"
اكتب:
الثّورة علم الإنسان،
الشّهادة لحن الشّجعانِ.
 
أدرك غسّان
أنّ الموت لحن الحيّ إذا لم يكن منه بدّ لتعميد الأوطان.
 
ما مات، وفيه الموت يموت، ورمّت ضمائرهمْ،
وتسمّر فيها خطو الشّيطانِ.
ظنّوا أن قتلوهُ، وما قتلوهُ، وما صهروه، والحقد بأحشائهمُ
يتفجّر كالبركان.
ما زال يطارد خوفهم المجبول بنار الطّغيان.
للشهيد غسّان كنفاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى