الثلاثاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم حسين الهنداوي

تناقضات التأسيس الأرسطي لمفهوم الاستبداد الآسيوي

"البرابرة بطبيعتهم أكثر من الاغريق قبولا للعبودية، والآسيويون أكثر من الاوروبيين. اذ يحتملون السلطة الاستبدادية دونما احتجاج، لهذا السبب إذاً، فان أنظمة البرابرة طغيانية، الا انها أكثر استقرارا بفعل كونها وراثية وخاضعة للاعراف".(1)

هذا النص المأخوذ من كتابه »السياسة« يجعل من مؤلفه الفيلسوف الاغريقي ارسطو طاليس (384- 322ق.م) الاب الاول لمفهوم »الاستبداد الآسيوي« بسبب مقاربته الصريحة هنا، ما بين العبودية وآسيا في مجال السياسة، لاسيما في غياب أي نص أو تصور آخر، في كل تاريخ الفكر السياسي السابق عليه، يؤسسس علاقة سببية بين »الاستبداد« والجغرافيا، الآسيوية أو غير الاسيوية، أي بين الظواهر السياسية وخصائص الطبيعة بشكل عام، رغم أننا لا نستبعد كليا أن يكون أرسطو استلهم عنصرا أو آخر من عناصر هذه المقاربة من مؤلفين قبله، خاصة ونحن نعرف أنه اطلع على معظم كتابات المفكرين والمؤرخين الاغريق الذين سبقوه أو عاصروه، كما استقى معلومات كثيرة من أقوال الخطباء والسياسيين وحتى من الرحالة والسائحين الذين زاروا آسيا ومنهم كاريان سكيلاكس كارياندا الذي يذكره بنفسه في كتابه أعلاه.

وتتعزز أبوة ارسطو لمفهوم الاستبداد الآسيوي بوجود ما يوحي بأنه يؤسسه على أرضية عقلانية، يعبر عنها ما يمكن اعتباره جنين »نظرية مناخ« تسمح بالاستنتاج ضمنا بانه يفترض فعلا وجود علاقة »طبيعية« بين الهيلينيين او الاوروبيين والديمقراطية، تقابلها علاقة »طبيعية« كذلك بين الآسيويين والاستبداد، عندما يقول لنا في كتاب »السياسة« نفسه »ان سكان الاقاليم الباردة، أي الاوروبية، شجعان، ولذا فهم يعيشون احرارا الى حد ما، لكنهم غير منظمين في دولة وغير مؤهلين لقيادة جيرانهم، أما سكان آسيا فهم بالمقابل أذكياء ودهاة الا انهم خلو من الشجاعة ولذا فهم يعيشون في الخضوع أي العبودية. وأما العرق الهيليني الذي يقطن منطقة متوسطة، فانه يمتلك ميزتي الجماعتين السابقتين. أي انه شجاع وذكي بالفعل وفي الوقت نفسه، ولهذا فانه يعيش حياة حرة في ظل أفضل المؤسسات السياسية، وهو قادر على قيادة جميع الشعوب مهما ضعفت نظمها السياسية«.(2)

لن نناقش هنا حقيقة أن هذا المنظور هو الأكثر غرابة بين تناقضات المعلم الأول. وهذا ليس فقط بسبب افتقاره المدهش لأي محتوى فلسفي مهما كان ضئيلا مقابل طابعه المغرق في الميكافيلية قبل ولادة هذا المصطلح بنحو ألفي عام، انما اضافة الى ذلك لانتقائيته الاعتباطية وتورمه القومي في آن. والحال ان اجتماع كل هذا دفعة واحدة في المنظور أعلاه يجعله محض رطانة لا نجد لها مثيلا في كافة نصوص ارسطو الذي أظهر حرصا مثابرا على عدم التناقض مع العقلانية المنهجية الصارمة التي سعى الى التماهي معها حتى شكليا، والتي اعتمدت عموما، لا على الشفافية العالية والخيال الخصب والمتسامي كما لدى عند افلاطون، بل على الملاحظة المنطلقة من الوقائع الفعلية المعروفة مباشرة او التاريخية الى هذا الحد أو ذاك. فهذه الوقائع الملموسة هي ما اهتم ارسطو بمعرفته في المقام الاول وقبل الانطلاق صعودا باتجاه التجريد، وأعلى درجات التجريد أحيانا.

كتاب السياسة واحتمالات الانتحال

وفي الواقع، لا نستبعد ان تكون عبارات ارسطو اعلاه، وربما قسم مهم وكبير من كتاب »السياسة«، محض تلفيق منتحل صنعته ريشة مؤلفين اغريق أو رومان أو أوروبيين لاحقين لاسباب سياسية أو ايديولوجية خاصة. ويدعم استنتاجنا هنا ثبوت ان هذا الكتاب، بسبب التكرار أحيانا او التباين أو التناقض بين نصوصه ذاتها أحيانا أخرى، ليس مؤلفا واحدا في الاصل، انما هو مجموعة نصوص رصفت الى بعضها ونسبت الى ارسطو بعد رحيله بزمن طويل. وشكل الكتاب هذا، دفع عددا من مؤرخي الفلسفة في الغرب الى الكلام بصيغة الجمع عن الكتاب في اشارة الى اضطراب بل غياب الوحدة البنيوية بين أجزائه أو فصوله الحالية. أضف الى ذلك ثبوت ان كافة العناوين الداخلية وافتتاحيات وخاتمات فصول كتاب ؛السياسة« لم يضعها ارسطو اذا افترضنا انه مؤلفه الفعلي، انما اضافها في وقت متأخر جدا إما تلاميذه او المترجمون والناشرون الذين من المؤكد لدينا الآن انهم اجروا تنقيحات كبيرة على النص الاصلي المفترض للكتاب. ومن الضروري التذكير هنا بأن التقليد، الحديث تماما، باحترام حرفية النص الاصلي عند النشر، كان مجهولا في الغرب أيضا لدى المترجمين او الناشرين وحتى الخطاطين الذين، في الازمنة القديمة ولغاية نهاية القرون الوسطى، لم يكونوا يترددون في اضافة ملاحظاتهم وتفسيراتهم الى المتن الاصلي للنص دون الاشارة الى ذلك عادة.

لكن هل هناك نص أصلي ما فعلا لهذا الكتاب? أي هل من المحتمل أن يكون برمته أو بمعظمه منحولا?
قد نتطرف بدفع المشكلة الى هذا الحد عبر هذا السؤال، بيد أن التطرف يظل بذاته مشروعا نظرا لأن احتمال ان يكون الكتاب مجرد تجميع لكراسات تلاميذ ذلك الفيلسوف الاغريقي القديم متعلقة بالسياسة يظل قائما الامر الذي يحل مشكلة أصالة الكتاب جذريا بالغائها. وعلى العموم فان العثور على هذا الكتاب المنسوب لارسطو لم يتم الا في نهاية القرن الرابع عشر. كما لم يعثر عليه بلغته الاصلية، انما بترجمة لاتينية قام بها غيوم دو موربيك في القرن الثالث عشر عن أصل اغريقي ما يزال مفقودا.

ومما يعقد هذه المشكلة اننا لا نمتلك حول كتاب ؛السياسة« أي شروح اغريقية قديمة تعود الى ما قبل التاريخ الميلادي. والاعقد من كل هذا ان مؤرخي ومترجمي الفلسفة العرب لم يأتوا على ذكر هذا الكتاب مما يفقدنا لاداة ثمينة في التيقن من وجوده فعلا لاسيما وانهم ترجموا، اضافة الى عدد مهم من كتب ارسطو كتاب »الجمهورية« لافلاطون وتأثروا به واعدوا له شروحا كما فعل ابن رشد مثلا.

وفي كل الاحوال، واذ ليس أمامنا الآن سوى افتراض صحة نسبة الكتاب الى ارسطو، فان القول بأن الشعب الهيليني »قادر على قيادة جميع الشعوب« هو مجرد سفسطة ايديولوجية تتضاد مع الحقائق الفلسفية من جهة ومع الحقائق التاريخية أيضا. وهي هنا سفسطة مجانية لان ارسطو لا يفعل سوى اجترار تصورات شعبية باهتة خلقتها الامة الاغريقية عن نفسها لنفسها خلال الحروب مع »البرابرة« ومع الفرس خاصة مفادها الزعم بانها الامة البطلة والحرة الوحيدة. والادهى من هذا، ويؤكده، هو ان ارسطو يخبرنا بنفسه، في كتاب »السياسة«، بأن مصدر فكرته تلك، ليس الا الفولكلور الاغريقي السابق مستشهدا بأهزوجة للشاعر الغنائي اوريبيد يقول فيها »الهيلينيون جديرون بقيادة البرابرة«.(3)
ولا يدحض استنتاجنا هذا ان ارسطو يصر على عقلنة مصداقية مفهومه الخاص عن »تفوق« الهيلينيين على الشعوب الاخرى عبر اعطائه طابع الضرورة القبلية منطقيا، معتبر اياه امرا تفرضه طبيعة الاشياء ذاتها على أساس ان »الطبيعة لا تصنع شيئا عبثا« (4). وبالتالي، كما ان الانسان ككائن اجتماعي بطبعه ينقسم في العائلة الى اسياد احرار بطبيعتهم (الذكور) وارقاء بطبيعتهم (الاناث والعبيد). وكما ان المجتمع الواحد ينقسم الى اسياد احرار بطبيعتهم (الحكام) وعبيد بطبيعتهم (المحكومون)، فان الشعوب تنقسم بدورها الى شعوب تولد للعبودية بطبيعتها (الآسيويون) وشعوب تولد للحرية بطبيعتها (الاوروبيون) وعلى رأس هذه الاخيرة، ورأس البشرية جمعاء، يقف الشعب الاغريقي باعتباره، »بطبيعته« أيضا، الشعب السيد والحر الاعلى الوحيد.

فارسطو الذي سيعرف بالمعلم الاول كان أيضا وارث ذلك التقسيم الجامد الذي يرى ان كل ما هو غير اغريقي بربري، وكل ما هو بربري ينتمي الى فئة متدنية من البشر تنقصها »بطبيعتها« الخصال اليونانية وابرزها الحكمة والاتزان. صحيح ان هذا التقسيم للبشرية ليس بالامر الذي لا يقبل الجدل بالنسبة له ما دام الانسان كانسان لديه هو حيوان سياسي بالطبع، الا ان الميكانيكية الصارخة التي يستسلم لها تجعل فكرته القائلة بان الآسيويين أكثر من الأوروبيين »خضوعا للعبودية بطبيعتهم«، وكالعديد من أفكاره في مجالات اخرى، بلا قيمة فلسفية أو اجتماعية او تاريخية تذكر.
كما بدون قيمة فلسفية قطعا قول ارسطو، السيد ومالك العبيد نفسه، ان الرق نظام عقلاني بذاته بزعم ان من قوانين الوجود ان ينقسم الناس الى »من هم احرار طبعا ومن هم عبيد طبعا«، او قوله هو الذكر الفحل، ان الانثى او المرأة مجرد »آلة منزلية طبعا« خلقت ليمتلكها الرجل، وهكذا لا قيمة أيضا لقوله، هو الهيليني الاغريقي، ان ماهية الشعب الاغريقي هو انه وحده »الشعب الحر طبعا« والشجاع والذكي في نفس الوقت وكل ما عداه من شعوب وجماعات بشرية، وليس الآسيويون وحدهم، برابرة وعبيدا.

بالمقابل، من الضروري التذكير هنا ان مفهوم »العبودية« (سيرفيتود) لدى هذا الفيلسوف القديم لا يعني معرفيا: »الرق« (اسكلافاج) كما اصبح محمولها بعد الفي سنة عندما انتقلت النزعة التفوقية الاوروبية البيضاء من مرحلتها العقائدية الدوجمائية الى مرحلتها »العلمية« المقترنة بازدهار تجارة العبيد والتي اعتبرت ان بعض اجزاء الانسانية، وسكان افريقيا السوداء خاصة، »أدنى مرتبة من البشر« بسبب أنوفهم المفلطحة وشفاههم الغليظة او غيرها من السفاسف كما شاع لدى عدد من الكتاب الغربيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر. انما هي لدى ارسطو، وبتوافق عميق مع جدلية علاقة السيد والتابع الشهيرة، تعني الوصاية، وربما المطلقة، الا انها الوصاية الابوية على الدولة وأفرادها، وهي حالة لا تختلف نوعيا انما كميا فقط عن الوصاية الابوية على الاسرة التي هي أسبق الجماعات الى الظهور بنظره.
وهذا يعني ان العبودية هي، على صعيد، حالة ذهنية حادثة وليست حالة طبيعية او فسلجية. وهي على صعيد آخر حالة ديناميكية وليست ستاتيكية وبالتالي فهي قابلة لانتاج نقيضها (أي الحرية) لديه. وهذه الفكرة مهمة جدا نظرا لأن ارسطو ألح على مفهوم الاصل العائلي للدولة، وعلى ان الاسرة هي الدولة »بالقوة« او »بذاتها« أي انها نواة الدولة برغم ان الدولة لا تكون »بالفعل« أو »لذاتها« الا باجتماع عدد من الاسر لتأمين حياة منظمة ومثلى ماديا واخلاقيا باعتبار ان هذه الغاية هي العلة الغائية للدولة تحديدا.
ونلاحظ، من جهة أخرى، ان مفردتي »ملك« و»مستبد« تترادفان الى حد كبير في لغته السياسية حيث يؤكد بوضوح ان النظام الاستبدادي ينتمي الى نوع الانظمة الملكية الذي يكون الحاكم فيه فردا يحكم بشكل مطلق انما في عدد من المجالات وبموجب قوانين محددة أو موروثة. فالانظمة الملكية ليست طغيانية بالضرورة بحكم انها قد تكون خاضعة لقوانين وبحكم أن الملك فيها قد يكون منتخبا وهذا حتى في آسيا، وأرسطو يعرف بل كتب بالحرف الواحد ان السلطة في آسيا »ملكية خاضعة لقوانين وراثية عموما كما ان بعض الشعوب من البرابرة تنتخب أحيانا ملكها المطلق«.(5) لكن الاستبداد بنظره يمثل في الجوهر انحرافا خطيرا عن النظام الملكي، نظرا لان الملك في هذه الأنظمة الملكية المنحرفة يستحوذ على مطلق السيادة والسلطة وفي كل المجالات مما يلغي أهمية القوانين حتى اذا وجدت.

هذان الاستذكاران يؤكدان، اذا اقتضى الأمر، اننا غير متعجلين للتجني على ارسطو بتحميله، واعيا، مسؤولية تأسيس »نظرية« تقول بوجود »علاقة طبيعية« بين الاستبداد وآسيا، خاصة وان البعض من المتخصصين ذهب أبعد من ذلك، ناقلا الاستنتاج أعلاه من مرحلته كافتراض، مشروع تماما، الى طرحه كيقين قاطع هذه المرة، كما نجد ذلك لدى عدد من الكتاب من بينهم مؤخرا بيري اندرسون في »اصول دولة الحكم المطلق« (1979) حيث التأكيد القاطع بأن ارسطو نسب الاستبداد بشكل محدد الى آسيا.(6)

كما لم ينبه الى الشرق اطلاقا، لذلك لا نجد هنا أي جدوى في مناقشة مؤلف عربي معاصر، استاذ الفلسفة المصري امام عبدالفتاح امام، الذي يفاجئنا بدفع التبسيط الى أقصى حدوده زاعما أن ارسطو نطق حرفيا بالتماهي ليس فقط بين الاستبداد وآسيا انما بين »الاستبداد والشرق« هذه المرة، عندما كتب في مؤلفه الهام »الطاغية«، ان ارسطو قال في كتاب »السياسة«، »يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي، حيث نجد لدى الشعوب الآسيوية- على خلاف الشعوب الأوروبية- طبيعة العبيد، وهي لهذا تتحمل حكم الطغاة بغير شكوى او تذمر.. «.(7) والحال ان ارسطو لم يربط بين الاستبداد او الطغيان وبين الشرق صراحة او ضمنا ابدا، كما لا يوجد لديه أي استطراد يمكن ان يسمح بذلك الربط، لانه ببساطة، لم يذكر كلمة »الشرق« ولا مرة واحدة في كل كتاب »السياسة« كما يمكن التأكد من ذلك بيسر. وايضا لم يقل ارسطو بتاتا »نجد لدى الشعوب الآسيوية- على خلاف الشعوب الأوروبية- طبيعة العبيد« بل قال »البرابرة بطبيعتهم أكثر من الاغريق قبولا للعبودية، والآسيويون اكثر من الاوروبيين«. والفرق صارخ بالطبع بين الفكرتين الى درجة يمكننا الزعم معها بانهما متضادتان جذريا اذا فهمناهما كما ينبغي، أي كفكرتين في الفلسفة السياسية. ذلك لان العبودية »بالطبع« حالة سكونية بشكل مطلق بينما قبولها اكثر او اقل يجعلها استعدادا موضوعيا، متحركا وظرفيا، وبالتالي يمكن ان ينقلب الى نقيضه بفعل جدليته الداخلية الأكيدة، مصيرا تلك الحالة إما عبودية »بالفعل« أو حرية »بالفعل«.
وبرأينا فان جملة ارسطو أعلاه لا تسمح بذاتها باستنتاج وجود نظرية حول »الاستبداد الآسيوي« لديه تماثل من حيث تماسك البنية نظرية بولانجيه او مونتسكيو أو هيجل في هذا الشأن كما سنرى، وذلك لسببين على الاقل. الاول هو اننا لا نجد لدى ارسطو أي تطويرات أخرى بشأن هذا المفهوم لا في كتاب »السياسة« ولا في غيره من كتاباته الاخرى حيث لم ترد كلمات من نوع آسيا والآسيويين وفارس وبابل ومصر والهند الا بشكل نادر جدا وعابرة تماما مما يؤكد جهل ارسطو المفجع بالاحوال الآسيوية وهو ما يعترف به في أكثر من موضع من كتاباته. وكذلك الأمر بالنسبة لأوروبا غير الهيلينية في الواقع. وهو جهل لا يقتصر على ارسطو انما يشكل كافة المفكرين والمؤرخين الاغريق القدماء الذين لم يكونوا يقصدون بمفردة »الشرق« في كتاباتهم الا شرقهم المباشر وهو الجزر الآسيوية من بحر ايجه حصرا.
أما السبب الثاني، والاهم ربما، هو ان الفيلسوف الاغريقي الشهير ينقض بنفسه ضمنا مفهوم »الاستبداد الآسيوي«، ما دام أكد، وباسهاب مثير، ان اوروبا ولا سيما بلاد الاغريق عرفت كافة أنواع الانظمة الاستبدادية الطغيانية الرئيسية التي يتناولها ببعض التحليل في كتابه المذكور ونقصد بها الملكية الوراثية المطلقة، والملكية العسكرية، والطغيان الفردي وايضا ما يسميه »حكم العامة« ونسميه الدهموقراطية، جنين الاستبداد الشمولي او التوتاليتاري الشعبوي الحديث، ففي كافة مداخلاته حول هذه الانظمة لم نعثر على أي شيء يسمح بالاستدلال على ان ارسطو ينسب الاستبداد الى آسيا بشكل محدد.

بلا ريب، انه صريح هنا في الاعتقاد بان الآسيويين أكثر من الاوروبيين قبولا للعبودية »بطبيعتهم«. كما انه يذهب خطوة أبعد من ذلك عندما يحدد بعض الخصائص التي يعتبرها جوهرية في الملكيات الآسيوية المطلقة، وأهمها طابعها التقليدي وأحوالها المستقرة لآماد الطويلة وكونها وراثية ومحكومة بالاعراف المتوارثة وطغيانية قاطبة. بيد أن يقينه الآخر، الذي يهمله المؤرخون الغربيون عادة، والقائل صراحة بان البرابرة، كل البرابرة وليس الآسيويين وحدهم انما الاوروبيون أيضا، هم »بطبيعتهم أكثر من الاغريق قبولا للعبودية« وخاضعين لنفس النمط من الانظمة، يلغي بذاته ميكانيكية الترابط لديه بين العبودية وآسيا نظرا لان الاوروبيين من سكان المناطق الباردة هم أيضا بنظره و»بطبيعتهم« أكثر من الاغريق قبولا للعبودية. كما ان مفهومي ؛الآسيويين أكثر من الأوروبيين« و»الأوروبيين أكثر من الاغريق« في قبول العبودية لا يعنيان بداهة ان الاغريق والاوروبيين في تضاد مطلق مع العبودية بطبيعتهم، انما يعنيان انهم »أقل خضوعا« من الآسيويين لها وحسب كما تفيد بذلك كلمات أرسطو نفسها.

خلاصة القول إذن، ليس هناك أي دليل على ان أرسطو خص الطبيعة الجغرافية بمكانة حاسمة في وجود ظاهرة الانظمة الاستبدادية الطغيانية لدى ما يسميه الشعوب »البرابرة«. مما قد يسمح بالقول ان هناك ما يمكن تسميته بنظرية ارسطية حول »الاستبداد الشرقي«. انما، وانسجاما مع نظريته الفلسفية حول الوجود، يعيد ارسطو كل شيء في هذا المجال الى المرحلة التي وصلتها »طبيعتهم« البشرية في صعودها الى الكمال الذي هو استمداد ديناميكي مفتوح. ذلك لان الدولة في نظره تنتمي اطلاقا الى الكائنات الطبيعية وأن الانسان بطبعه حيوان سياسي، ومن هو خارج الدولة، هو بفعل طبيعته، وليس لأي سبب طارئ او خارجي عليها، أما كائن أدنى من الانسان (كالحيوان والنبات والجماد) أو اسمى من الانسان (كالآلهة)، وفي الحالتين ومثلهما تنطبق عليهما كلمات هوميروس، بلا نسب، وبلا قانون، وبلا بيت«.(8)، أي ليس انسانا ولذلك بلا دولة.

فنظريته حول »طبيعة الدولة« وطبيعة المستوى الذي تحققه، وليس نظرية مزعومة عن »طبيعة المناخ«، هي مصدر فكرة ارسطو بوجود علاقة »طبيعية« بين الاوروبيين والديمقراطية بين الآسيويين والاستبداد، ما دام الهيلينيون أنفسهم والاسبارطيون أيضا خضعوا في وقت أو آخر للانظمة الطغيانية، أعلى أشكال الاستبداد، برغم انهم »بطبيعتهم« أقل خضوعا للعبودية اذا صدقنا ارسطو، ويدعم هذا الاستنتاج ان كافة أفكاره المتعلقة بالنظام الاستبدادي مستخلصة من تأملاته في أنظمة اغريقية حصرا يذكرها بالاسم من بينها طغيان اورتاغوراس واسرته التي حكمت في سيسيون لمائة عام متوالية، وسبيلودس (30 عاما) وبرياندر (40 عاما) في كورنتا، وبيزسترات طاغية اثينا وسلالته (25 عاما)، ومثلهم كاريلوس في سبارطة، ودنيس وهيارون وجيلون في سراقوسا، وتراسيبول في ميلة... الخ.

بالمقابل لا نكاد نعثر بشأن الانظمة الآسيوية على أي تحليل مهم، بل أي ذكر، باستثناء فكرتين أو ثلاث عابرة وغير واثقة تفيد احداها بأن سكان مصر، »ورغم ان البعض يعتبرهم من أقدم البشر، كانوا يفتقرون الى القوانين والتنظيم السياسي« باستثناء نظام تقسيم المجتمع الى فئات والذي ادخله ملكهم سيسوستريس(9). فيما تفيد الأخرى، بان الاثيوبيين كانوا يوزعون المناصب الادارية على من هم الأطول قامة أو الاجمل بينهم على اساس أن طوال القامة أو الجميلين بينهم نادرون.(10) وغيرها من الأقوال التي كان حذرا هو نفسه من الوثوق بصحتها. الا ان جملة واحدة، ومكررة، حول آسيا في كتاب ؛السياسة« تفيد بأن برياندر طاغية كورنتا استورد الكثير من أساليب حكمه الاستبدادي »من نموذج السلطة السائد في بلاد فارس«.(11) هي التي سمحت للبعض بالاعتقاد بوجود أصل فلسفي ارسطي لمفهوم الاستبداد الآسيوي.
والحال أن أهمية هذه الفكرة استثنائية بلاشك انما لدحض هذا الاعتقاد. فمن جهة لا يتحدث ارسطو هنا إلا عن »نموذج السلطة السائد في بلاد فارس« وليس في آسيا كلها كما هو واضح. الشيء الذي قد يسمح بالقول ربما ان هناك »استبدادا فارسيا« لكن ليس آسيويا بالمطلق. وفي كل الاحوال ونظرا للمعرفة الدقيقة التي تميز بها ارسطو بشأن الحروب بين بلاده والامبراطورية الفارسية والمشهورة بالحروب الميدية (490- 479 قبل الميلاد) فانه من المستبعد قطعا أن يكون قد قصد آسيا بمفردة بلاد فارس أعلاه. كما ان مأخوذا بالفكرة الفلسفية كارسطو لا يمكن أن يسمح لنفسه ارتكاب خلط كهذا، أما اذا كان سمح بذلك فلا قيمة بذاتها عندئذ لرأيه على الأقل لان من السذاجة ان ننتظر من هيليني في القرن الرابع قبل الميلاد أن يكتب كلمة طيبة أو محايدة واحدة بشأن الدولة الفارسية عدو الهيلينيين الاعظم آنذاك.

وفي اعتقادي، أن الانظمة الطغيانية في بلاد الاغريق ذاتها هي ما سعى أرسطو الى الكشف عن مساوئه والتحذير منه معتمدا، لسبب أو لآخر، منهجا لا يهتم بتكوين منظورات في الفلسفة السياسية حول الشرق قدر اهتمامه بنقد التجارب الاستبدادية السابقة لدى الهيلينيين أنفسهم، الا انه حرص حتى في هذا المجال ان يظل فيلسوفا أكثر مما هو ايديولوجي، الشيء الذي يفسر نزوعه الطاغي الى التجريد الاعتباطي بالضرورة والضار بالنسبة للعوالم غير الهيلينية، وآسيا خاصة.
وعلى أية حال، فان انعدام تطويرات أرسطية تذكر بخصوص الانظمة السياسية خارج بلاد الاغريق، كما لو انه تجنب ذلك واعيا، يلغي بحد ذاتها الامكانية الموضوعية لاعتباره مؤسسا لمفهوم الاستبداد الآسيوي او الشرقي كما سنجده لدى مونتسكيو مثلا الذي، بطريقته الخاصة وبانتقائه وأدلجة مفرطتين، سيجعل نفسه وريث ارسطو ليس فقط فيما يتعلق بفكرة الخضوع الآسيوي ونظرية المناخ والجغرافيا بل خصوصا بفكرة تفوق العرق الهيليني على الاعراق الأخرى.
بيد أن دفاعنا عن ارسطو ينبغي أن يتوقف عند هذا الحد. فهذا الفيلسوف العقلاني والنقدي اللامع، ومن جديد اذا صح انه المؤلف الفعلي لكتاب »السياسة«، لم يفلح في التحليل الأخير أن يتجنب السقوط في العادات الجاهزة واللاعقلانية لثقافته الخاصة، مما سيجعله لا الزارع الاول لمفهوم كارثي كـ»الاستبداد الآسيوي« فقط انما، ودون وعي ربما، واضع اللبنة الأولى في صرح الذاتية المركزية الاوروبية الذي سيغدو شاهقا في العصر الحديث. ولعل هذا يفسر بذاته أحد اسباب حميمية العلاقة التي أظهرها حياله معظم مفكري أوروبا منذ عصر النهضة الأوروبية ولحد الآن كما هو معروف، بينما لم ينل افلاطون مثلا سوى تبجيلات رمزية.

الميكافيلية الأرسطية

يمكن تلمس ميكافيلية ارسطو في اتجاهين مختلفين أو متضادين في فكره السياسي، وفي مجال الاستبداد الآسيوي تحديدا، يتمثل أحدهما في تعبيرها في الجوهر عن ميل لتبرير النزعة التوسعية الاستعمارية او اذا شئنا »الكونية« للامبراطورية الاغريقية في القرن الرابع قبل الميلاد، بينما يتمثل الآخر في التحذير من مساوئ الانظمة الاستبدادية على الامة الاغريقية نفسها.

ففي الاتجاه الاول، وكما لاحظ بدقة مؤرخ الفلسفة الفرنسي اميل برهييه يشم المرء في هذا المنظور الارسطي، القائل بتفوق الاغريق على جميع الشعوب الأخرى، والذي يتمشى مع مذهبه الفلسفي الغائي، ؛صدى لذلك الصراع المؤرث بين الاغريق والبرابرة، وربما محاولة لتبرير المشروع الجبار لفرض هيمنة الاغريق على العالم بأسره، وهو المشروع الذي تنطع له عصرئذ الاسكندر المقدوني الكبير.

فمع الانطلاق في هذا المشروع صارت الحروب ولأول مرة مصدر ثراء للاغريق الذين راحوا بسبب ذلك يتعلقون بنظام الحكم العسكري المطلق الذي ساعدوا الاسكندر على فرضه في كل مكان أو عملوا على اقامته اينما أمكن لهم ذلك بل وصار كل جنرال اغريقي ينتصر في معركة ما يطرح نفسه بطلا قوميا لمجرد تحقيقه ذلك الانتصار مهما صغر، مانحا لنفسه بذلك شرعية اقامة حكمه العسكري المطلق في نطاق سيطرته.

لكن الارهاصات الأولى لهذه النزعة تعود الى فترة أسبق حيث كانت كورينثا في أواسط القرن الثامن ق.م قد مهدت لذلك بتعبيرها عن نزعة توسعية تزامنت مع تطويرها لتقنيات جديدة كما يبدو في صناعة السفن كنتيجة ربما لتطور صناعة الخزف لديها التي اثمر اتساع مبادلتها مع مناطق ايطالية واغريقية بالحبوب التي تنقل للبيع عن مراكمة ثروات جديدة، وأطماع جديدة وقوة عسكرية صاعدة.

في مرحلة لاحقة، كان بوليكراتيس الساموسي، الذي يعد أهم الشخصيات الاغريقية في القرن السادس ق.م أول اغريقي كما يقول هيرودوت، يحلم ان يقيم »امبراطورية البحار«.(12) (هيرودوت122،3 ) وطموح كهذا لم يكن اعتباطيا لهذا المعاصر لقمبيز وواضع السياسة البحرية الاغريقية والذي سيقود مقاومة بلاده ضد الفرس الا انه سيقضي نحبه صريعا على يد منافسه اوريتاس حاكم ليديا الذي استغل موت قمبيز ليقضي على كافة خصومه الاغريق.
أما على صعيد المفكرين والشعراء أنفسهم فقد صار الاسكندر رمزا معنويا أو نموذجيا للملك المتفوق »بطبيعته« على سواه من على البشر اذ راحوا يشيدون بمعجزة جمعه لصفات مثلى لا توجد في البشر معا في رأيهم أي كعاقل وعادل ورجل دولة وحرب. بل راح الاسكندر يبدو متجاوزا للحدود الانسانية وضربا من الالهة. النتيجة اللاحقة هي سقوط الديمقراطية نهائيا وانتصار الملكية المضخمة الذي تجسد في قيام الامبراطورية المقدونية التي ستترك مكانها سريعا للامبراطورية الرومانية. فالحكم المطلق كان لابد من ان يذهب الى حد الغاء أي شكل من أشكال الحريات ونحن نعرف أن الحياة الثقافية ستغدو قاحلة في الفترة التالية وأن قصائد هجائية سببت لشعراء الموت المصحوب بالتعذيب(13) برغم استمرار هذا املك أو ذاك بايلاء كبار المفكرين رعايته الخاصة.

والحال، ان القول بتفوق الاغريق على الأمم الاخرى في تلك الملكية المطلقة التي فرضها الاسكندر في كل مكان، لا يعني هنا سوى خرافة موروثة. ففي عام 335 قبل الميلاد أمر الاسكندر بتدمير طيبة عن بكرة ابيها ولم يترك فيها سوى بيت واحد هو بيت الشاعر بندار. كما ان النهب والمذابح والسبي وبيع سكان المدن بأكملهم كرقيق كانت من الظواهر العادية في حملات الاسكندر العسكرية في الغرب والشرق على حد سواء. والمفارقة هي ان الاسكندر نفسه استهجن تلك التفوقية الاغريقية وراح يستلهم التقاليد الشرقية عندما وجد ان امبراطوريته الواسعة تتطلب ذلك، ومن هنا أخذه عن الاباطرة الفرس استعمال التاج الذي سيرثه- كتقليد- خلفاؤه من بعده.

وهكذا، تبدو ميكافيلية ارسطو في وجهها السلبي هذا جلية تماما لاسيما وان تلك الملكية المطلقة نفسها هي تحديدا ما كان ارسطو وسواه قد اعتبروها نظاما متدنيا وبالتالي خاصا بالبرابرة، لكن ما يجعل هذه الميكافيلية أقرب على الفضيحة منها الى السذاجة هو أن فيلسوفنا كان نفسه أحد ايديولوجيي النظام الامبراطوري الجديد ما دمنا نعرف بأنه كان المربي الرسمي لذلك الامبراطور الأجنبي الذي أذل ودمر العالم الاغريقي نفسه واخضع الهيلينيين. شعب أرسطو، قبل ان ينطلق لاخضاع الشعوب الأخرى في آسيا وغير آسيا، فالاسكندر العائد من فتح الشرق كان يتهيأ في لحظة موته في بابل لاستكمال احتلال الغرب محققا ولأول مرة في التاريخ هذه الامبراطورية الكونية التوسعية التي كانت تطمح لأن تهيمن ثقافيا ودينيا أيضا على العالم وأن تتخذ من بابل عاصمة لها.

لا نقصد هنا ان نحمل ارسطو كل شرور العالم. فالرجل، كأي فيلسوف آخر، ابن ثقافته وابن أرضه والثقافة الهيلينية كالجزر الهيلينية كانت رائعة الخصب والحيوية وهذا مما لا شك فيه، إلا انها كانت أيضا، وهذا ما يهمل دائما، مفتوحة أمام الحضارات الشرقية، واقتباسية تجمعية في كل المجالات. وهذا يشمل النظم السياسية أيضا، كما كانت ثقافة ممزقة وزاخرة بالتناقضات التي ستلعب بعد حين دورا حاسما في القضاء على تلك البلاد وعلى تلك الثقافة أيضا حتى ان كافة مؤلفات ارسطو نفسه، وليس كتاباته السياسية وحدها، سرعان ما نسيت تماما في الغرب وبلاد الاغريق ولم تكتشف من جديد الا بعد ألفي سنة مكدسة في قبو وقد نال منها التعفن ومعها فكرته حول تفوق العرق الهيليني على الاعراق الأخرى. أما أفكاره التي بقيت قيد التداول فلا يعود الفضل في بقائها الى الاوروبيين انما الى المسلمين من عرب وفرس وبربر وآسيويين وأفارقة، أي أن ؛البرابرة« بامتياز اذا شئنا اعتماد مفاهيم ارسطو، هم الذين تعاملوا معها باحترام نادر نعتقد بأن ارسطو كان سيقف مبهورا أمامه.

ان الخطأ الذي يرتكب غالبا هو الاعتقاد بأن الديمقراطية الاغريقية، القائمة على العبودية، كانت الحالة العامة في التاريخ الهيليني في حين انها لم تكن في الواقع الا استثناء، كما لم تكن الا في عدد محدد من المدن لاسيما اثينا. وعلى العموم كان اعدام سقراط بمثابة نهاية تراجيدية وصارخة لتلك التجربة التي كانت قد دخلت طور الانهيار منذ أمد بعيد كما يؤكد ذلك ولادة التوجه المقدوني نحو اقامة مملكة واسعة. وفي الواقع فان انهيار »المدينة« الاغريقية وديمقراطيتها الخاصة لم يكن له ان يمر دون ترك تأثيرات في كافة المجالات الاخرى كان اهمها انهيار نظام العبودية ذاته، وفي القرن الثالث قبل الميلاد، كانت الديمقراطية الاثينية قد أصبحت من بنات الماضي السحيق سلفا حيث كانت الحريات السياسية قد سحقتها الملكيات المطلقة والبلاد قد حل محل مجلس الشعب. واذا كانت أنظمة الطغيان في صقلية قد ظلت تجتذب الانتباه فانه جرى على الدوام نسيان انه وحتى المرحلة الهيلينية فان الطغيان كان النظام السياسي السائد والثابت في معظم المدن الاغريقية تقريبا.

كما ان هذا الصنف من الانظمة السياسية، وجوهره السلطة المطلقة، الذي تدل عليه مفردة »تيراني« (غير الاغريقية وربما الليدية والتي قد تكون الاصل البعيد لمفردة »طغيان« في اللغة العربية)، يبدو عبر اشكاله الرئيسية، المتباينة الى هذا الحد أو ذاك في عدد من المظاهر العامة، كما لو كان قد طبع الفكر الاغريقي بشكل عميق أكثر حتى من التجربة الديمقراطية.

ولا غرابة في الواقع ان تكون التجربة السياسية الهيلينية محورا وحيدا للفلسفة السياسية الارسطية بمجملها بينما تختزل تجارب حضارات كونية لامعة وامبراطوريات عظمى سبقتها أو عاصرتها، كالبابلية والمصرية والفارسية، ببضع كلمات عابرة اذا حالفها الحظ. ذلك لان ارسطو، الذي قيل انه انزل المثال الافلاطوني من السماء الى الأرض، لم يكن له ان يتصور ذلك المثال الارضي الا هيلينيا مهما هام به في سماوات التجريد.

لكن الوجه الثاني، الايجابي، في ميكافيلية أرسطو يتمثل في ان هذا الفيلسوف، الذي عانى من قهر السلطة، كان يريد التحذير من مساوئ الانظمة الاستبدادية التي، وعلى العكس من الفكرة الشائعة لحد الآن، لم تكن ظاهرة شاذة او استثنائية انما الحالة السائدة في العالم الاغريقي ذاك. وكما لاحظ كلود موس في كتابه »أنظمة الطغيان في بلاد الاغريق« (14)، ليس هناك ربما قضية اثارت في الماضي كل ذلك القدر من الجدل والخلافات كقضية الانظمة الطغيانية في بلاد الاغريق بينما ليس هناك قضية أهملت او نسيت مثلما نسيت هي ذاتها في العصر الحديث.

ان الفترة الأولى من التاريخ الاغريقي تبدو فترة مضطربة كما يوحي بذلك معظم كتابات المؤلفين القدامى، نزاعات داخلية دموية طاحنة تستنزف كل شيء، وتتوج دائما باستحواذ زعيم ما على السلطة لوقت يطول او يقصر الا انه ينتهي غالبا باقامة نظام »ديمقراطي« ما في منطقته. لكنها النهاية الظافرة للحروب الميدية هي التي سمحت بازدهار وانتشار الحضارة الهيلينية برغم ان نزعة الثأر من الامبراطورية الفارسية ظلت تحاصر الكثيرين هذا يصدق بشكل خاص على الاغريق في شمال غربي آسيا الذين اخضعوا (خلال سبعين سنة تقريبا) للامبراطورية الفارسية التي احتلت بلادهم في أواسط القرن السادس قبل الميلاد، في تجربة كان الاحتلال الفارسي في بدايتها رحيما حيث ترك المدن الاغريقية تزدهر ثقافيا واقتصاديا الا ان قيام الاغريق بثورة ضد الفرس والقمع العنيف الذي اخمدت به تركها جريحة حتى مجيء الاسكندر في الواقع.

من جانب آخر ليس صحيحا ان ارسطو يفضل النظام الديمقراطي على النظام الملكي في كل الاحوال، انما هو اميل للنظام الملكي اذا كان دستوريا او نموذجيا مثل ذلك الذي عرفته سبارطة في عهدها البطولي. كما انه ضد ديمقراطية العامة »التي يكون فيها الشعب هو الملك« لان »ديمقراطية كهذه تناظر النظام الطغياني« لديه.(15) اما سلطة العاهل المقيدة بدستور أي قوانين ثابتة ومحددة بكونها مهمة تنظيمية، ادارية وقضائية ودينية، وتهدف الى تحقيق الصالح العام، فلا يرفضها ارسطو كما لا يرفض أن توكل الى الملك سلطة مطلقة ومدى الحياة شريطة أن يكون فاضلا. وباعجاب واضح يذكر ان اغا ممنون، حاكم اسبارطة المطلق وملكها مدى الحياة، باعتباره نموذجا للملك الملتزم بالدستور ملاحظا، مستعينا برواية لهوميروس، ان اغا ممنون كان يتلقى الشتائم من المواطنين الاحرار في الجمعيات من جانب بينما كان يصدر حكم الموت خلال الحروب الخارجية بل وينفذ هذه العقوبة بيده أحيانا من جانب آخر.

لكن الملك النموذجي سلالة نادرة وارسطو يدرك ذلك من خلال التجربة الهيلينية نفسها التي تبدو له زاخرة بالانظمة الاستبدادية، أي التي تخلت عن حماية المجتمع ومصالحه وانهمكت بشراهة في تسخير كل شيء لخدمة مصالحها الخاصة. أما الملكيات غير الهيلينية فهي »بطبيعتها« ليست من هذا النوع النموذجي، انما وبرغم انها ليست طغيانية بالضرورة إلا أنها »تشبه الطغيان جميعا« الذي هو بدوره علاقة استبدادية مفرطة من جهة وعامة من جهة أخرى في فرض علاقة السيد بالعبد على كافة أحرار المجتمع وفي كافة المجالات. فالطغيان هو في جوهره ملكية منحرفة لمصلحة الملك على حساب البلاد، والاولغارشية انحراف عن الارستقراطية لمصلحة جماعة من الاغنياء، وديمقراطية العامة هي انحراف عن النظام الدستوري لمصلحة الفقراء وحدهم على حساب سواهم، وارسطو يرفضها جميعا باعتبارها أنظمة تغيب ضمانات العدالة فيها مفضلا عليها النظام الدستوري باعتباره وحده القادر على حماية المصالح العامة لجميع الاحرار الذكور ومصالحهم وحدها.

وفي الواقع، ان برياندر الهيليني هو، وليس أي من الملوك الآسيويين، النموذج الصارخ للطاغية الذي يفضحه ارسطو في تشخيصاته حول ما يسميه »الطغيان الأمثل«. وهو في الواقع ما يذكره صراحة عندما يخبرنا بأن برياندر انشأ الكثير من أساليب نظم الطغيان اضافة الى ما استورده من الفرس منها. كما نلاحظ ان توصيفه لتلك الأساليب هو من الدقة والقوة الى درجة تدهشنا لحد الآن مما ينفي كليا احتمال تعلقها بأنظمة مجهولة او نائية أو متخيلة انما تتعلق بأنظمة اغريقية تحديدا ومعروفة مباشرة للفيلسوف وربما حاضرة بعد خلال حياته. وبكلمة أخرى، لا نستبعد ان ما يطرحه من تشخيصات يحمل في ثناياه أهدافا سياسية مباشرة وفي مقدمتها تحذير الهيلينيين أنفسهم من أخطار وشرور الأنظمة الطغيانية على حياتهم معتمدا منهجا يفضح التجارب الاستبدادية السابقة لدى الهيلينيين أنفسهم ولدى غيرهم أيضا.

الهوامش

1 - »السياسة«، الكتاب2، الفصل14، فقرة 6.

2 - »السياسة«، الكتاب7، الفصل7، الفقرة2 و3.

3 - »السياسة«، الكتاب1، الفصل2، فقرة4.

4 - »السياسة«، الكتاب1، الفصل2، فقرة10.

5 - بيري اندرسون، »أصول دولة الحكم المطلق«، 1979.

6 - امام عبدالفتاح امام، »الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي«، عالم المعرفة، الكويت، 1994، ص127.

7 - »السياسة«، الكتاب1، الفصل2، فقرة9.

8 - »السياسة«، الكتاب7، الفصل10، فقرة8.

9 - »السياسة«، الكتاب4، الفصل4، فقرة4.

01 - »السياسة«، الكتاب5، الفصل11، فقرة4.

11 - اميل برهييه، »تاريخ الفلسفة10- الفلسفة اليونانية«، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ص320.

12 - اندريه ايمار وجانين اربوير، »الشرق والاغريق القديمة«، المنشورات الجامعية الفرنسية، ط7، 1985، ص499.

13 - نفس المصدر، ص291.

14 - كلود موس، »أنظمة الطغيان في بلاد الاغريق«، المنشورات الجامعية الفرنسية، ط2، 1989، ص1.

15- »السياسة« الكتاب4 الفصل4، فقرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى