الأربعاء ٢٠ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم هدى عبد القادر عماري

تجليات أدبية البناء النّصي

من خلال نظرية النظم في الدراسات الإعجازية

شغل البحث عن وجوه الإعجاز القرآني اهتمام النقاد القدامى، فعرضوا آرائهم وقدموا وجهات نظرهم في قراءات مختلفة، بعضها توجهت إلى خارج النص القرآني، فوجد أن الإخبار عن الغيب مثلا يكشف عن الإعجاز، كما تبين أنّ قضايا خارج النص تبرز جانبا من الأدبية الإعجازية المتعلقة بالأثر النفسي والمضامين المستقبلية الغيبيّة، ولكنّها تحول دون تحديد الأدبيّة بشكل جلي، ومن هذا المنطلق تظل المقاييس الخارجة عن النص من العوامل الممهدة و المساعدة لفهمها من داخله، ولا ينبغي الانتقاص من قيمتها لأنها تبقى إحدى أهم الركائز الأساسية لضبطها، أما قضية الفصل بين داخل النص ومحيطه الخارجي ، فإنها تتمثل في مدى بروز مواطن الاهتمام أكثر مما تتعلق بمسألة الخوض في جدال عقيم عن تموقع أدبية النص بين بنياته الداخلية وعوامله الخارجية.

لقد كان للتوجه النقدي الذي اتخذ من النظم أساسا لدراسة الإعجاز القرآني حضورا متميزا عند دارسي الإعجاز الذين أسهموا في وضع أدوات نقدية وتقديم آليات إجرائية كفيلة بمعالجة القيم الفنيّة والخصائص الجمالية التي تجلي الأدبيّة، وبهذا تكون" المزية القرآنية من وجهة نظر المسلمين على الأقل تشكل مسألة إبداعية لم يعرفها الأدب العربي قبل القرآن، واكتشافها سوف يسهم في تطوير الأدب والنقد الأدبي معا، فالناقد الواحد يلعب دورين في آنٍ معاً، فيكون إعجازيا من خلال قراءته النقديّة للنّص القرآني، وناقدا من خلال قراءته لسائر النصوص الإبداعية"(1)

بناءا على هذا الأساس جاءت مساعي الإعجاز يين للبحث عن أسلوب القرآن، والكشف عن سمات لغته الإعجازية و خصوصية بلاغته، "فقد غبت هذه الدراسات عن دراسة النظم من زاوية علاقته بإعجاز القرآن و لم ترفع إلا مقولة لغوية وصفية تخلل على أساسها المخاطابات عندما تخرج اللغة من سكون النظام إلى حركة الفعل ، فتصبح حدثا يرتبط بسياق و تعلق به مقاصد يعبر به المتكلم عن غايات يحققها عند سامع أو قارئ بما يضع فيه من الوسائل وما يصوغ من الأساليب."(2) ليصبح النظم أحد القراءات الممكنة لدراسة المميزات اللغوية و الفنيّة الّتي يختص بها الخطاب القرآني و تميزه عن باقي الخطابات الممكنة من كلام البشر،ومن ثّمة ف‘نّ النظم أكثر القراءات التزاما بالنظم الداخلي للنّص.

و إذا عدنا إلى التعريف اللغوي لمصطلح النظم ألفيناه يقوم على التحام الأجزاء، و هذا يعد جوهر الدارسة الداخلية لبنيات النّص، مما يساهم في تآلفها "فيقال : نَظَمَه نظما، و نَظَمَهُ فانتظم، ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك و التنظيم مثله، ومنه نَظَمَتُ الشّعر نظَّمته،ونظم الأمر على المثل، وكلّ شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض، فقد نظَّمته، و النظم المنظوم وصف بالمصدر"(3)

إنّ المتأمل لهذا النّص يلتمس أنّ فكرة تلاحم الأجزاء و تماسك العناصر كانت مسيطرة لمعالم نظرية النظم و فهمنا اللغويين للنظم ، ومن ثمة ندرك أنّ تحديد الأدبية من داخل النّص ينطلق من ضبط معالم نظرية النظم و فهمنا لمكوناتها ، فإذا ما انتقلنا إلى النقاد نجد أنّ كلمة النظم ترد عند الجاحظ بمعاني عديدة منها ما هو متفق مع معناها اللّغوي المرادف للتأليف إذا يقول :" إن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدي البلغاء و الخطباء و الشعراء بنظمه و تأليف"(4) بمعنى البيان و الإنشاء، وعند ابن قتيبة بمعنى " سبك الألفاظ و ضمها إلى بعض في تأليف دقيق بينها و بين المعاني ، فيجريان معا في سلاسة و عذوبة" و في المحور نفسه يتحدث قدامة بن جعفر عن النظم بعدما يتخذ من معنى التضام و التلاصق قائلا:" إنه يدل على الاتساق و الترتيب و الائتلاف و التناسب بين الأجراء . إنّ نظم حبّات اللؤلؤ في الخيط يستوجب التناسب في إحكام الصنعة ليبدو العقد سليما في مظهره، و كذلك نظم الكلام يتطلب دقة الإحكام ووضع كل نقطة بجانب أختها صنيع ناظم اللؤلؤ و حائك الخيوط" (5) .

و على هذا النحو يمضي الإعجازيين في تأكيد مقدرة النظم على كشف أدبية الأثر الأدبي و جودة خصائصه الفنيّة بمدى التزام مبادئ النظم و مجاراتها للقواعد النحويّة و الصرفيّة، فالشعر في رأي الجاحظ ما كان " متلاحم الأجزاء سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنّه قد أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدّهان" (6) و قد تواصل البحث في علائق النظم بمحاصرة الأدبية و إدراك طرائق تشكلها، فأبو هلال العسكري عالج النظم حين عقد بابا في البيان عن حسن النظم و جودة الرصف جيدا، كان أحسن موقفا و أطيب مستمعا، فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها اقتحمته العين،و إن كان فائقا ثمينا وحسن الوصول أن توضع الألفاظ في مواضعها و تمكن في أماكنها ولا يستعمل فيها التقديم و التأخير و الحذف و الزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام و لا يعمي المعنى، و تضم كل لفظة منها إلى شكلها و تضم إلى لفظتها "(7) وعلى هذا النحو يذهب الرماني إلى إبراز سمات النظم و أسسه في القسم الأخير من أقسام البلاغة- البيان-ويقصد به التعبير بصفة عامة، وهو عنده على أربعة أسام: كلام و حال و إشارة و علامة لتتضح الأدبية في النصوص التي تتوافر على حسن البيان و الّذي يشترط فيه الرماني حسن الإفهام، لا مجرد الإفهام مع القبح و العيّ؛ بمعنى أن إدراك الأدبية يتوقف على مدى توافق الألفاظ بالمعاني في سياق نصي، يؤدي كلّ عنصر فيه دوره في عملية الإفهام، ولا يمكن الاستغناء عنه، و أيّ محاولة لتغييره يعيق حسن الإفهام، و من هنا ندرك احتفاظ الرماني بأعلى مراتب حسن البيان للكلام الّذي " جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن في السمع ، و يسهل على اللسان ، وتتقبله النّفس تقبّل البرد، و حتّى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حق من المرتبة"(8) .

يتأكد لنا مرّة أخرى اهتمام الإعجازيين بالنظم و جعله أساس تحديد الأدبية، فقد تمكنت القيم الفنيّة و الجماليّة التي يُضفيها النظم على الكلام الأدبي من إبراز خصائص الأدبية و مستوياتها ، هذا ما دعا إليه الرماني حين رأى " ضرورة تحقق أربع خصائص لعلُوَّ مرتبة البيان تتعلق بالصياغة، وهي حسن الوقع في السمع، و الخفة على اللسان، و حسن التقبل في النّفس و أن يكون المقال على قدر المقام، كما رأى أن مجال التأليف و التفنن فيه أرحب من أيّ مجال آخر، كمجال اللفظ مثلا، ؛ لأنَّ التصرف في اللفظ محدود أمّا في التأليف فغير محمود ، وذلك حال التأليف القرآني، وفيه يكمن سر إعجازه" (9) و بالتالي يتضح لنا أن كثير من العلماء القدمين عالجوا فكرة النظم و قيمتها الفنيّة في محاولة لإجلاء مفهوم الأدبية و تصوير طرائق تشكلها خاصة في دراساتهم عن الإعجاز القرآني، وهي إن لم تكن بذلك الوضوح و البسط الذي أفاض فيه عبد القاهر الجرجاني، فهي على أقل تقدير إرهاصات تصلح أن تكون مقدمات لهذه النظرية، فنجد الخطابي من أوائل الإعجازيين الّين اعتنوا بقضية الإعجاز و لمـَّحوا من خلالها لفكرة النظم أثناء مدارسته لبعض آي القرآن الكريم على أساس فهمه للنظم بتأكيده أنّ الكلام يقوم في الأساس على ثلاثة عناصر لفظ حامل و معنى به قائم و رباط لهما ناظم؛ بمعنى أنّ الأدبية تُقاس بمعيار انسجام هذه العناصر و تآلفها حينما توضع كل لفظة في موضعها الأخص بها في الكلام ، فإذا ما تبدل مكانها ترتب عليه أحد المرين، إمّا تغيير المعنى الّذي يفضي إلى فساد الكلام، و إمّا ذهاب الرونق الّذي يكون معه البلاغة " (10) و هكذا تضيع أدبية النّص حينما يختل ترتيب الألفاظ و معانيها داخل السياق ، أمّا إذا تناسب توظيف اللفظ بالمعنى المراد مع توافر رباط النظم بينها ، زاد رونق الكلام احتفظ على جودة أدبيته.

يبدو أنّ هذا ما أكدت عليه خصائص النظم عند الخطابي حيث يراها تساعد على تهذيب الألفاظ و إخضاعها للسياق و مقتضى الحال من ظروف الكلام و التكلم، و المعاني الّتي أيد التعبير عنها،فمثلا لا يعد غريب اللفظ بليغا في ذاته، و هذا ما يوضحه الخطابي بقوله:" فأما ما ذكروه من قلّة الغريب في ألفاظ القرآن بالإضافة إلى الواضح منها، فليست الغرابة مما شرطناه في حدود البلاغة ، و إنّما يكثر الوحشي الغريب في الكلام و تنزيله و التخير له، و ليس ذلك معدودا في النوع الأفضل من أنواعه و إنما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن ،وهو الذي جمع البلاغة و الفخامة إلى العذوبة و السهولة " (11)

نلاحظ أنّ الخطابي أدرك خصوصية النظم حيث يوضع كل نوع من الألفاظ في موضعه الأخص به، و حينما يبدل من المكان الذي جاء فيه تتغير ملامح الأدبية فيه، و تتسع الهوة بين الألفاظ و المعاني، و هكذا تتأكد من أن " فهم الخطابي للنظم قريب من فهم الجرجاني له، فالنظم عند الخطابي صورة للفظ المتفاعل مع المعنى للتعبير عن التجربة الفنية،و ليس للألفاظ وحدها ولا المعاني أهمية النظم و هو تقدير له قيمته، لأنّه يحط من اللفظ بعض أهميته التي ركز حولها السابقون في دراساتهم، ثم لا يفصل بين المعنى و اللفظ و يعطي لأحدهما الفضل على الآخر أحيانا،وهو ما وقع فيه السابقون "(12)

نستشف مما سلف أنّ النظم يعد في نظر الإعجازيين منبع الأدبية حيث يبعث في اللغة الإبداعية خصائص فنية و جمالية تسمو بالأثر الأدبي إلى آفاق اللغة الإيحائية. وهذا ما يفسر الإيمان العميق للباقلاني بالنظم المعجز في القرآن الكريم ، لهذا لم يفته التأكيد في عديد المرات أنّ القرآن معجز ببديع نظمه و عجيب تأليفه الخارج عن جميع وجوه النظم المعتادة في كلامهم و مُباين لأساليب خطابهم، ليقرر أن بديع نظمه يشتمل وجوها عدّة تشكل الأدبية الإعجازية

" – منها ما يرجع إلى جملته كون القرآن خارج عن المألوف من كلام البشر و المعروف من نظمهم، فليس هو بالشعر و لا بالنثر، وليس هو بالسجع، كما أنه خارج عن المألوف من كلام الجن، و الحق أن رأي الباقلاني جدير بالقبول، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين.

– منها ما يرجع إلى أساليبه، فيذكر من ذلك أن القرآن قد اشتمل على كل الأساليب البلاغية التي تنبني عليها أجناس الكلام البشري من إيجاز وإطناب و حقيقة و مجاز و استعارة ، كلّ ذلك يتجاوز حدود كلامهم في الفصاحة و البلاغة.
- ومنها ما يرجع إلى مفرداته، من ذلك أنّه استعمل بعض المفردات في معان و مدلولات جديدة لم تكن مألوفة في البيئة العربية فبل الإسلام و بعده عن المفردات الوحشية المستكرهة الثقيلة على السمع و الغريبة عن الفهم..
- و منها ما يرجع إلى حروفه، فقد بُني كلام العرب على تسعة و عشرين حرفا ، و عدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف، وثمانية و عشرون سورة افتتحت بأربعة عشر حرفا و هي نصف حروف المعجم" (13)
و هكذا يُجلي الباقلاني تجليات النظم في أصغر وحدة للجملة (الحروف) انتهاء بالعبارة و أساليبها ، و كأننا به يحدد مستويات الأدبية من خلال حديثه عن نظم البديع للقرآن الكريم، سواء على مستوى الحروف (الأصوات) أو على مستوى المفردات(الألفاظ) أو على مستوى التركيب (الجمل). وليست الألفاظ فيما يرى الباقلاني إلى دوال على المعاني الجزئية لا تكتسب دلالتها الكاملة، و لا تؤدي دورها في ضبط الأدبية و تشكلها إلاّ إذا دخلت في علاقات تركيبية مع غيرها من الألفاظ " (14) و تجدر الإشارة إلى أن محاولة الباقلاني تفسير بعض خفايا قضية النظم و كانت الأقرب إدراكا لأسرار الأدبية عامة، وما تعلق بالإعجاز القرآني خاصة عن طريق القدرة الفائقة في نظم جزئيات الأداء في اللفظ و التركيب و الصورة ، و إن كنّا لا نجد في حديثه عن النظم بهذه الصيغة ما يأخذ طابع المصطلح العلمي و الأدبي الذي وضعه عبد القاهر الجرجاني فيما بعد.

و ما دمنا نعرض آراء الإعجازيين في النظم وربطه بتحديد جماليات الأثر الأدبي ودوره في إبراز معالم الأدبية فيه؛ فإنه لا يفوتنا أن نتوقف عند جهود القاضي عبد الجبار في هذا المجال حيث يرجع النظم إلى جزالة لفظه و حسن معناه؛ لأنّه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا، فيجب أن يكون جامعا لهذين الأمرين و ليس فصاحة الكلام بأن يكون له نظم مخصوص لأنّ الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشّاعر و النظم مختلف إذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة، وقد يكون النظم واحدا و تقع المزية في الصحافة، فالمعتبر ما ذكرناه لأنه الذي يتبين في كل نظم و كل طريقة، و قد يكون النظم واحدا و تقع لبعض الفصحاء يسبق إليه، ثم يساويه فيه غيره من الفصحاء فيساويه في ذلك النظم، ومن يفضله في ذلك النظم." (15) غير أنه يرفض أن يكون النظم بطريقة مخصوصة مرجعا للإعجاز" و اعلم أن التحدي و إن كان قد أصبح من الفصاحة و البلاغة، فمتى اختص ما له قدر عظيم في الفصاحة بطريقة من النظم خارجة عن العادة ، يكون وجه الإعجاز فيه أظهر و أبين، و ظهور عجز الغير عنه أكشف، فلمّا كان الأمر أجرى الله تعالى حال القرآن على مثله، ليكون وجه الإعجاز أبين، فخصّ الله تعالى بطريقة خارجة عن نظمهم و نثرهم، و بقدر من الرتبة في الفصاحة خارجة عن عاداتهم، فلذلك اشتبهت الحال، فظن بعضهم أن وجه الإعجاز يرد إلى النظم، و بعضهم أنه يرجع إلى قدر الفصاحة في أنها لو انفردت لكان معجزا مخالفا لمرتبة في طريقة النظم، لأنها لو غيرت عن الرتبة المخصوصة في الفصاحة لم يكن معجزا، و إن كان ذلك مقويا لحاله و مؤكدا لأمره، كما نعلم أن حسن المعنى يؤكد كون الكلام الفصيح معجزا، أمّا إن انفرد فإنه لا يختص بهذه الصفة " (16)

نخلص إلى القول إن القاضي عبد الجبار خطا خطوة أوسع من سابقيه الرماني و الخطابي و الباقلاني واقترب اقترابا شديدا من عبد القاهر الجرجاني في تفسيره للنظم عندما كشف عن خصائص الأدبية حينما تجتمع في الكلام شروط الفصاحة و البلاغة، بيد أنّه غلّف أسلوبه بالفلسفة و الجدل و المقولات العقلية البحتة ، و لو أنه تخلص من هذا لوصل إلى نتائج متقدمة، تبرز علاقات النظم بتحديد الأدبية تتحدث عن معايير النظم التي تُجلي خصوصية اللّغة الفنيّة، وتسمو بها عن اللّغة التقريرية المباشرة، لتتبلور نظرية النظم بشكل جديد مع الجرجاني الذي يؤكد أن النظم ليس إلاّ نوع من عليق الألفاظ فيما بينها و انسجام بعضها ببعض،و هو ما يشكل الأساس الفكري لكل بحوثه النقدية ؛ مرتكزا على ثقافته النحوية العميقة حين يذهب إلى ليس" أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو ، و تعمل على قوانينه و أصوله، و تعرف مناهجه التي نُهجت، فلا تزيغ عنها، و تحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء ، و يصوغ ذلك شعرا فيقول: وقد علمنا بأنّ النظم ليس سوى حكم من النّحو تمضي في توخيه "(17).

و مختصر القول عنده أن لا يكون الكلام من جزء واحد، و أنّه لا بدّ من مسند و مسند إليه، وكذلك السبيل في كلّ شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلام بعضها لا ترى من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو و معنى من معانيه، ليتضح علاقات علم النحو الّتي تؤدي دوراً فعالاً في تراكيب النظم، و تكون بمثابة الأدب و المسائل النحوية المتعلقة بنظام الكلمات أو تركيب العبارات، ويصبح " النظم" الّذي يضع "علم النحو" قواعده، هو علم "دراسة الأدب" أو علم الشعر" (18) ويمكن أن نعد الأدبيّة باعتبارها موضوع علم الأدب تقوم على أساس لغوي تحدد قواعد علم النحو التي تتحدث عن الفروق بين أساليب مختلفة في الكلام.

و يستمر عبد القاهر في نهجه النّحوي مدافعا عن رأيه في النظم بشتى الحجج و البراهين، فيقرر أن علماء البلاغة، إنما عابوا من الكلام ما أصيب ما بالتعقيد المعنوي و ضعف التأليف لما فيه من مخالفة للأحكام النّحويّة كالتقديم و التأخير، و الحذف و الإضمار، دون اعتماد على شروط النجاة القائمة على استقراء الكلام العربي استقراء ثانيا و مثّل لذلك ببيت الفرزدق:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكًا 

 أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ

و بأبيات أخرى بيّن فيها فساد النظم لما وجد فيها من مخالفة لمعاني النحو و أحكامه" (19)
ثم و من ثمة يتضح لنا أن مظاهر الأدبية و معالمها تتجلى في توخي أحكام النحو و اقتفاء أصوله و السير وفق منهاجه، فالآثار الأدبية التي تعجبنا و تروقنا إذا ما فتشنا عن سر إعجابنا بها و استقصينا سبب استحسانها، ألفيناه يرجع إلى قواعد لا تخرج عن الوجوه الإعرابية التي يقتضيها علم النحو.
إننا بهذا ندرك سر الأدبية في نظر الإعجازيين و خاصة الإمام عبد القاهر الجرجاني، يكمن في قواعد النظم كون اللفظة بفردها ليس لها نصيب من البراعة و البيان، و ليس لها مزية عن أختها التي تحمل نفس معناها من حيث هي جزء من مجموعة أجزاء مركبة " وهل تجد احد يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم و حسن ملائمة معناها معاني جاراتها و فضل مؤانستها لأخواتها " (20) ثم يقدم أنموذجا من القرآن الكريم لتدليل على كلامه بقوله تعالى:(وقِيلَ يَا أَرضُ ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين) (21) فيتضح أن سر الأدبية الإعجازية في الآية الكريمة حيث تكون الألفاظ حسنة و كل لفظة سهلة مخارج الحروف ، بعيدة عن الغرابة و التنافر، فهي ألفاظ جميلة و سهلة النطق و ذات معان واضحة ، و السامع لا يشكل عليه في استيعاب المعنى المراد، كم أن الألفاظ في الآية الشريفة تسابق معانيها و معانيها تسابق ألفاظها حيث يوجد ائتلاف محكم بين الألفاظ و دلالتها.

واللفظة قد تكون فصيحة في سياق ما لملاءمتها المعنى ووقوعها في مكانه، ومثّل على ذلك بلفظتي الأخدع و الشيء " فاللفظة لا تستحق المزية بانفرادها، و إنما تستحق ذلك في سبكها مع أختها في النظم، و إلاّ لم يقع التفاضل بين الكلمة نفسها في موضع و بينها في موضع آخر " (22) و الفرق بين قولنا حروف منظومة و كلم منظوم، أن معنى نظم الحروف هو ضم الشيء إلى الشيء كيفما اتفق. بينما نظم الكلم بمعنى ضم الشيء إلى الشيء مع وضع اعتبار لترتيب المعاني في النفس وهكذا يقرر عبد القاهر توسيع معنى الأدبية ليدل على جودة السبك بتلاحم الأجزاء و تناسق دلالات الألفاظ و تلاقي المعني على الوجه الذي اقتضاه العقل و توخاه علم النحو و استساغته القريحة دون تكلف أو تصنع؛ وهذا يعني عند الجرجاني من جهة ثانية أن بين النظم و النظم تفاوتا و بين الصياغة و الصياغة تفاضلا، وذلك التفاوت و هذا التفاضل لا يكفي فيهما مجرد تبين أوجه الفرق و الاختلاف، بل لا بدمن توضيح المميزات التي فاق من خلالها نظم نظما آخر و كشف الخصوصية التي امتاز بها كيف جاء على نسق مخصوص لا يماثله غيره.
و هكذا فإنّ الأدبية تكتسب خصوصياتها الفنية و الجمالية هي طبيعة النظم الذي جاءت فيه ، و بالتالي يكون الارتكاز في كشف تجليات الأبية من داخل النص و يبدو أن وقفتنا على إسهامات دارسي الإعجاز في تقديم صورة واضحة عن مفهوم النظم و دوره في كشف سر الإعجاز البياني فيهما يؤكد العلاقة الوثيقة بين النظم و تحديد مفهومها و إدراك طرائق تشكلها، و إن كنّا نجدها تتبلور بشكل واضح مع دراسة عبد القاهر الجرجاني الذي أولى" علم النحو " أهمية بالغة في مدارسته للنظم، وقدّمه لإبراز الجماليات الفنية للأثر الأدبي. وما دام الأمر كذلك فإنّ الأدبية تعتمد في بروزها على اللغة التي تُعنى بدراساتها اللسانيات و التي بدورها تهتم بالبحث في النص بوصفه لغة أولى انطلاقا من مستويات مستوى صوتي، نحوي، دلالي.

و على هذا الأساس اهتدى تفكير الإعجازيين إلى حقائق نقدية هامة بلورت تنظير عبد القاهر الجرجاني حيث ذهب إلى أن التفكير لا يكون إلا بالألفاظ فحسب، فالفكرة التي تدور بخلد المبدع تمكث عاجزة ناقصة ما لم تصنع نوعا من الصياغة، و تترجم إلى ضرب من التعبير و التصوير، و بذلك تتلاحم المعاني مع أشكالها المادية تلاحما عضويا تتفاعل فيه الأجزاء بعضها مع بعض تفاعلا غير قابل للتفكيك و التجزئة ذلك أن اللغة عند الجرجاني تحمل " مجموعة من الدلالات و الفاعليات و الارتباطات التي لا تنتهي عند حصر فالكاتب في فسحة من أمره، حيث أن له مجالا واسعا لاختيار بنائه اللفظي بما يتناسب مع أفكاره أطروحته و لذلك أخذ في إنكاره هذه الثنائية التي عاشت في النقد العربي بين اللفظ والمعنى ، فما دامت اللغة واحدة لا تتجزأ ، فمن العبث وسوء التقدير و الفهم أن نعتبر كلا من اللفظ و المعنى عالما مستقلا بذاته و أن نرجع المزية و الفضيلة لأحدهما دون الآخر، أو حتى نعتبر أحدهما سابقا في الوجود عن الأخر" (23) أن هذا التوجه يقودونا إلى تأكيد أن إدراك حقيقة أدبية النّص قد بلغ مرحلة النضج مع الإمام عبد القاهر الجرجاني، فلم يعد الحكم على جودة الأثر الأدبي يأتي من فصل اللفظ عن معناه و إنما ترتبط الكلمات ما يتولد عنه تلاحم العاني و الصور الفنية و الترجيعات الإيقاعية في نظم موحد و صياغة متماسكة ، وقد تمكن الجرجاني من إبراز المواقف النفسية و الحالات الشعورية من خلال الوقوف عند كل جملة يحدد مميزاتها رابطا إياها بما سبقها و ما تلاها، و هكذا تخلص من النظرة الجزئية التي فسرت بها الأدبية و أصبح كل جزء من الكلام ضروري كونه مكمل و مفسر لجزء آخر .
إذن فتنظير الجرجاني وقف على حقائق جوهرية أهمها أن اللفظ في خدمة المواقف التي تستوقف المبدع في عملية الخلق الفني فلا يفكر في الألفاظ المستكرهة و المستنكرة، و إنما يفكر في المعاني التي يريد أن يعبر عنها، و ما الألفاظ إلا وسيلة ومزية دلالية لها وظيفة إثارة المواقف و إحداث الجماليات الفنية من داخل النص، إذ لا جمال لها في ذاتها بل في قدرتها على توليد المواقف التي تستدعيها التجربة الإبداعية و تحلية المعاني المطلوبة بعبارة أخرى فإنّ مقدرتها الباطنية تسمح باستحداث دفعات نفسية و شحنات شعورية تبعث في المعنى نوعا من النشاط الداخلي الفعال إلى جانب هذا فإن عملية الإبداع الفنيّ سواء كانت شعرا أو نثرا لا تتم عن طريق التفكير المستقل في كل من المعني و الألفاظ و الفصل بينهما بل تتم تلقائيا من العنصرين و الانسجام بين جزئياتهما عن طريق الانتقاء اللفظي البعيد عن التكلف و التصنع ، فالمبدع الحق حتى و إن أعمل فكره و أجهد ذاته في العملية الإبداعية غير أنّه لا يقدر على نسج خيوطها إلا إذا ارتقى عن قيود الصنعة اللفظية، وتحرر من الإسراف في استخدامها، لهذا أنكر الجرجاني الإغراق المقصود في الزخرفة إنكارا شديدا حرصا منه أن يكون النظم نظم معانٍ لتؤدي الألفاظ دلالتها
نخلص إلى القول إن ما قدمه علماء الإعجاز لمعرفة خصائص أدبية البناء النصي جاء في نظرات جزئية قاصرة على استيعاب تجليات الأدبية كاملة فقد اتضح التنظير للبنية الصوتية كونها طاقة فاعلة في بلورة أدبية المنطوق، و كذا البنية اللفظية المعنوية التي تعمل على تساوق الدلالات و انسجامها لإخراج النص في أحسن حلّة فنيّة ،ومن الطبيعي أن تولي نظرية النظم أهمية لمسألة التركيب فالبنية التركيبية عند الجرجاني من مقتضيات النظم بعد الحسم في ثنائية اللفظ و المعنى تكون المزية للتركيب الذي تتآلف فيه المكونات الصغرى في نسيج عضوي متلاحم الأطراف منسجم العناصر، مما يساهم في توليد النسق المميز للأثر الأدبيّ. و نحسب أن عبد القاهر الجرجاني أحسن من يمثل جهود الإعجازيين في هذا المضمار و توّج أرائهم بتناول سياقات التركيب تبتعد في بعض الأحيان عن القواعد النحوية الجافة نحو منحى التحليل الإبداعي الذي يعتمد على البصيرة الفذة و الذوق المرهف في تتبع تحولات سياقات التراكيب، ولا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أن دراسات عبد القاهر الجرجاني تعد الرائدة في البحث عن ماهية أدبية البناء النصي و على يديه نضجت مباحث البنية الصوتية و اللفظية و المعنوية و التركيبية و تبلورت بفضله خصوصيات اللغة الإبداعية المنـزاحة عن الدلالة المعجمية منحرفة عن المعنى القاموس، لتنشأ نسقا لغويا يتجدد مع كل توظيف إبداعي بحسب مقتضيات الحال متوخيا قواعد علم النحو.

الهوامش

1- علي مهدي زيتون :إعجاز القرآن و أثره في تطور النقد الأدبي، دار الشروق، بيروت، ط1 ، 1992، ص:58. 2– حمادي صمود: النقد و قراءة التراث ، عودة إلى مسألة النظم، مجلة تجليات الحداثة، جامعة وهران ، ع 4 ، جوان 1996،ص:48. 3- ابن منظور: لسان العرب ، دار الصادر ، بيروت، ط4، ج12، ص:578. 4- ينظر الجاحظ: البيان و التبيين ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4 ج1، ص: 67. 5- قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى ، مكتبة الخانجي ، القاهرة، (دط)ص:26. 6- ينظر الجاحظ: المصدر السابق،ص: 70 7- أبو هلال العسكري: الصناعتين،تحقيق محمد بجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب، ط2، ص:167. 8- الرماني : النكت في إعجاز القرآن،(ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز) تحقيق محمد خلف الله و محمد زغلول سلام، دار المعرفة، مصر، ط2،1968،ص:107. 9- محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطوير النقد العربي،ص:108. 10- أحمد سيد محمد عمار : نظرية الإعجاز القرآني و أثرها في النقد العربي القديم، ص:194. 11-الخطابي: بيان إعجاز القرآن،،(ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز) تحقيق محمد خلف الله و محمد زغلول سلام، دار المعرفة، مصر، ط2،1968ص:37. 12- محمد زغلول سلام : أثر القرآن في تطور النقد العربي دار المعارف، مصر ، ط3(د ت)،ص: 108. 13- الباقلاني: إعجاز القرآني، تحقيق محمد صقر،دار المعارف، مصر(دط) 1963،ص:114. 14- محمد زغلول سلام: المرجع السابق، ص:259 15 - القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب العدل و التوحيد، ج16 ، ص:197. 16- المصدر نفسه، ص: 224. 17- عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق محمد شاكر، مكتبة الخانجي، مصر (دط) (دت)ص:64. 18 -نصر حامد أبو زيد: إشكالية القراءة و آليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط5، 1999،ص:162. 19- عبد القاهر الجرجاني : المصدر السابق، ص:65-66. 20-المصدر السابق ، ص:36. 21- سورة هود ، الآية: 44. 22- عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز،ص: 40. 23- ينظر محمد زكي العشماوي : قضايا النقد الأدبي بين القديم و الحديث،دار النهضة العربية، بيروت، 1984، ص:289.

من خلال نظرية النظم في الدراسات الإعجازية

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى