الأحد ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

بقالة العم صبري

نصب صبري كرسيه على باب البقالة ، و جلس يحتسي كوب الشاي اليومي . يشتم في الهواء نسيما معبقا برائحة الليل الفائت ، الصبح لم ينضج بعد و الزقاق امامه شبه مقفر الا من بعض التلامذة الساعين الى مدارسهم زمرا و فرادى . و ان شرب الشاي لديدن قديم عرفه ايام شبابه و ظل ملازما له حتى عهد الشيخوخة. ترائت له نافذة تفتح في الناحية المواجهة له ثم تطل منها امرأة كهلة هي الخادم في بيت اسماعيل و مدت المرأة يديها بسجادة صغيرة مضت تنفضها و تلطم بها الجدار اسفل النافذة..اخذ رشفة مستشعرا لذة الشاي الساخن . و اطربه صوت فيروز سابحا مع النسيم فزفر في استرخاء و راحة و مر من امامه فتحي مدرس التاريخ بجسمه البدين يسير متكرتحا يتأبط كراريسه، كالعهد به كلما تأخر عن الوقت المحدود و كان لا يلوي على شيء بيد انه رفع يده بالتحية فجرت على شفتي صبري ابتسامة و هو يرد التحية.. لا أمل في هذا الرجل ابدا فقد مر من عمره في التدريس ما مر دون ان يؤثر نظام المدارس في طبعه أو يقلل من هفواته...و عليك السلام يا شيخ المدرسين !

جعل صبري يفتل شاربه الكث متأملا متفكرا.. و ذكر في تيه لم ينكره ما فعلته الخادم رباب في اليوم الفائت فقد امنت غياب الست عن البيت و آنست في مجلسه داخل مخدعه خير خلوة.. لقد أشعل صدرها المتدلي و هي تسكب له الشاي نارا في صدره و ايقظ ما خمد من طاقة هجرته منذ زمان بعيد.. فاستجمع ما تبدد من عزيمة لديه و أشاح بوجهه نحو النافذة مستغفرا ربه عما حدثته به نفسه من غواية اثيمة مقتنعا بان المرأة في جيل اولاده و عليه ان يراها دائما من هذه العين و الا عد فعله دناءة لا تليق بكبره و شيبه ! و خيل اليه ان المرأة طال انحنائها اكثر من اللازم .. اما آن لكوب الشاي ان يمتلئ؟! عطف رأسه مصوبا بصره نحو كوب الشاي على الخوان بين يديها فلاح له دون ان يعمد ما كان يبديه فستانها المنفرج عن مساحة غير يسيرة من اعلى صدرها و تعلقت عيناه باللحم اللدن الناصع البياض .. لحظات مرت عليه في مشقة من يغالب رغبة جامحة في اقتناص النظر الى منظر بهيج في وقت تلسع فيه الندامة اطرافه دون رحمة .. و كابد عذابا ليقتلع بصره الشاخص الى صدرها فبمشقة فعل و عاد ينظر صوب النافذة يلسعه شعور بالندم لا يضاهيه الا شعور اقوى بالرغبة المشتعلة و الحسرة الكظيمة.. لكن .. استعفر الله فما يجمل بعجوز مثلي ان يجنح به الفكر الى هذه الموبقات..

عندما بلغت به الذكرى هذا المبلغ عاوده الشعور نفسه على رغم كل ما جرى البارحة

عديد مشاعر هي على الاصح.. ذاك الشعور المضني الؤلم بالندم و التأنيب الى ذاك الشعور الذي يدعو الى التأسف من الحسرة و الرغبة المكتومة الى ما انتابه من نزعات الشباب البعيد المولي و تجليات خاطفة تبرق بالشهوة الصماء.. و عاد يستغفر الله بصوت مسموع و لعله كان مسموعا اكثر مما هو مستحب فما هاله الا ان يسمع خادم اسماعيل تقول و قد فرغت من تنفيض السجادة بصوت رنان:

 خير يا عم صبري ما الذي يدعوك للاستغفار ؟!

و الادهى ان خادما اخرى اطلت توا من احدى النوافذ القريبة و كأنها كانت تترقب الحال ثم قالت تجيب الاولى:

 اللهم اعف عنا و استر بلاوي الخلق!
 آمين !

ردد صبري نظره بين الخادمين يرميهما بنظرات الاستياء و ظل على صمته لا ينبس بكلمة بيد انه عاد يستسلم لداعي الذكرى و انتابه خليط من الاحاسيس و هو يعاود تمثل المشهد من جديد.. تذكر في اشفاق ما نال اعصابه من توتر و اما اضطرب به صدره من انفعال .. قال لخادمه بصوب متهدج و هو يتحامى النظر صوبها :

 اما انتهيت بعد يا رباب؟!
فجاءه صوتها الحلقي يقول ممطوطا:
 نعم يا سيدي؟!

فالتفت اليها في تبرم و كانت جاثية بقرب الخوان فبذل جهدا ليركز بصره في و جهها دون باقي الاعضاء... عيناها واسعتان دعجاوان! و ما هذه النظرة المشعة تنبعث من حدقتيهما ! تفيض بحديث لا تدركه العقول بل تهتز له مجامع القلوب.. تململ في مكانه يكابد وقع نظرتها اليه ثم حول عينيه عنها في ارتباك ظاهر فنهضت المرأة متثاقلة حتى اذا استوى عودها انحنت الى الامام قليلا فزاد الفستان في انحساره و هو ينظر اليها في جمود يخفي ارتباكا و هياجا.. قالت له بصوت كالنغم "الشاي جاهز يا سيدي الف عافية!" فهز برأسه و اشار لها بالانصراف فتراجعت في تباطئ يكاد يكون فضوحا كنظرتها الجريئة التي لا تستر خاطرا..اي شيطان رماها في احضانه ؟! و من اين لها بهذه النظرة الوقحة و التمايع – و ان كان يلمس في نفسه من التجاوب ما يندى له جبينه خجلا- من اين لها بكل تلك السمات لو فرض انها امرأة عفيفة ربيبة بيوت مستورة؟! هل يتبدى له الان انه يحوي في بيته و احدة من بنات الهوى؟ الحق ان زوجته هي من اتت بها و لعلها تخيرتها لكهولتها و دمامة في وجهها.. اجل هي ليست بجميلة عموما لكن مظهرها مع ذلك يثير في نفسه مشاعر صماء تنضح شهوة و بهيمية مما اصابه بالمقت و الازدراء...و اتبع ظهرها و هي تسير نحوى الباب نظرة رغبة و اشفاق و هو يتمنى صادقا لو ترجع زوجه الان فتقضي بختام هذه الخلوة المشؤومة .. بيد ان رباب دارت بغتة على عقبيها و نظرت اليه في حياء ثم قالت بصوت هامس كالحفيف:

 سيدي..!
 ما بك يا رباب؟
 ثمة امر هام علي اخبارك به يا سيدي!
 افصحي..
 لكني خجلة منك جدا و اخشى ان تحمل قولي على محمل الشك و الظنون.

فتمادي به الضيق و حدحها بنظرة ثاقبة و قال:
 لا عليك.. افصحي.

فتدانت من مجلسه و هو يرمقها بتفرس مشوب بالريبة و جثت على كثب من الخوان كما كانت تفعل منذ لحظات.. ظل ينظر اليها في ترقب على حين اطرقت هي في ارباك ثم غمغمت بصوت هامس:

 كنت اتمنى الا اضطر للكلا م عن هذا الامر خاصة امامك انت يا سيدي!

نظر اليها بريبة متزايدة لكن لم ينبس بكلة فعادت تقول:

 منذ فترة لا ادري مداها حاقت بي حال شديدة.. ارقنى السهاد و احرقني الجوى و بات كل تفكيري يتجه لموقع واحد بت قلبا و عقلا اهفو الى مكان واحد الى شخص واحد هو انت يا سيد ي!

و ذكر في مزيج من الخجل و الاشفاق ما تلى بوحها من لحظات شديدة مشبعة بالدهشة و الذهول و الخجل و صمت عميق ساد مليا.. بدت في جلستها خانعة وادعة تبدو عليها سمات من البراءة تنفيها سمات اخرى غامضة اما هو فكمن ضربه زلزال عنيف كان يتوقع ان تأتي بقول اخرق و لعل نفسه حدثته بسماع كلمات مشابهة لما نطقت به لكن مع ذلك كان وقع الكلام على نفسه شديدا مؤثرا حرك في نفسه كوامن راكضة و لم يفلح في تتبع تيار عواطفه و احساساته التي انبثقت بسرعة الضوء فأجفل زائغا و هو يردد كلاما مبهما يمتزج فيه الاستغفار بالاستعاذة و الحوقلة و لا يدري كيف هب فجأة من حومة انفعالاته ينتهر المرأة و قد خيل اليه انه سمعها تسطترد بكلام عن الرغبة و الحب و عن انها ترتضيه بغير زواج او رباطّ! لكنه هب في فورة غضب لم يدري لها سببا و جذب المرأة من ذراعها ثم جرها بعنف نحو الباب و هو ينتفض حنقا و غضبا و رما بها خارجا دون ان تأخذه رحمة بضعفها او يلين قلبه لسماع نحيبها..

و هو اليوم يمني نفسه بان يعود الى بيته فلا يجد لها فيه من اُثر! لقد نقدها اجرها منذ الصباح الباكر و اعلمها بانه لم يعد لها من متعس في هذا البيت و قد قرأ في وجهها حزنا صامتا و شعورا كسيرا لعله اثار في نفسه شيئا من التأثر لكن ما لا بد منه يجب ان يكون.. فكيف يتلقى هدوء حياتهفي آخرها صخب الفضائح التي قد تلازمه كظل؟!

ارتاح الى ما قر عليه قراره و استطاع ان يستشعر شيئا من الراحة و ان يهنئ نفسه على الخلاص! فلشد ما كان يكابد من الضيق و الحرج في وجود تلك المرأة لأسباب لعل اكثرها و ضوحا تلك النظرة الجريئة الناطقة بغير كلام فكان يطوي صدره على رغبة حبيسة في طردها من داره الى ان جاء هذا اليوم و باحت له بحبها و وقع المحذور فتهتكت الاقنعة كلها و كان منه ما كان ..الحمد لله ...

جائه فواز بائع الفول دافعا امامه عربته تتسنمها قدران كبيرتان تنفثان في الهواء بخارا ساخنا و كان فواز قد انقطع عنه ردحا طويلا و من عادته ان يمر بالحارة من حين لاخر كلما شح رزقه في الاحياء و الازقة المحيطة ، لكن انقطاعه الاخير كان الاطول في عهده فلما رآه صبري اختلج فؤاده لغير ما سبب يدركه و تقدم فواز منه مصافحا ثم امتدت يده الى تلة من الطماطم الحمراء و تخير منها واحدة في غير ما تحرج من صاحب الرزق ثم مسحها بوزرته البيضاء المبقعة حتى صارت تلمع وراح يقضم منها بتلذذ و صبري يرنو اليه باسما...

 صباح الخير يا عم..
 صباح الخير.. ما الذي رما بك في حارتنا المنسية؟!
 حمامة مولهة اعترضت سبيلي و حملتي اليك مرسالا مستعجلا..!
 و ما عساها تريد؟
 قالت امضها الفراق و احرقها الجوى
 مسكينة ليت بوسعي ان اغيثها!
 لقائك دواؤها الشافي يا عم.. قالت دعه يلقاني ابرأ من جراحي كلها..
 الم تقل اين ألقاها؟
 بلى قالت بمقهى جمال الدين بحي كركون الدروز!
 قل للحمامة اني اليها لات و إن كان بها من جوى ففي قلبي نار كالسعير.. لكن موعد اللقاء بلسمي و الى حين اللقاء تهفو النفوس !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى