الأربعاء ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
دراسة نقدية
بقلم حسن غريب أحمد

تجلى النص و سيمفونية المفردة

فى ديوان " اغتراب الأقاحى " للشاعرة / فاطمة بو هراكة :

فى الاضمومة الشعرية " اغتراب الأقاحى " للشاعرة المغربية فاطمة بو هراكة 00 تبدو النثرية رغبة فى تبسيط الخطاب الشعرى ، دون الابتعاد عن شاطئ الشعر كخطاب مستعص ، و ذلك عبر اختيار آليات أخرى لهدم اللغة التقليدية ، و الانفتاح بالخزان الشعرى و اللغوى على عوالم مختلفة هى الأثاث الطبيعى للحياة اليومية فى تحولاتها الدائمة ، سياسيا و اجتماعيا وفكريا و ثقافيا 00 و يمكن اختصار هذه العوالم / العوامل فى ثلاثة عناصر هى : الأدب – الأجنبى – النثر بكل أشكاله غير الشعرية / الشعر الغنائي و الزجل و الملحون / العامية بكل تشكلاتها

البحث فى قصيدة النثر ، و هو بحث فى الاختلاف و المفارقات على أكثر من صعيد ، لتأسيس وعى جديد يواكب التحولات فى مستويات الفكر و اللغة و الإيقاع و التدليل ، أى فى مستويات اللغة و الإيقاع بما هى آليات للتواصل بالشعر الراهن ، و تتضمن القراءة فى شعر فاطمة بو هراكة ، العديد من الأفكار و الأسئلة التى تورط أنفسنا و قصيدة النثر ، للتأمل فى إطارها النظرى الفكرى و الجمالى الفنى و من هنا عنوان المداخلة " الشعرى فى قصيدة النثر " و قبل الخوض فى عوالم هذه القصيدة المطنون بها على أهلها نود أن نقدم بعض الأفكار العامة كأوليات ضرورية منهجيا لمعالجة هذه القصيدة

على أن الملاحظة التى تثير انتباهى أن الرائج الأكبر الآن ضمن أشكال التعبير الشعرى لون لا هو بالنثر و لا هو بالشعر سواء بمقاييس ابن قتيبه فى العصر الوسيط أو حتى بمقاييس نازك الملائكة فى القرن العشرين و قد قيل فى هذا الأمر كلام كثير لا نرى أهمية إعادته هنا ، حتى لا ننغمس فى خطاب أخذ على عاتقه قديماً و حديثا ً مسألة تكريس " سلطة الاعتراف " بشكل تعبيرى معين ، و نزع الاعتراف عن غيره ، و لكن لابد من الإقرار بأمر واقع هو ان تضارباً انتهت إليه الساحة الأدبية إبداعا و نقداً بين هيمنة لون تعبيرى معين متحفظ فى شأنه و بين واقع نصى آخر يسير نحو التضاؤل لكن يتمتع " بسلطة الاعتراف " على نطاق من التلقى واسع ، إن التنازع حول " الاعتراف " لا يمنع قصيدة النثر من العيش و الدوام و السير بنفسها نحو الاكتمال ، إذا استطاعت أن توفر حسن الانتباه و الإنصات ، حتى يظهر للمترددين ، و المطففين ان الأمر مع هذه القصيدة يتعلق بواقع نصى لا يرتفع 0
تبنى هذه الملاحظة على معطيين مرجعيين متباعدين زمنياً ، يمكن الاتكاء عليهما أن تتأمل فى قصيدة النثر باطمئنان نظرى نقدى مناسب الأول قديم مأخوذ من رأى ابن وهب الكاتب قال فيه : " الشعر يكمن فى التعبير عن الشعور الحقيقي بالأشياء و أضاف ما معناه أن شعرية الشعر تأتى من امتلاك الشاعر لدقة الحس ، و عمق الشعور وقوة الفطنة ، ما يميز شعوره عن شعور غيره ، و إذا فقد الشاعر هذه الأمور ، ضاعت " شعريته " و لم يلتفت إلى انه أتى بكلام موزون مقفى 00 و لا يستحق الشاعر هذا الاسم ، حتى يأتى بما لا يشعر به غيره ، و إذا كان يستحق الشاعر لما ذكرناه ، فكل من كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر و إن أتى بكلام موزون مقفى "

و قال الفارابى فى إحدى رسائله : " القول إذا كان مؤلفا مما يحاكى الشئ ، و لم يكن موزونا بإيقاع ، يقال له : قول شعرى "
أما الثانى ، فهو فى الواقع رأى / موفق ينهض على آراء كثيرة لا ترفض هذا اللون التعبيرى ، بقدر ما اجتهدت فى وضعه فى المكان اللائق به ، و يمثله يوسف الخال ، و محمود درويش ، فاطمة ناعوت ، فاروق جويدة ، أمينه المرينى و أدونيس و عبد العزيز المقالح ، وعبد الحميد جيده ، و عفت بركات و احمد سواركة و غيرهم من الشعراء و المبدعين و النقاد و مفاد هذاالموقف هو : -
أولا : أن ما يكتبه شعراء قصيدة النثر ما ليس نثرا بالمعنى المألوف للنثر ، بل ضرورة نثرية جديدة ، تحمل سمات الشعر ، و بالتالى ففى قصيدة النثر تطور فى الصياغة الشعرية و اللغة الموحية الدالة و الواقع الداخلى الذى يتلاءم و شكل القصيدة
ثانيا : أن الدعوة الى هذه القصيدة ما لم تكن فى البداية متجهة إلى تسمية النثر شعراً ، فقصيدة النثر و النشر شكل من أشكال التعبير الشعرى يسمى قصيدة النثر كما تؤكد نازك الملائكة
ثالثا : أن الشعر بهذا المعنى دون وزن أو قافية يعتمد على " التخييل " ، إذن الشعر بناء تخييلى / يثير وظائف المخيلة و قدرات التلقى عند الناس ، لقد كان القرآن مدهشا للجاهلين حتى عدّوه شعرا ، نظراً لتوازناته الإيقاعية الرائعة ، و لقوة بلاغته الإعجازية – رغم اختلاف معماره البنائى عن معمار المعلقات الجاهلية 00 فالشعر خيال و فن و ليس طنطنة و رنينا

بناء على هذه المعطيات المذكورة ينهض فى الذهن وضوح التصور لتناول واحدة من أبرز العطاءات الإبداعية فىالساحة المغربية العربية المعاصرة و يتعلق الأمر بأضمومة للشاعرة المبدعة فاطمة بو هراكه تحمل عنوان " اغتراب الأقاحى " صدرت هذه الأضمومة ضمن مطبوعات مطبعة امبريال بالمغرب سنة 2003 م و قد ازدان غلاف هذا الديوان بلوحة الغلاف للفنانة التشكيلية المغربية نعيمة الملكاوى بالاشتراك مع الفنان التشكيلي و النحات عبد القادر بوطافى 0 ثم اهداء و توطئه للديوان للكاتب المغربي محمد السرغنى
ونص " رقصات الجسد العاصى " ص 9 و هى تفتح أبواب الأضمومة أولا و لسبراغوار نصوصها ثانيا

شعرية العناوين

تقع الأضمومة فى 80 صفحة من القطع المتوسط ، و اكتست ترتيبا ملحوظا فتكاد تنفرد كل صفحة بنص منفتح و مستقل ، إيذانا بالاقتضاب الشعري كما ان معظم النصوص استغرقت صفحتين مثل : رقصات الجسد العاص ص 9 00 لم السفر ص 13 00 فى مهب الريح ص 17 00 همس على الأطلال ص 21 00 كلام الصمت ص 25 00 حكاية نورس حزين ص 29 00 تولوز فى الذاكرة ص 33 00 زغاريد ولادة مؤجلة ص 24 00 عشتار لحظة النار ص 41

ومن الجميل أن نسرد على السمع المتأنى عناوين هذه الأضمومة كما يلى : -
عيناك قساوة كبرى – متعبة – عتبات اللاوداع – ثلاثية الجرح و الوادع – مرثية على قبر هابيل – لكل هذا الألم أرفض كينونتى - عتبات الجرح الأخير – الثامن مارس – بكاء آخر الليل
و هكذا نحن أمام ثمانى عشرة نصا و ثمانى عشرة عنوانا ، كلها عبارة عناوين ما بين الفردية و الثنائية و الثلاثية و الرباعية الخ
فكيف أقرأ هذه العناوين ؟
العنوان فى قصيدة النثر : -

العنوان مظهر من مظاهر الإسناد و الوصل و الربط المنطقى ، عند جون كوهن و عيره ، و بالتالى ، فالنص إذا كان بأفكاره المبعثرة ، مسنداً فإن العنوان مسند إليه هكذا فالعنوان هو الموضوع العام ، بينما يشكل النص ، بما هو خطاب أجزاء العنوان ، أو العنوان مجزءاً فالعنوان بهذا المعنى نص كلى ، و يؤكد كوهن أن النثرية علمياً كان ام أدبيا يتوفر دائما على عنوان – اى أن العنونة من سمات النص النثرى كيفما كان نوعه ، لأن النثر قائم على الوصل و القواعد المنطقية 00 بينما الشعر يمكن ان يستغنى عن العنوان مادام يستند إلى الانسجام ( الظاهر على اٌلأقل ) و بمقارنة بسيطة نلحظ أن القدماء كانوا لا يضعون عناوين طويلة و مسجوعة فيها هى ايضا العديد من العلامات النصية ، ومن هذه الناحية يمكن القول أن الشاعر النثرى أفاد كثيرا من الشعر إلا أنه حقق مبدأ الانزياح و الخرق حين انتهك مبدأ العنونة فى النثر ذاته ، و ذلك من خلال الخروقات بين الفكرى و الرابط المنطقى فـ " اغتراب الأقاحى " دليل على الخرق الواضح ، بين المنطق المألوف فىالاغتراب و بين الأقاحى 00 فالاغتراب غوص و بحث فى العمق و غور إلى مجهول مظلم ، و الأقاحى بدلالالتها تقترب من المغامرة فى المجهول و البحث الدائم عن زهرة الأقحوان و عن سبب الخصب و الحياة و النماء : الأقاحى وفى هذا معنى الكد لأجل الأجمل فى الطبيعة و الحياة ، الأقاحى لأجل الماء ، و لكن هذه الأضمومة اغتراب

اتجه مقلوبا معكوساً اغتراب الأقاحى فى السماء

ترى ما الذى خرق الإسناد ؟ الفعل أم المفعول ؟؟

يبدو لى أن الخارق هنا هو الفعل فالفعل هو كنه الحركة فى الكون ، و هنا الاغتراب هو سبب وجود الأقاحى ، إذن فالأقاحى فى السماء خرق المعتاد - كسر القواعد المنطقية للخروج بالاغتراب و الأقاحى إلى دلالات أرحب ، ترفض التقوقع فى دلالاتها الأولى و المباشرة ، و يمكن القول إن مثل القواعد المذكورة قد يستحضرها المتلقى " المتواصل " بشكل بديهى
فــ " رقصات الجسد العاصى " ، تولوز فى الذاكرة ، الثامن مارس و غيرها من العناوين 00 تقوم بوظيفة احتواء مدلول النص بكامله ، و علينا ان نقوم بتحليل العناوين مفردة أو ثنائية أو عبارة شعرية بعد أخرى لتحقيق قدر من التأنى لنستطيع به الربط بين نصية العنوان و علاقته بنصية القصيدة ، فنص " متعبة " مثلا ص 49 يختزل بدلالاته و أبعاده مدلول ما يليه

" مسافات الخطو تزداد اتساعا "

تبارحنى انشودة لهذا

الزمان

تصرخ لحظة الألم

حمقاء هى الذكريات

و هذه خطوة تعزز وظيفة أخرى يقوم بها العنوان فى هذه الأضمومة إنها وظيفة التناص الداخلى 00 حيث تلاحظ العنوان يتكرر بنفسه فى صلب النص
متعبة انت يا انا

لحظة الوعود ص 51

فى ذاكرة الزمن التائه

بين الجدران

متعبة انت يا انا ص 52

وكذلك فى نص " لم السفر ؟ " ص 15

تبوح بسرها للغرباء
تسائلنى : لم السفر ؟
خذينى زهرة بين الأحضان
عشقا ذابلا قبيل السفر
 
و كذلك فى قصيدة " بكاء آخر الليل " ص 79
لا البحر يسامحنى
لا الوقت
لا المكان
بكاء آخر الليل
و فى صفحة 80
 
الى حاجزنا اناك المضمخة بالنرجس
و رنين عقد تافهة
ولدت وقيت الغسق
بكاء اخر الليل ص 80

حيث يتحايث فى هذا المستوى الشكل و الفكر فىالنص الواحد ، وكل العناوين ترتبط بالامرين معا مع العنوان المركزى للأضمومة بشكل تأويلى شعرى معين
إننا نعيش اليوم فى امبراطورية العلامات ، فى شعر يتسم بالتعقيد و التواصل البصرى فالمطلوب الاطلاع على المشروع السيمولوجى للدخول فى مغامرة علاقية حتى نلم بالمحيط الذى يواجهنا و فى هذا الاطار ركزت قصيدة النثر فى وضع عناوينها على اهمية الاختصار و التكثيف الموحى و الدال و تخلصت ما أمكنها من الفعل ، ليس فقط فى العناوين ، بل فى نصها و تحققها بشكل عام ، كما سنرى فى الجزء الثانى من هذه المداخلة ، ذلك ان العناوين تستفيد هنا من الطاقات الابدالية للغة ومن قدرتها الاختزالية ، لذا فإن كل عناوين الشاعرة فاطمة بو هراكة هى عبارة عن شفرات ترميزية ، تصلح أن تكون مفاتيح لفك الرموز اللغوية المكثفة : القصيدة ، عناوين فاطمة بوهراكة ، مفردات مذكرة و مؤنثة مهمة ، كلام الصمت ، الثامن مارس ، لم السفر ، عتبات اللا وداع ، فى مهب الريح .

و جموع ايضا : "رقصات الجسد العاصى ، همس على الأطلال ، زغاريد ولادة مؤجلة ، عيناك قساوة كبرى ، لكل هذا الألم أرفض كينونتى )
و هى كلها رسائل مسكوكة مادامت تتضمن علامات دالة ، مشبعة برؤية خاصة للعالم ، إذ يغلب عليها الطابع الإيحائي لنتأمل عنوان " ثلاثية الجرح و الوادع " ص 57 فانها تفتح أمامنا شتى الاحتمالات تلوح للاغتراب و تأثيث الجنازة و احتضار القلب و تبينه للقارئ المتأمل فيه قبل أن يسترق النظر الى ليله العرس الجنائزى 0
هكذا يسبق الروح السباحة فى جغرافية العيون بما هو يتجاوز جزيرة الضياع التى ستصلبها 000 النص موضع الاستقرار العادى ، لا يفيد جرح أقحوانة الماضى بل يزيده السفر اغتراب فىالاغتراب وفى اعتبارى تشكل عناوين الشاعرة فاطمة بو هراكة فىهذه الأضمومة لوحة تشكيلية تتقاطع فيها كل الألوان و الوظائف و الاحتمالات الانفعال بالمرئي و المتخيل ، الانتباه لفقرة و بقوة المدلول و أبعاده 00 المجال لاتساع الاحتمال و الرغبة فى امتلاكه 00 واحتضانه 00 و هذه من قبيل ما يحرك البصر و الفؤاد و البصيرة نحو الإدراك و انجاح التواصل 00 أليست قصيدة النثر جماع أيقونات و أسفار لاتسلم " آياتها " إلا للمؤمنين بها "
إن عناوين :

عتبات اللاوداع ص 53

عتبات الجرح الأخير ص 69

عشتار لحظة النار ص 41

زغاريد ولادة مؤجلة ص 37

و غيرها ، بقدر إغرائها للمتلقى بقدر إيحائها الغامض و السحرى ، فهذه العناوين كلها تتضمن فعالية وصفية يمكن اخضاعها للتحليل و التشريح اللغوى السيميائي ، ومن ثمة قدرتها ، من خلال قدرة فاطمة بو هراكة على التعيين ، غير أنه إذا كان القارئ قد تعود على عناوين طويلة لقصائد او لنصوص أخرى ، فانه مع " اغتراب الأقاحى " هو فى حاجة إلى قرائن فوق لغوية ، تعين على فك شفراتها ، حتى يستطيع إدراك أو توقع مضامين النصوص ، و عموما إذا كان العنوان يعين طبيعة النص و ربما يحدد نوع القراءة التى تلائم خذاالنص أو ذاك فهو يعنى كذلك مقصدية المبدع لهذا قال شارل غريفان " : إذا كان العنوان هو اعلان عن طبيعة النص فهو اعلان عن القصد الذى انبنى عليه ، إما واصفا بشكل محايدا أو حاجبا لشئ خفى ، أو كاشفا غير آبه بما سيأتى
و المتأمل فى هذا الرأى يمكن أن يعتبره إنسانيا لا غربيا و لا شرقيا رغم ما قد يظهر للبعض من انه من التنظيرات الغربية الحديثة ، فربما للحداثين بعض الفضل فى اثارة الانتباه لعمقه و لمضامينه

على انه اذا كانت العناوين الاصلية و الفرعية الكبرى و الصغرى الخارجية و الداخلية عتبات لشئ ما ، فهى عتبات النص الشعرى المقصود ، ونعتبر أن دراستها بشكل عميق هو تعبيد الطريق اليانع للتواصل و حسن الاصغاء للنص الشعرى ، فكيف يتجلى لنا نص " اغتراب الأقاحى " ؟
شعرية النص / قصيدة النثر ::
لو أن الوقت يسمح بالكثير من الكلام النقدى فى هذا المقام ، لكان لزاماً أن نبدأ بقراءة الأضمومة بصريا و تشكيليا – فعدد النصوص ( ليس فقط بالطبع هو كل ما يقال ، فالمبدع يختار فى الغالب الأعم ما يحبذ طبعه ) و عدد الصفحات و عدد الأسطر - التوزيع الجغرافي للكلمة والجملة و البياض ) كل هذا مهم جدا ، و أكتفى هنا بالإشارة إلى هذه الأشياء ، على أن ما يهمنى فى هذه الفقرة هو الأشياء على مايهمنى فى هذه الفقرة هو " الجملة الشعرية " و بنية اللغة فى هذه الأضمومة ، و ذلك بالنظر إلى تعانق اللغة بمستويات ثلاثة :

المنطق و الجمال و الدلالة
- المنحى المنطقى
قالت : فاطمة بوهراكة
جنون الشعر يجلبنى
يرمينى عبر أسوار بابل
العتيقة
لأرى وجهك الملائكى
و قد ركعت لك باقى الآلهة
هناك الياسمين قد انتحر
ليلة الميلاد

يمكن القول إن الشاعرة تتوق لتحقيق هدف مزدوج للكلمة الشعرية : لتبسيط ورد الاعتبار أو الامتلاء و هذا امر مشروع لأنه يرتبط بصورة " الفرد الحديث الحقيقى " الذى يبحث و ينزع فرص التعبير عن نفسه و التأكيد على أصالته و قيمه – ضدا على كل تيار جارف و ربما كان الفرض من العوامل التى دفعت بها للانتحار بـــ " القيمة الاصلية " أو " القيمة المفروضة " للكلمة ، بغية اعطائها معنى جديدا ايجابيا و خلاقا و هذا فى اعتبارى المتواضع هو مقصود فاطمة بوهراكة بالركعات لباقى الألهة ، إزاء ليلة الميلاد كثرة و غزارة الزخم الإبداعى و الايحائي للشعر ، مقابل قلة الشاعرات المبدعات المخلصات ، إن جمال الشعر يعود إلى عدة أشياء ، ومن بينها نظام المفردات و كيفية علاقتها بعضها ببعض وهذا نظام لا يتحكم فيه النحو ، بل الانفعال و التجربة ، تقول الشاعرة فاطمة بوهراكة :

مسافات الخطو تزداد
اتساعا
تبارحنى انشودة لهذا
الزمان
تصرخ لحظة الالم
( متعبة ص 51 )
و تقول أيضا فى " لكل هذا الألم أرفض كينونتى ) ص 67
قتلت لحيظة الفرح
 
بأياد شبيهة بيدى
يدى بريئة منى
من ألمى
و فىنص " الثامن مارس " ص 73
شاهدة على تفاهة القول / الفعل :
سرير مدجج بعاصفة
الجسد المرهف بالنبيذ

فهى تفترض أن هذا القاموس الشعرى يساير تجربتها النفسية بغناها و توترها و تناقضاتها 00 أى بكل أبعادها 00 ومعلوم أن التحول فى الصوغ اللغوى و دلالات المعجم الشعرى الجديد ، يقيم صرح التناقض البين بينه و بين القيم الجمالية التى فرضها تراث قديم عريق ، التى تكمن فى تعليم دينى موحد شديد التنميط و الذى يلح على " الوحدة و لو مصطنعة " و الكفاية و الاستقرار و لو ادعاء وهكذا فالشاعرة الآن ، لكى تعبر عن كل هذه المجالات و الانشغالات و ما يعتريها من تناقضات فهى مجبرة على إدخالها إلى حيزها اللغوى حتى تخلخل معاييرها التركيبية التقليدية و ما يحكمها من علائق منطقية ، فتكسر توازنات هذه اللغة و تشوش على هدوئها ، فالعامل الشعرى بهذه الكيفية هو تحد مستمر بين إرادته و رغبته فى التحرر و بين ما يهيمن على المجتمع من تمثلات أصيلة و قوة ذهنية تقليدية ، قالت فاطمة بوهراكة فى نص " لم السفر " ص 13

تبوح بسرها للغرباء

تسألنى لم السفر ؟

و قالت فى قصيدة " عشتار لحظة النار " ص 41

فماعاد يخيفنى الرحيل

و ما عادت قدماى ترتجف

عند اللقاء

إن ما تثيره تحويل اللغة الشعرية من مشكلات فلسفية و سوسيولوجية و ادبية من جوانب واسعة الاهتمام ، هو من عوائق دراسة قصيدة النثر بشكل عام و من هنا تجد قصيدة النثر نفسها مختزلة فى الغالب إلى العلامات الأساسية للتحول اللغوى الذى تشهده لغة القصيدة ، و عموماً فإن الخصائص المسجلة الآتية لا تشكل إلا ما ظهر واضحاً ونستطيع تاملها من زاوية التجربة التى نعتبر انها تطبع المرحلة الراهنة فىحلقات تطور القصيدة العربية المعاصرة

مصير اللغة / تحول العبارة :

القول عن اللغة من أرقى وسائل التعبير عن المصير الإنسانى ، حتى و هى تبحث عن التحدى و تكريس تبادلاته مع جميع العناصر المحيطة بها و لعل اهم الظواهر التى تميز التحدى المعاصر للغة و بها اهمال الشاعر لقواعد النحو كما كرستها الفيلولوجيا منذ القدم تقول فاطمة بوهراكة فى : نص " عيناك قساوة كبرى " ص 45

يجعلنى طفلة من ثلج من نار

تحتار الكلمات بين شفتى

ترمينى بلهيب الصدمات

و تقول فى نص " تولوز فى الذاكرة " ص 35

ابتعد عنى / إلى

ايها الجسد الدامى المعشوق

خطاياك شجر من زيتون

فخرق القواعد النحوية ، لا يمكن أن يعزى هنا إلى جهل بالنحو او لمعرفة قليلة به ، و إنما يعزى فى نظرى إلى عدم المبالاة بسلطة القواعد المكتوبة ، و التى تظل فى الغالب الأعم محنطة فى مصادر قليلة التداول إلا من طرف قليلة من المتخصصين / اللغويين و ذلك ضمن سياق عدم المبالاة بأية سلطة كانت 0
فللشاعرة امتناع واضح عن ان يتطابق عندها النظام القائم و النظام الموروث تقول :

جنون الشعر يجلبنى
يرمينى عبر أسوار بابل العتيقة
 
و هما نموذجان الى جانب نماذج أخرى مثل نص
" عشتار لحظة النار " ص 43
عشتار الصغيرة تحلم
برمسيس
فى الدروب الملتوية
تحيك له أجمل اللباس
ترويه بدمها عطرا

و يظهر من خلالها حجم اللامبالاة التى تعتبر مقصودة وإرادية بل اللامبالاة بهذا المستوى تؤسس عند فاطمة بو هراكة جدلا ابداعيا يقوم على الهدم و إعادة البناء ، هدم القاعدة فى الإسناد و التراكيب ، و تأسيس أو بناء أشكال إسنادية جديدة خاصة بها ، فما هى إذن الأشكال التى تجلت به هذه الجدلية الخارقة ؟

التنقيط و الفصل ::

من الأشياء التى افادها شعراء قصيدة النثر ، و ضمنهم شعراء الحداثة برمتهم ، كيفية التنقيط و توزيع الكلمات و الجمل فى نصوصهم قالت فاطمة خراكة فى نص " عشتار لحظة النار " ص 43

فكان ال ... ز. . و .. ا 00 ج

بابل السمراء شاهدة )

و فى ص 44 تقول

فىتلك الليلة الساخنة فكان ال ... ط .. لا .. ق

عشتار تبكى / تضحك

إذ يبدو نوع من الغوص ، غايتها تحطيم العبارة المعتادة ، المبنية هنا مثلا على الشرط و جوابه و فى نص " عتبات الجرح الاخير " ص 71 امتنعت فاطمة بوهراكة عن وضع إشارات الفصل و التنقيط اللازمة ، مع غياب أدوات العطف و قدمت كل نصوصها ما يمكن تسميته بــ " النتف اللغوية " وما من شك فى ان هذه التقنية انتشرت فى قصائد النثر مع شعراء غيرها أمثال فاطمة ناعوت ، و انسى الحاج و يوسف زروقة و سولارا صباح و عزت الطيرى ومنال الشيخ و توفيق صايغ و شوقى ابزيغ و غيرهم ممن ساروا بالتجريب خطوات بعيدة

شكل الكتابة و توزيع النص :

و هما مكونان هامان يلعبان دوراً بارزا فىتكسير العبارة واعادة تقييم مكوناتها ، قالت فاطمة بو هراكة فىنص ( همس على الاطلال ) ص 21 و يتوزع كلمة وكلمتان فى كل سطر شعرى كما يلى : -

هيرودس كان هناك
يبصر ...
يسمع ...
يتكلم ...
فأعطى حكمه الملعون
بقطع كل الرؤوس
بوضعها فى مقبرة
الغناء
و قالت فى نص ( فى مهب الريح ) ص 17
بين الدمع و الفرح
نقطتان ..
شمعتان ..
تافهة هى الأولى
إلى حد الغثيان
تجعلنى أسيرة
للاشئ ..

و فى نص ( عشتار لحظة النار ) ص 43 و ص 44
نلاحظ كلمة " رمسيس " قد كررت و استغرقت خمسة أسطر ، لأن كل حرف منها انفرد بمعنى لغوى و فنى ، و بهذا نحن امام أشكال مختلفة للفصل ، من البياض العازل إلى التوزيع غير المنتظم على أسطر معينة إلى وصف الكلمات .. الخ
و لعل هذه الأشكال مما استعير من شعراء الغرب ، و هى هنا قد لا تبتعد عن البوح بأحد آخرين ، إما التعبير عن انفصام العالم الخارجى و الإشارة إلى تمزقه الداخلى / الباطنى ، و إما الإعراب عن امتلاك واقع اجتماعى لا يمكن القبول به ، و الذى لا مراء فيه ، أنه رغم هذا البعد الساخر من اللغة ومن أسوارها المنيعة ، فإن هذه النصوص فى بنائها الحاضرة و فى مضامينها ، هى فى انسجام تام و كامل مع روح الشاعرة و " غيب " تجربتها .

قصيدة النثر و لغة السرد :

فى هذا المستوى تنضم نصوص فاطمة بو هراكة الى رعيل قصائد النثر العربية ، فى عرض الظواهر الجديدة فى استخدام الكلمة ، فعلاوة على تقطيع الكلمات إلى حروف مشتتة ، هناك سلوك معين مع الضمائر المشيرة للزمان و للمكان ، و هناك حذف اسم الموصول واستغناء عن فعل الكينونة فى كثير من النصوص ، و حصر هذه المعطيات يتطلب " تشريح " الأضمومة برمتها ، على سبيل المثال دراستها إحصائيا ، و بدل ذلك نسجل تراجع الفعل و هيمنة الجملة الإسمية و شبه الجملة فى قصيدة النثر ، فقد سبقت الإشارة إلى أن المستهدف الأكبر فيها هو الفعل و الاسم الموصول ، فهل صحيح ان الشاعر المعاصر ينزع نحو تخليص التعبير العربي من طبيعته المجردة و الإطلاقية ؟ ! إن " الهجوم " المذكور على الجملة العربية لا يقتصر على تحويل الفعل اسماً فقط ، بل يحاول إبعاده عن العبارة أصلا ، قالت فاطمة بوهراكة فى نص ( زغاريد ولادة مؤجلة ) ص 39

حديثك يلدغ الوجدان

ينتحر لهذا الصخب الشائع

وقت الظهيرة

و قالت فى نص ( مرثية على قبر هابيل ) ص 61

اتسائلنى ماذا نسيت الذاكرة ؟

وقيت الإخلاص المر

تعانقنى دنيا الآلم

و ذلك فى محاولة للإيجاز و تفادى التفاصيل المملة ، و هكذا فإن نتائج ذلك ، قلة الجمل الفعلية وسيادة الجمل الإسمية و القصيرة منها على الخصوص ، وعلى ذلك تقل أيضا العبارات الخطابية ، من نداء و تفسير ، و الجمل الفعلية عموماً 00 و هذا التراجع يزيد فى سعة فضاء الحرية التى يتوخاها الشاعر المعاصر بنثريته الموحية ، إن ما يعترض تطور اللغة الشعرية من عوائق يزيد من مكابدة الشعراء بحثا عن التعبير الخلاق ، فالمرهون هنا هو ترجمة الروح و الداخل حيث تكمن النتائج الغربية و المتطرقة ، وما لا يعقل ، على ان هذه الخصائص ليست مشتركة لدى الشعراء كافة ، و إنما قد تكون موزعة بينهم تبعا للتجربة اللغوية و المنحى الجمالى عند كل منهم ، ومن الطبيعى أن مثل هذه الملاحظة لا تعدم استمرار بعض عناصر الجملة التقليدية فى العديد من الأعمال الشعرية الأخرى من هنا و هناك.

بساطة الخطاب - استعصاء التطويع :

من الواضح ان أضمومة الشاعرة فاطمة بوهراكة هذه لا تغرق فى الاغتراب بفخامة بلاغيتها التى اتسم بها النثر العربي / كما انها تبتعد ما وسعها الأمر من النفس الرومانسي الغنائي 00 فقد باتت نثرية الجملة الشعرية هذه تشكل فى الحقيقة ، الموقع الذى تتلاقى عنده جهود الهدم 000 التى نهضت بها العبارة التحديثية ، و تنطلق منها التجارب اللغوية الجديدة ومن المناسب فى سياق رصد آليات البساطة الصعبة ، أن نقول بأن الشعراء المعاصرين انتبهوا الى القيمة ( الخام ) للكلام المستخدم فى الكتابة و على ألسنة الناس على اختلاف مشاربهم و انتماءاتهم ، و هذه القيمة ليست مفروضة من قبل المعايير الأدبية و الفنية 00 " فتحرير المادة التعبيرية من الأثقال المفروضة عليها تقليديا / إنما يعنى نقلها إلى حالة " وظائفية " محضة انطلاقا من قيمتها الحية ..
و فىنهاية دراستى أقول :

تعتبر الشاعرة المغربية الجميلة فاطمة بوهراكة واحدة من الأسماء الأدبية البارزة فى المشهد الثقافى المغربي ، و تجئ أهميتها الأدبية و الثقافية من مسائل عديدة أهمها اشتغالها بكل صنوف الكتابة الإبداعية و اهمها الشعر و المقالة و النقد و توليها نائب رئيس تحرير مجلة أوتار الثقافية الاليكترونية
و تعاطى إبداعها الجميل من حين لآخر عبر النشر الالكيترونى او الورقى و يترك ذلك فى أنفسنا و روحنا بصمة صادقة و عميقة الأثر
و ليس أدل على ذلك من ديوان " اغتراب الأقاحى " الأخير الذى تناولته فى هذه الدراسة النقدية .

فى ديوان " اغتراب الأقاحى " للشاعرة / فاطمة بو هراكة :

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى