الثلاثاء ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم منهل السراج

بين أعياد العالم وأعياد سورية

قالت لي صديقة سويدية:
 بدأ السويديون احتفالهم بأعياد الميلاد.
ثم استأنفت:
 إذا لم يملأ الثلج السطوح، فإننا لانحس بالعيد ولانقبل به.
وجدتني أنظر إليها بلا معنى. قالت:
 ألا ترين الزينة؟ ألا ترين أشكال وألوان شجرات الميلاد هنا وهناك؟.
أشارت بإصبعها، التفت، وإذا بشجرة كبيرة تتوسط ساحة الغاليري، وأغصان خضراء شديدة النضارة تلف المحيط كله وتملأ الزوايا، مزينة بكرات ملونة وتماثيل ملائكة صغيرة وأضواء خافتة.
لِمَ لم أنتبه؟.
تمعنت جيداً حولي، واستنتجت السبب. كانت الزينة شديدة الفخامة والرقي لدرجة تتطلب عيناً من طراز يناسبها.
خجلت لأننا اعتدنا على الزينة الفاقعة، التي تقلع عين رائيها. خجلت لأني اكتشفت أن نظرتنا تبلّدت، كأن ذوقنا تربى على زينة بلادنا فصار يشبهها، متدنياً ومباشراً وفاقعاً.

معروف بكل العالم أن الزينة تنصب للأعياد، إلا عندنا، فالزينة تنصب للمسؤولين وليست لأعياد البلاد، ولا لأعياد الناس. كان المشرفون على الزينة يتقصدون اختيارها فاقعة، تقلع عين المواطن وإن تجاهلها، ربما برأيهم "هالعين بدها قلع".
يضاعفون حبال الزينة والأعلام والصور واللافتات الكبيرة والمخططة بألوان وأشكال، أمي قليلة الكلام، كانت تعلق:
 علكة المجنون ملات تمّو .

وهذه الزينة لم تكن تنزع بعد انتهاء المناسبة، كانوا يبقونها معلقة، إلى المناسبة التالية، حتى لا تهدر وترمى بالزبالة. يزيدون عليها زينة جديدة خاصة بالعيد الجديد، وهكذا تزدحم الزينة البالية بالزينة الجديدة وتفقأ العين. المناسبة التالية ليست بعيدة بالتأكيد، فأعيادنا كانت كثيرة ومتلاحقة. كنا نودع الحركة اتصحيحية نستقبل 8 آذار، نودع 8 آذار نستقبل 7 نيسان، نودع 7 نيسان نستقبل 17 نيسان وهنا كانت أمي تقول: لا ياأولاد هذا عيد الجلاء. ذلك لأننا نتذمر في وجهها من كثرة المناسبات، برامج التلفزيون تسليتنا الوحيدة تصبح لعنة.
كان الناس يصيبها الاكتئاب الحقيقي، حين يقترب تشرين، وكان يقترب قبل شهرين من قدومه لأن الاستعدادات له تبدأ قبل ذكرى ميلاد الحركة بأسابيع.

رافق تلك الفترة قطع الكهرباء بالتتالي على الأحياء لمدة تصل إلى 16 ساعة باليوم. حين يأتي دورنا بنعمة الكهرباء، كنت أتابع التلفزيون السوري، القناة الوحيدة المتاحة في ذلك الحين، أتابعه طوال النهار من دافع الفضول، فلا أرى إلا قص أشرطة المشاريع الكثيرة التي تدشن بمناسبة ذكرى الحركة، واكتشفت أنهم يعيدون عرض مشهد التدشين أكثر من مرة ليملأ التلفزيون المسكين ساعات البث، تدشين وتدشين ولبنات أساس، وأغاني حماسية لامتداح الحركة ونضال القائمين عليها. كان صوت المذيع يبح في آخر النهار، من افتعال الحماس، وكان يتخلل صراخه ولولات الأغاني.

كانت متابعة التلفزيون تخلق وسواساً قسرياً تجعل المشاهد يهز رأسه طوال الوقت، ويردد في قلبه وليس بلسانه:
ـ كذب كذب كذب. طبعاً لأنه لايتجرأ أن يقولها علناً، خوفا من ابنه الذي قد يلتقطها ويرددها من دون أن يدري في المدرسة أو في الحي.
ماإن ننتهي من مسيرة حتى نتهيأ لمسيرة. وما إن نودع جمعة عمل طوعي حتى نستقبل غيرها، لم نعد نشتهي فتة الحمص، ذلك لأننا نأكلها بكثرة، فهي فطور الموظفين يوم الجمعة يوم العمل التطوعي.
كان يوم الجمعة في الذاكرة، صلاة وخطبة دينية وتذمر آباء وهدير غسالة الأمهات، صار يوم الجمعة، فتة حمص وعمل طوعي. ومن عقدة إلى أخرى تتنقل الذاكرة.

يأتي أيار بعيد العمال ثم عيد الشهداء، لم نسأل مرة ما معنى هذا العيد أو إلى ماذا يرمز، لأنه صار يشبه غيره، زينة كثيفة ومسيرات إجبارية وبرامج التلفزيون المملة. حين يبدأ الصيف نتنفس الصعداء لأن أمامنا شهرين نرتاح فيهما من الأعياد، ومع ذلك لم نكن نرتاح، كان علينا مشاركة الدول الشقيقة والصديقة بأعيادها المجيدة. إلى أن يقترب من جديد موعد الاستعداد لأكبر الأعياد، عيد الحركة التصحيحية.
هكذا كانت السنة السورية.
ليلة وصولنا إلى لايدن في هولندا، رأينا الناس يملؤون الطرقات، يرقصون ويتدافعون ويقهقهون ويشربون البيرة والكولا، الأطفال يتأرجحون و يأكلون الحلوى، ألعاب كثيرة وتسليات عديدة، كانت الليلة عيداً بمعنى الكلمة، نزل الناس إلى الشوارع يمرحون بقرار ضمني: اليوم جنون. كانت الفرحة تلمع من العيون. لم أر شرطياُ ينهرهم أو حارساً يلكزهم أو رجل أمن يتلصص على ثرثراتهم. كانت بعض فرق الإسعاف تتلفت بعيونها لتقديم المساعدة. سألت صديقاً:

 هل قرروا من الآن إحياء رأس السنة؟
أجابني منبهاً:
 هذا عيد استقلال لايدن.
صحت:
 عيد وطني؟. لا أصدق.
ونفيت المعلومة بشدة، وقررت أن أتأكد بنفسي، من المستحيل أن تكون مظاهرالعيد الوطني هكذا. لكن في الصباح اتصل صديق هولندي يهنئنا بالعيد. وعيد لايدن لايندرج على كل هولندا، هو عيد استقلال مدينة لايدن فقط. يبدأ العيد ليلاً وينتهي عند الفجر. كانت الزينة عبارة عن أضواء موزعة على الأشجار، وبعض الأعلام التي تحمل رمز المدينة القديم، مفتاحين متقاطعين.

منذ أكثر من عام في استوكهولم وأنا أنتظر حدثاً وطنياً كي أراقب احتفالاتهم، لم أرهم يزينون إلا في شهر السنة الأخير، وذلك لأعياد الميلاد ورأس السنة. رأيت، في الربيع الماضي، صوراً معلقة، وزعت على سواتر خاصة، وألصقت على مستوى منخفض، بحيث ينظر المواطن إليها من عل. لفتني صورة امرأة سمراء مرتدية جاكيتا ضيقاً ومفتوح الصدر وتبتسم مثل نوال الزغبي. اتصلت بصديقة سويدية كي أسألها عن سبب كثرة صور الممثلين والفنانين في الشوارع، فضحكت:

 هؤلاء مرشحو الانتخابات.
سألت مستغربة:
 مرشحون؟ كيف تثقون بهؤلاء الناس الذين يشبهون نجوم السينما؟ هل هذه الوجوه ستحكم البلد؟
كانت اللقطات فنية لدرجة لايمكن أن تثق بهذه الإطلالات المائعة.
 كثير منهم نعرفهم ونشهد بأن تاريخهم كان إيجابياً ومؤثراً.
صورهم ذكرتني بصور المسؤولين عندنا، كم هي متجهمة، وكم نضطر أن نرفع رؤوسنا لكي نراها، دائماً تثبت أعلى من المواطن. ولا أذكر مرة أني سمعت من مواطن شهادة ثقة بأحد منهم.

شكرت الصديقة السويدية. طأطأت رأسي وقررت أن أكف عن مشاهدة زينتهم أو صور مسؤوليهم، كي لا أمعن في نبش الذاكرة وأزيد على اليأس يأساً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى