الأربعاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

تاريخانية الأدب

من أجل مُساءلة الأدب، في صيرورة تواصلية دائمة، لابد أن نعود إلى تاريخ المعرفة وإلى مراحلها و تطوراتها. حيث إن التاريخانية، حسب المفكر و المؤرخ عبد الله العروي، تسيج امتدادات الدرس الأدبي في الثقافة الإنسانية. فما من حديث عن ظاهرة أدبية إلا واندغمت بهذا الشرط التاريخي، الذي يرسم حدودا زمنية للقول والكلام، كاشفا، بذلك، عن أهم إبدالاتها و جدواها. فعلى امتداد ما يزيد عن خمسين سنة لكتاب"الأيديولوجية العربية المعاصرة"، الذي أقر فيه العروي أن المناهج العلمية، التي عولج بها الأدب العربي، لا تقوم لها قائمة من دون تاريخ الأفكار، ليأتي بعد ذلك كتابه"السنة والإصلاح"، مجيبا عن تساؤلات ساخنة الوطيس متعلقة بالانتماء و الهوية والدين والتاريخ والأدب. فالمُسائلة، حسب عبد الفتاح كيليطو، في هذا الكتاب، ترى أن البحث عن جذور انتمائها الشرقي، أفضى بها إلى الكشف عن جدوى التنزيل و الوحي والسنة في حياة الأفراد و الأمم. على اعتبارها، جميعا، عناصر تبوصل الوجود الذي عرفه الإنسان في الشرق، منذ نزول الوحي في شبه جزيرة العرب. فأيـّا كانت الأسباب والمسببات، التي جعلت من هذه المرأة موضوع كتاب"السنة و الإصلاح"عند العروي، فإن لهذه العلاقة امتدادات جوهرية في تاريخ مصادر الأدب العربي، وعلى قبسها سار المؤلف، ليجعل للمرأة مكانة في إنتاج المعرفة الأدبية والترويج لها،لأن المخاطب، في أمهات المصادر المعرفية لتاريخ الأدب العربي، يكون جنسا ذكرا. وفي هذا المضمار، نجد على سبيل المثال لا الحصر: خطابات العبدري، رحلات ابن بطوطة، تساؤلات حي بن يقضان، مقامات الحريري و الزمخشري، باستثناء شهرزاد في حكايات"ألف ليلة و ليلة"، حيث تكون الأنثى محركة لعجلة السرد في هذه المحكيات. فبهذا سلك عبد الله العروي طريقا جديدا في معالجة الظاهرة الأدبية، بما هي موروث إنساني يحافظ على الكينونة، ويتشرب مبادئ العقيدة، وأخيرا يتشكل من خلالها وعي بالوجود و الكون.

إن السعي وراء اكتشاف دور الأدب في بناء الوعي بالماضي و استشراف المستقبل، وعلاقته بالآخر، قد يخرج عن دائرة المعرفة المنهجية بأصول الثوابت في العقيدة و الدين الحنيف و التاريخ. من هذا المبتغى تجيء تاريخانية عبد الله العروي مسجورة بالسؤال التاريخي، لتجد صداها يتردد بشكل منتظم في محكياته الروائية بدءا ب"الغربة"و"اليتيم"، وذلك من خلال موقفين يتحقق فيهما آمال المغاربة بُعيد الاستقلال، ويسيج هذه التاريخانية بسيرة إدريس الذهنية في روايته"أوراق"، التي كان ينظر فيها إدريس إلى أوراقه، وهي مجموعة من نصوص، حسب عبد الله العروي، نشرت و قرئت و نوقشت منذ سنين. ومنه، يتشكل عند الكاتب وعي جديد بالأدب و أهميته في الحياة، بما هو لا يقف عند حدود مشروع يواكبه العروي بالبحث الأكاديمي الرصين، و في رحاب كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط يزكيه بجلساته العلمية، وإنما هو منعطف نحو إعادة بناء الذات، العالمة والمؤرخة، في علاقتها بالآخر ـ ماريا، لارا ـ لا على مستوى الهوية فحسب، بل على مستوى الانتماء العقدي والديني و التاريخي و الجغرافي.

لم تتحدد الرؤية الجديدة للأدب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك من خلال موقف المفكر والمؤرخ عبد الله العروي من الثقافة و الفكر، إلا في علاقتها، كما هو معروف و متداول، بالشرط التاريخي. فبالعودة إلى فكر فلاسفة الأنوار في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وما أحدثه من ثورات هزت البشرية، وما أعقبها من حملات تبشيرية و عسكرية، كحملة نابليون بونابارت على مصر، فإن هذه الأحداث و غيرها مهدت إلى ظهور مناهج تاريخية حديثة تناولت السيرورة الأدبية في مختلف المشارب المعرفية الإنسانية، حيث أصبح الدرس التاريخي يغلف الدرس الأدبي. خطان متوازيان. فبهذا المنظور الشامل لم تسلم آداب شبه جزيرة العرب من هذا التحديث الشامل لتناول الظواهر الأدبية، حيث تم ترتيب العلاقة التي تربط بين عناصر الثالوث المعرفي، الباحث و المعرفة و القارئ.

لم يستطع الدرس الأدبي، في غضون ذلك، أن يتخلص من تاريخانية كارل بوبر، بما هو أرسى دعائم النظرة التاريخية للأدب من زاوية تفاعلية مثمرة، حيث يظهر المؤرخ العضوي مفسرا لسقطات و هِنات تاريخية سابقة، تعتبر مفاصل رؤية جديدة للماضي والحاضر والمستقبل. وما كان للأدب العربي إلا أن يتبنى هذا الدور الجديد الذي يحضى به المؤرخ في الثقافة العالمية الحديثة، وبهذا يكون كتاب"تاريخ الأدب العربي"للمستشرق الألماني"كارل بروكلمان"، قد شرعن العبور الآمن بين التاريخ و الأدب. وعلى خطاه، جاء كتاب الباحث اللبناني حنا الفاخوري حاملا العنوانَ نفسَه ـ أي تاريخ الأدب العربي ـ. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية عشرة:"أما طريقتنا فهي قائمة على مزج التاريخ الثابت، بالتحليل الواسع، وتبويب الأدب بالنظر إلى فنونه العالمية. وبذلك يكون الفاخوري قد أسدى خدمة جليلة للمكتبة العربية، وأغناها بثوابتَ و أصول معرفية حقيقية، انطلاقا من العصر الجاهلي، فالأموي مرورا بالعباسي إلى حدود عصر النهضة مع البارودي وجورجي زيدان.
أمن الممكن أن نطرح سؤالا عن جدوى هذه المغامرة، التي أقدم عليها الفاخوري. فثقافة السؤال ذاهبة نحو تأصيل الأصول، فمن دون الهوية الثقافية و التاريخية، التي تؤسس لمبدإ التنوع، كيف سيصير الأدب العربي مستقبلا؟

في تاريخ الأدب العربي ثمة ظواهر أدبية، تشي قدرة الشاعر الجاهلي على أن يكون مطبوعا بالشعر. فهو لا يجيل فيه النظر، وإنما يخرج الشعر منساقا وراء سليقة لغوية موسيقية، تماشيا و السيرورة القرآنية. بما هي قطعت الصلة بالحياة الوثنية، كحدث تاريخي كان يعيشه الشاعر قبل بزوغ فجر الإسلام. ففضلا عن ذلك، فجر الدكتور جابر عصفور، في كتابه"غواية التراث"عن سلسلة"كتاب العربي"، ينابيع التأمل التاريخي في هذه الظواهر الأدبية، التي طرزت الأدب العربي، حيث أكد أن المعلقات والمذهبات السبع، التي كانت تعلق على أستار الكعبة، لا تدرك مقاصدها الفنية والاجتماعية والتاريخية، إلا في ارتباطها الجامد بالشرط التاريخي، الذي أفرز لنا شعراء عظام، استطاعوا أن يؤرخوا أحداثا ظلت موشومة في الذاكرة العربية على امتداد الزمن. فمن جهة أخرى، كان السَّدى النغمي، الذي يخيط لحمة كلام الوحي، نابع من بلاغة أرقت البلاغيين. ومنه لا ضير أن نقول: إن الوحي تحدى موسيقية الأذن الجاهلية، محققا إبدالا خطيرا في البناء الثقافي للإنسان العربي. فمقصدية الأدب أن تجعل الإنسان في بؤرة الحياة، فاعلا في التاريخ، قادرا على تجاوز الأخطاء، متواصلا أبدا، لذا فهو يعيش المد و الجزر في أرخبيلات معرفية عائمة.

فالأدب سواء كان أمويا أو عباسيا أو أندلسيا أو حتى أدبا معاصرا، لن يفارق هذه الحياة التي اقتنع بها هذا الأديب أو هذا الشاعر. فعندما نعشق الحياة نذهب إلى السينما، كجنس أدبي تصويري، حسب جلال الحكماوي. خطان متوازيان. ففي صلب السينما، التي هي عبارة عن مجازات و استعارات خارجة عن النص، توجد بذرة حياة الأدب، وإلى جانبها تنمو شجرة التاريخ كإطار يسيج هذه المعرفة. في كتاب"حديث الأربعاء"لطه حسين، أشار عميد الأدب العربي إلى حدث ظل راسخا في تاريخ الشعر و الشعراء، فعمر بن أبي ربيعة عـُرف، في الشعر الأموي، بالغزل، فانفتح شعره على خبايا أسرار حياة المرأة الحجازية. فبكثرة ما تغزل الشاعر بالمرأة، وافتضح أمرها، وانتهك حرماتها، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسفك دمه، احتراما لجسد المرأة الحجازية و حمايته من انتهاكات قد تخدش عفته و طهره بسوء. ففضلا على أنه حدث ذو ميسم ثقافي، إلا أنه لا يدرك كنهه إلا في سياقه التاريخي الممتد عبر الزمن.

وأخيرا، يبقى السؤال الملحاحُ معلقا، هل يمكننا العيش من دون أدب؟ أو بصيغة أخرى، أيستطيع المرء أن يمر يوم واحد من حياته، دون سرد أو وصف أو حوار؟ و في ضوء المعرفة التاريخانية يكتمل صرح الوجود الفعلي للإنسان، وبالتالي يستطيع أن يميز بين الوجود الثقافي و الوجود التاريخي. علاوة على ذلك، فما من تغيير قد يمس الجوهر الإنساني مستقبلا، إلا ويعرج على تينك القطبين الأسنيين في بناء الحاضر، والتطلع من خلالهما إلى المستقبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى