الاثنين ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم أميرة فايد الناحل

تلغرافيا..

السادسة صباحا.. نهار سابق. أتوسد زرقة السماء البللورية، أتدثر بخميلة السحب البيضاء الوثيرة، أعانق اللون الأخضر بتنويعاته المبهرة. صورة أبي تتراءى لي، تتضفر في نسيج الوجود، تحيطني، تطمئني. أ فتح صدري لنسمة تندفع في طفولة.. يتراقص لها الحباب علي صفحة المياة اللازوردية. تشرق الشمس مخضبة الوجنات في حياء. يرفرف قلبي منتشيا.. ياللروعة.. هذا الصوت الحميم, هذي الكلمات، هذي الألحان.. تعصف بهدوء وإنسياب مشاعري. أستمتع بالحقول المترامية.. أتلذذ بإنسيابية المشهد الممتد حتي آخر المدى.

السادسة صباحا.. نهار آخر. طقس كالح. كرة دخان ضخمة..إنفجرت، تفترش المدى. توقف النبض في القلب الحنون، سقط الحصن.. تأخذني الصدمة، أتلفت مذعورة، أتحرى إدراكي، أهز كياني. أفيقي.. لست نائمة، ليس حلما. إختفت معالم المكان. أبتسم في مرارة..رأس نخل يتراءى باهتا، معلقا في السماء.. بلا جذور. أشخص أمامي في هلع.. خطر لي.. كيف تسير العربة.. الطريق في اتجاهين، يبتلع الضباب كل شيء، تظهر أشباح السيارات فجأة.. يسبقها وميض عينان تبرقان.

تمنيت تجاهل ما ينتظرني من عمل، قلوب موصدة.. تشتهي أخطاؤك، أو تمهد لها!. يطحنها التنافس، وحياكة المؤامرات. خطر لي أن أهرب. أخجل من ضعفي. هوة الفشل تروعني. عربة السردين المتهالكة.. ترضرض الأفكار في رأسي.

السابعة صباحا. القرية محل عملي.. طرقاتها كدروب متاهة, بالغة الضيق، سافرة الطول. حلزونية في أحيان كثيرة، أو منحرفة بحدة شكل هندسي. أتخبط في أنبوب ضيق.. أتوق للفوهة. شوارع حينا بالمقارنة أرحب. ومنازله أكثر تباعدا وعزلة.

العاشرة صباحا. كالحاوي أنا. لم أجد يوما ألعاب الحواة.منهج مثقل، نصف ساعة عقيمة.علي سلك مشدود أسير.. ترقبني خمسون عينا أو تزيد. وجوه ذات قسمات ريفية.. تحمل تعابير شتي..آخرها الإهتمام. أسلم وجهي للمساحة السوداء. تنبثق الابتسامة اللعينة.. موسمية هي..يثيرها طالب يقوم بدور الأراجوز، يثيرها ضعفي. ترمومتر شديد الحساسية هؤلاء الصغار. يرتفع طنين من أحد الزوايا. ألاحقه. ينتقل إٌلي زاوية جديدة. حين أبدأ في شرح المفردات.. يتحول الطنين إلي جلبة مشروعة.. يهتفون بإسمي أو بالإجابة في كورس لم يحفظ أعضاؤه الجملة الموسيقية. أملأ صدري بكمية هائلة من الهواء. أشعر بالإختناق.. يخنقني عجزي، تلتف حول عنقي أذرعه القادرة.

الواحدة ظهرا. تشرق الشمس من المغرب.. تلقي بستائرها النارية، تفرض سطوتها علي الجانب الشرقي من الوجود. كل شيء يبدو لامعا.. حتي الترعة تتألق.. يخفي إنعكاس الضوء باطنها العفن. إدراكي وعقلي متيقظين.. أكثر مما ينبغي. أبي ممدا فوق السرير.. ساخن الجسد لم يزل. عمي يربأ في مشيته..زائغ العينان. ينتحي بأخي..يطالبه بدين له. أشباح الذهول و الفزع تجثم علي صدورنا. نوع غريب من الصدمة..يغيم إحساسي بالزمن والمكان. رغم ذلك..التفاصيل الدقيقة..تتواتر فيما بعد كطوفان..تؤكد لي إن إدراكي كان حادا.

الواحدة ظهرا..وقتا عصيبا. يشعرني بسطوة الواقع المر، بحتمية السعي والكد. أناس تلتف حولي، أناس تهرول في كل صوب.. يؤدون إجراءات الدفن. كان رجلا محبوبا..معلم اللغة العربية، إمام مسجد الحي وخطيبه. سبقته أمنا بزمان. يغادرنا عمي..يزعم أن الصدمة تفقده توازنه.

الواحدة ظهرا. أرتاد طريق العودة.. الشمس.. ستائرها النارية.. كل شيء..يستعر. الحماس..الضمير..عصا سحرية..تملك تغيير الأوضاع. هراء..تمتص الصعوبات المتشابكة كل المجهودات الصغيرة. تمتصها..كقطع الإسفنج التي لا تشبع. بل كأرض رملية غير قابلة للإرتوء. إدراكي ,عقلي..متيقظين.. أكثر مما ينبغي. ينهب عمي أرض أبي في القرية. ترمض الأرض. يختفي..شهور طويلة. أزمات عاصفة إجتاحتنا. دافعنا الأيام بقوت قليل. يزداد إلتفاف الناس حولي.. تضيق الدائرة، يحتكم الحصار.. أختنق. جسد مشلول، وعي مستعر..أهوي أنا. تمتد أيدي كثيرة..عيون تنهشني. إرفع يدك عني..صرخة إرتدت في فراغ هائل..دون صدى. إنطفأ إحساسي بالزمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى