السبت ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم عبدالوهاب محمد الجبوري

بالات ومعاناة في بلد الحضارة والخيرات

اعتدت، كل يوم جمعه، القيام بزيارة إلى الأسواق الشعبية في مدينة الموصل(محافظة نينوى) والتجول فيها لغرض التبضع والإطلاع عن كثب على الحالة المعاشية والاقتصادية التي يعيشها المواطنون في المدينة في مثل هذا اليوم من الأسبوع، والذي يتسم بالحركة والنشاط غير الطبيعيين كون المواطنين من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة يقومون بشراء حاجاتهم المختلفة بأسعار مناسبة وعادة ما تتوفر هذه الحاجات في يوم الجمعة لان الباعة اعتادوا عرض بضائعهم في يوم الجمعة وهوتقليد متبع في جميع المدن العراقية منذ أيام الحصار على العراق عام 1991 وحتى الفترة التي سبقته، ومن ثم توثيق هذه الأنشطة على شكل مذكرات أونقلها إلى القارئ بمقالات أواستطلاعات أوتحقيقات صحفية في صحيفة الإنقاذ التي اترأس تحريرها..

التقيت خلال جولتي الاعتيادية في هذه الأسواق بعدد من الأصدقاء، الذين اعتادوا هم الآخرين على ما يبدوزيارة سوق الأربعاء وسوق باب الطوب وسوق الهرج وأسواق بالات الملابس والمواد الكهربائية والمنزلية وغيرها من الأسواق المنتشرة في وسط المدينة، لشراء حاجاتهم بأسعار اقل مما هومعروض في المحلات والأسواق التجارية الأخرى، وكان أول من التقيت به محاميا، وبعد السلام والتحية أخذنا نتناقش على عجل حول الأوضاع السائدة في العراق والمعاناة الشديدة التي يعاني منها أهله الخيرون الذين لا يستحقون هذا الأذى الكبير وهم أصحاب التاريخ والحضارة والثروة والقيم والمبادئ النبيلة والإنسانية والنفس الكريمة والروح الطيبة..

لم يطل بنا اللقاء كثيرا فقد غاد رني صديقي وهويحمل معه سترة (جاكيت) اشتراها من أحد محلات البالة بمبلغ (5) آلاف دينار(حوالي ثلاثة دولارات) وهوفرح لأنه سيرتديها في جلسة المحاكمة التي سيحضرها في الأسبوع القادم.. بعد مغادرته توقفت قرب مجموعة من الناس ينتظرون صاحب بالة جديدة وهويقوم بفتـــــحها مناديا كعادة أصحاب المزادات : قماصل، قماصل، بالة جديدة … وبينــما أنا أتطلع إليهم وهم يقلبون القماصل الجديدة (القديمة) رأيت ثلاثة أشخاص يقفون جانبا وهم منهمكون في نقاش حاد، ودفعني فضولي الصحفي إلى الاقتراب منهم، فتبين أنهم كانوا يتحدثون عن الأوضاع المأساوية التي يعاني منها الشعب العراقي..وهوأمر طبيعي هذه الأيام في العراق حيث لا هم للمواطنين سوى الحديث عن همومهم وماسيهم التي سببها لهم الاحتلال البغيض..

كان النقاش يدور، لحظة اقترابي منهم، عن إخفاق الحكومة في تأمين الأمن والاستقرار وانتشار الفوضى والقتل والعنف في البلاد والخدمات للمواطنين وخاصة الكهرباء والوقود وارتفاع الأسعار واضطراهم لشراء ملابسهم واحتياجاتهم من البالات القديمة والمستعملة وتأسفهم الشديد على هذه الحالة … فقال احدهم : سبحان الله، القمصلة بثمانية آلاف دينار، حتى الملابس القديمة التي تصدرها الدول الكبرى إلينا أسعارها ترتفع لتنافس أسعار الدولار في البورصات العالمية، ثم عاد إلى ذكر البطاقة التموينية التي تأسف زميله الثاني حسرة على أيامها وهويتساءل عن عائلته الكبيرة وكم سيكلفه شراء الطحين والسكر، وانزل لعنته على هذا الوقت اللعين و(أبطاله) الذين أوصلوا البلاد إلى هذه الحالة المزرية نتيجة الاحتلال وسوء الإدارة وعدم الشعور بالوطنية والمسؤولية والارتباط بالأجنبي والنهب والسلب والفساد والتلاعب بقوت الشعب ومقدراته ومصيره وثروته ومستقبله، وعلى كل الذين يتاجرون بالشعارات المزيفة والبراقة

والديمقراطيات الكاذبة من اجل مصالحهم الذاتية وكراسي الحكم التي يسعون إلى الاستئثار بها حتى لوفرطوا بحقوق بلدهم وسلموه للأجنبي، فكل شيء يهون عندهم مادامت كروشهم تزداد انتفاخا يوما بعد آخر..

وبعد أن تنهد قليلا راح يتذمر من عدم قدرة أهله على صنع الكليجة (وهي نوع من المعجـنات تصنع في المناســبات والأعياد) بسبب ارتفاع أســـــــعار الدهن (الزيت) والطحين … وقطع حديثه صوت بائع متجول يقترب منهم وهوطفل لا يتعدى التاسعة أوالعاشرة من عمره، متسخ الثياب، أغبر، أشعث، يحمل (نستلة) و(علك) عارضا عليهم بضاعته وهويرجوهم ويتوسل إليهم أن يـــشتروا منه.. فقال احدهم متسائلا : ترى، أيعقل أن يحرم هذا الطفل المسكين من أن يعيش طفولته كما يعيشها الأطفال الآخرون في البلدان العربية والعالم، وبلده بلد الثروات والحضارات والنفط الذي لا ينضب ؟ وهل قدر لنا نحن العراقيين أن نرى كل يوم موت حلم جديد ؟ أين الحكومة ؟ أين الدولة ؟

وعند وصول الحوار إلى هذه النقطة وجدتني مدفوعا برغبة قوية لمشاركتهم حديث الشجون والهموم هذا فسلمت عليهم واستأذنتهم المشاركة في الحديث، فرحبوا بي بعد أن عرفتهم بنفسي … وتعرفت على ثلاثتهم فكان الأول موظفا والثاني معلما والثالث ضابطاً (متقاعد إجباري بفعل قرار بريمر) في الجيش العراقي الباسل ذي أل(87) ربيعا … وبعد أن تعارفنا قال الضابط : إن العراق يمر بأخطر مرحلة في تاريخه، مرحلة لم نشهد لها مثيلا في السابق، فالعنف والقتل والطائفية والتدخل الأجنبي والفقر والبطالة والفساد وانعدام الخدمات والاستهانة بحياة الإنسان وكرامته من ابرز سماتها، مرحلة يمكن أن تؤدي إلى تقسيم العراق وحصول الأسوأ لا سمح الله إذا لم يتم تدارك مخاطرها ووضع الحلول لها وبأسرع وقت، مرحلة الكل مشغول عنها بالصمت مدان باللعنة واللامبالاة، مسئولون محليون وعرب ومجتمع دولي، قلت لمحدثي : إن الشعب العراقي بات يعرف هذه الحقائق جيدا، لكنه إزاء هذا الواقع المؤلم ليس أمامه سوى التكاتف والتوحد والعمل عبر مختلف الوسائل والأساليب لإيجاد مخرج لهذه المعاناة التي طال أمدها وما عدنا نتحمل المزيد.. قال : كيف ؟ قلت : هناك قوى وطنية سياسية ومستقلة وأخرى في الحكم باتت على قناعة تامة بحدوث تغيير في العملية السياسية التي يجب أن تشارك فيها كل الأطياف دون استثناء بما فيها المقاومة العراقية، وعلى المحتل أن يحسب حسابه لذلك، فإما أن يخرج أويجدول انسحابه وقبلها عليه إعادة قواعد اللعبة السياسية بما يضمن إلغاء النظام الطائفي الذي أسس له منذ احتلال العراق عام 2003، وقاطعني محدثي :

والمطلوب أيضا إعادة الانتخابات التي تم تزويرها وتمريرها، سواء التي جرت لانتخاب البرلمان أوللتصويت على الدستور أولاختيار مجالس المحافظات، وأضاف : نريد انتخابات نزيهة عادلة تجري على أساس المناطق لا على أساس القوائم المغلقة....

وبينما نحن منهمكون في هذا الحديث، رأينا رجلا كبير الســـن يركض خلف صبي وهويصيح : حرامي.. حرامي، وما أن مر الصبي من قربي حتى أمسكت به وقلت له لا تخف، واستفسرت من الرجل المسن عما سرقه الصبي منه فقال : ساعة … قلت له : كم ثمنها فذكر الثمن ودفعته له ثم وجهت حديثي للصبي : لماذا سرقت ؟ قال : ما ذا افعل وأنا مسئول عن والدتي وأختي الصغيرة ووالدي متوفى، وأنا اشتغل حمالا كل يوم جمعه وعلي تأمين مبلغ (10) آلاف دينار لشراء ملابس لي ولأختي ولم احصل هذا اليوم إلا على ثلاثة آلاف دينار، لهذا اضطررت إلى السرقة.. قلت له : يا ولدي أنت تعرف أن السرقة حرام عدا عن كونها تصرف مشين ولا تليق بالناس الشرفاء مهما كانت الظروف صعبة، ولوتوكلت على الله واجتهدت وصبرت في عملك لرزقك الله ما تريد.. أوصيك يا ولدي..أن تفعل ما أقوله لك وستجد أن الله لن يتخلى عنك وسيكون معك في السراء والضراء.. ثم جمعنا للصبي مبلغا من المال وأعطيناه له ووعدنا بان لا يعيد هذا الفعل ودعوت الله أن يوفي بوعده ويتعض منه المسئولون والموظفون في بلدنا الذي بات تنخر فيه، مع الأسف، الرشوة والفساد بكل أنواعه …

وهنا قال لي زميلي الضابط : نريد منك يا أستاذ أن تنشر هذه الحادثة بالجريدة كي يطلع عليها الموسرون وأصحاب العروش والكروش، فلعل هذه الرسالة وغيرها أن تذكرهم بمعاناة العراقيين وتحرك ضمائرهم ليرحموا من في الأرض كي يرحمنا من في السماء..
قلت : سافعل ذلك ان شاء الله وعسى الله ان يولي خيارنا امورنا ويوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد، وافترقنا ليذهب كل منا الى حال سبيله، اما انا فذهبت الى المسجد القريب من السوق لاداء صلاة الجمعه داعينا الله من كل قلبي ان يتلطف بنا ويرحمنا وان لا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا ويحّول حالنا الى احسن حال، انه سميع مجيب الدعاء..

وعند وصول الحوار إلى هذه النقطة تقدمت منهم فسلمت عليهم واستأذنتهم المشاركة في حديث الشجون والهموم هذا، فرحبوا بي بعد أن عرفتهم بنفسي … وتعرفت على ثلاثتهم فكان الأول موظفا والثاني معلما والثالث ضابطاً (متقاعد إجباري) في الجيش العراقي الباسل ذي أل (87) ربيعا … وبعد أن تعارفنا قال الضابط : إن الحزبيين والسياسيين الذين يسعون لتسلم الحكم في العراق منشغلون حاليا بمناقشة نتائج الانتخابات،التي ارضت اطرافا وازعجت اطرافا اخرى بسبب التزوير والتلاعب، الا ان الاموال التي صرفت على حملاتهم الانتخابية كانت تكفي لاكساء واطعام وايواء الالاف من الفقراء والمعوزين وان هذا (المال السياسي) الذي تدفق على معظمهم من الخارج سوف يوصلهم الى كراسي الحكم. ومن المفارقات، اننا سنجدهم يّدعون بانهم سيحكمون البلد باسم الشعب والوطن وانهم سيعملون على اسعاد المواطنين واعمار بلدهم والحفاظ على ثرواتهم ومصالحهم …

قلت لمحدثي : ان الشعب العراقي يعرف هذه الحقائق وغيرها ولكنه ازاء هذا الامر الواقع ليس امامه من خيار سوى القبول بما حصل عسى ان يجد فيه مخرجا لمعاناته التي طال امدها وما عاد يتحمل المزيد.. فلعلنا نجد من بين هؤلاء المسؤولين من هوعادل وصادق ومخلص وامين على هذا البلد ويخاف الله فيما سيؤتمن عليه اوفيما سيكلف به من مهمات ومسؤوليات تجاه شعبه ووطنه.. واضفت : مهما يكن فان الافضل في هذه المرحلة وهذه الظروف الاستثنائية ان تتشكل حكومة وطنية بشرط ان تتمثل فيها جميع اطياف الشعب العراقي وتبتعد عن النهج الفئوي والطائفي في التعامل مع الاحداث. وعلق زميلي المعلم : وعلى هؤلاء السياسيين ان يتذكروا بان ثمة التزام اخلاقي قطعوه على انفسهم وهوتعديل عدد من بنود الدستور بما ينسجم ومصلحة جميع العراقيين.. وبينما نحن منهمكون في حديثنا هذا راينا رجلا كبيرالسن يركض خلف صبي وهويصيح : حرامي.. حرامي، وما ان مر الصبي من قربي حتى امسكت به وقلت له لا تخف واستفسرت من الرجل المسن عما سرقه الصبي منه فقال : ساعة … قلت له : كم ثمنها فذكر الثمن ودفعته له ثم وجهت حديثي للصبي : لماذا سرقت ؟ قال : ما ذا افعل وانا مسؤول عن والدتي واختي الصغيرة ووالدي متوفي … وانا اشتغل حمال كل يوم جمعه وعلي تأمين مبلغ (10) الاف دينار لشراء ملابس لي ولاختي قبل قدوم العيد ولم احصل هذا اليوم الا على ثلاثة الاف دينار..لذلك اضطررت الى السرقة.. قلت له : يا ولدي ان السرقة حرام تحت اي ظرف ولوتوكلت على الله واجتهدت وصبرت في عملك لرزقك الله ما تريد.. اوصيك ياولدي ان تفعل ما اقوله لك وستجد ان الله سيجزي الصابرين الذين يسعون الى كسب رزقهم بالحلال.. وجمعنا للصبي مبلغا من المال واعطيناه له ووعدنا بان لا يعيد الكرة ودعوت الله ان يوفي بوعده …

وهنا قال لي زميلي الضابط : نريد منك يااستاذ ان تنشر هذه الحادثة بالجريدة كي يطلع عليها الموسرون والذين سيتسلمون الحكم في البلاد، فلعل هذه الرسالة وغيرها من الاف الرسائل ان تذكرهم بمعاناة العراقيين وتحرك ضمائرهم ليرحموا من في الارض كي يرحمهم من في السماء..

قلت : سافعل ذلك ان شاء الله وعسى الله ان يولي خيارنا امورنا ويوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد، وافترقنا ليذهب كل منا الى حال سبيله، اما انا فذهبت الى المسجد القريب من السوق لاداء صلاة الجمعه داعينا الله من كل قلبي ان يتلطف بنا ويرحمنا وان لا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا ويحّول حالنا الى احسن حال، انه سميع مجيب الدعاء..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى