السبت ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عبد الكريم الزيباري

جائزة بوكر العربية سياسة إعلامية

لو أنَّ مصريَّاً فاز بجائزة بوكر، لكانت المرة الثالثة، وهذا أمرٌ يتنافى مع قواعد العدالة التي تعمل وفقها لجنة بوكر العربية!! ولو أنَّ روايةً أخرى فازت، لكان هذا مخالف لمفهوم الرواية العربية، التي يجب أنْ تخلو من الخيال والإبداع والخرافات والأساطير، يجب أنْ تكون موضوعية، أما في الأبحاث العلمية والإنسانية فالمجال مفتوح للخيال والخرافات.

هذا ما استطعتُ فهمه من الضجَّة الإعلامية الكبيرة التي رافقت قرارات لجنة التحكيم، والتي يعتقد أحد أعضائها أنَّ الموضوعية في الرواية هو أمرٌ من شأنِهِ أنْ يُعلي من قيمتها، فنقلَ الروائي العراقي علي بدر، تعليقه على روايته إلى الغلاف الأخير للرواية، طبعة دار الجمل، 2004 (علي بدر روائي بالغ التميُّز، سواء في قدرته على فتح آفاق جديدة للرواية، وإلحاحهِ على فهم الرواية بوصفها بحثاً موضوعياً عن حقيقة ما، أو شخصية أو ظاهرة دالة، ولقد لفتت رواياته الانتباه، سواء بتقنيتها أم بموضوعها/ جريدة الأهرام المصرية). هذا كلام يتصِّف بالعمومية، ولا يوجد ما يمنع من رفع اسم علي بدر، واستبداله بأيِّ اسمٍ آخر، كما إنَّ وصف عصفور(وإلحاحهِ على فهم الرواية بوصفها بحثاً موضوعياً)يطرد النص خارج النظرية الأدبية، الموضوعية ضدَّ الخيال وضد الشعرية، والموضوعية صفة للعلوم الاجتماعية والثقافية والسلوكية والعقلية والنفسية، والموضوعية هي غياب لكل عوامل التحيِّز، أحد أعضاء لجنة التحكيم يفهم الرواية باعتبارها بحثاً موضوعياً، بينما نجد كاتباً مثل إدواردو كاليانو قد كتب في مقدمة روايته ذاكرة النار، طبعة دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1995 ما يلي(لم أرغب بكتابة كتاب موضوعي ولا أستطيع ذلك). وبحسب جيبسون الموضوعية هي (كل ما ينتج عن التأثير المناوئ للاستخدام السليم للشواهد والبيِّنات المتاحة للباحث/ د.صلاح قنصوه- الموضوعية في العلوم الإنسانية- دار التنوير- 2007- بيروت- ص65). نلاحظ أنَّ جيبسون نَسَبَ الموضوعية للباحث، وليس للروائي ولا للشاعر.

يقول جوزيه ساراماغو(التقنية الروائية تتطلب منا ألا نكرِّر ما هو معروف من قبل/ جوزيه ساراماغو- الطوف الحجري- ت: د.طلعت شاهين- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2007- ص 447). وذلك خوفاً على القارئ من الملل. ويقول عبده خال (الدمى وُجِدَت لكي يُلعب بها، ومن ذا الذي لا يلعبُ بدماه/ عبده خال- ترمي بشرر- منشورات الجمل- 2009- بغداد- ص16. عبارة شعرية!، وكشفٌ عظيم، مركب لغوي لم يُسبق إليه، وإنْ كانت صيغة(ومن ذا الذي لا)قد استهلكها شعراء الجاهلية، وصولاً إلى قصيدة النثر، ولكن السر واللغز كامنٌ في أنَّ(الدمى وُجِدَت لكي يُلعب بها). والشعرية كامنة، وعلى القارئ وحدهُ استخراجها، كما في عبارة (يا عيني يا ليل، يا ليلي يا عين). ونوردُ قول عنترة بن شداد(دهتْني صروفُ الدّهر وانْتَشب الغَدْرُ/ ومنْ ذا الذي في الناس يصفو له الدهرُ) وكثير (وقدْ زَعَمْت أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَها/ ومَنْ ذا الذي يا عَزُّ لا يَتَغَيَّرُ)وعلي بن الجهم(ومن ذا الذي تَرضى سجاياهُ كُلِّها/ كفى المرء نُبلاً أنْ تُعَدَّ معائبهْ)والمتنبي (كدعواكِ كلٌّ يدّعي صحَّة العقل/ وَمَنْ ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ)وحميد سعيد في قصيدتهِ "تخطيطات بالفحم والدم على جدران المتحف العراقي"( يا أُمَّنا شبعادْ/ مَنْ ذا الذي يَطردُنا من لغةِ الملحمةِ الأُولى/ ومَنْ ذا الذي يُحيلُنا إلى تُخومِ الظلامْ؟/ يا أُمَّنا شبعادْ/ ليسَ سوى مرثيةٍ سوداءَ... هذه البلادْ).

علماً إنَّهُ وللأسف سوف يظلُّ خال يكرِّر حقيقة واحدة بأساليب مختلفة بضمير المتكلم العائد إلى بطل الرواية الوحيد طارق فاضل (كنتُ دميته الجديدة/ ص16). (أكون داخل القصر آلة عديمة الجدوى.. كنت كالطائرة الورقية أحلق في الفضاء، وخيط رفيع يمسكني به، وبمجرد جذبه إليه أهوي/ ترمي بشرر- ص8). (السمكة الصغيرة حينما تعلق في شبكة صياد يبحر بقاربه جاذباً شبكته من خلفه، تفكر في أمرين: التخلص من الفخ.. أما اعز أمنية فهي أن يقف القارب في مكانه لتكون محاولة فكاكها ناجحة.. ومنذ أنْ علقت في شباكهِ../ ص9)أمرين ويخبرنا بأمرٍ واحد، سمكة في الفخ تفكِّر في الخَلاص، وهل هناك ما هو أكثر بديهية؟ ودمية خال، العفو أقصد رواية، تصلح للفتيان، لولا أنَّها بذيئة، بسبب أنَّ جميع الأحداث متوقعة إلى حدٍّ لا يمكن وصفهُ. لا يوجد فيها صراع نفسي، وإنْ وجد فهو ساذج إلى درجةٍ كبيرة (حكمة متواضعة اصطدمُ بها يومياً.. لذلك أجدُ في تذكرها ممارسة لغباء إضافي/ص18) ربما كان يقصد في تكرارها، لأنَّ التكرار يُعلِّمُ الحمار، وتارةً يُعرِّفُ (الشهوة هذه النار المشعلة.../ص18)وتارةً(الدين هذا النفق الذي يسلكه الجميع../ ص19)ويستمر المُجْمَل السردي غائصاً في التعريفات والعموميات، وأنَّ سيد القصر كهلٌ لا تظهر كهولته، وحين يرغبُ في التغيير خوفاً من أنْ يملَّ القارئ يقول(العروق الزرقاء النافرة من ترقوته تبين أنها أمضت عشرات السنوات وهي تضخُّ الحياة/ص25)حيث يستخدم الجميع مركب عشرات السنين، أبدعَ خال تركيباً جديداً سيشتغلُ عليه علماء الألسنية عشرات السنين، ولو أنَّ قارئاً في ليلةٍ من ليالي الشتاء البارد رأى صعوبة اللغة والكلمات الحوشية (تمدد بين حاجبيه، ليصل إلى شفتيه، مستفزا معكراً بتأفف من التفافنا حول سيارته وانغراس خراطيم عيوننا في وجنتيه المشرئبة احمراراً/ص25)لقال أنَّ هذه الرواية لن يقرأها غير أبي علقمة النحوي أو تلميذه زقفيلم، ولكن الأمر على العكس تماماً. (وكأنَّ السامع لم يكنْ راوياً لنفس الحكاية منذ لحظات/ص25)لا يجوز استخدام منذ إلا في فعل يمتدُّ حدوثه باستمرار، مثل(منذ عشرات السنين وهي تضخُّ الدماء)(نذرَ نفسه للغة العربية منذ عشرةِ سنوات) أمَّا إذا انقطعَ الفعل مثل الإنشاء، فلا يجوز، مثل(أُنشئت بغداد منذ ألف سنة) والصواب(أُنشئت بغداد قبل ألف سنة)وبهذا يكون الصواب(وكأنَّ السامع لم يكنْ راوياً لنفس الحكاية قبل لحظات). ومن هذه الأخطاء الكثير، حتى استعصى علينا إحصاؤها. (رؤية السائق السوداني بعمته المكوَّرة على رأسهِ/ص25) ربما كانت عمامته وربما كانت خالته. (لبوابة القصر الرئيسية/ ص25) الرئيسة، فلماذا يَنسبُ ما لا يُنْسَبْ؟ (كانت رؤيته حدثاً تفننا جميعاً في روايتها على أوجهٍ عِدَّة/ص25)الرواية للحدث أمْ للرؤية؟ بحسب قواعد النحو يعود الضمير إلى الأقرب، وبذلك يكون الصواب في روايتهِ. (متشهين رؤية السيد/ص25) ولا أدري كيف تسنَّى اشتقاق الاسم (متشهين)ومن أيِّ فعلٍ صَرَّفَهُ؟ اشتهى، مُشْتَهٍ، مُشْتَهيْنْ. وقال المفسرون في قوله تعالى(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ) وشهوة مصدر في موضع الحال، بحسب الزمخشري أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها. لمَّا كتبَ جورج أوريل روايته الدستوبيا "مزرعة الحيوان" كمشاركة في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي، الذي صوره بعالم الحيوان، حيث يقول الخنزير ميجور(باختصار إنه الإنسان، الإنسانُ هو عدونا الحقيقي الوحيد، أبعدوا الإنسان فيزول معه السبب الأساسي للجوع)لكنَّهُ رغم ذلك منح بعض الحيوانات صفات إنسانية كالشجاعة والكرم، والتضامن والتكافل والنظافة، وعندنا يكتبون دستوبيا تلو الدستوبيا، ليس في مجتمعاتنا سوى الرذيلة، اغتصاب، وقتل، وخطف، لا يوجد إنسانية أبداً، حتى أنَّ حيوانات الغرب وكلابهم أكثرُ منا إنسانية، برغم الإحصائيات التي تؤكِّد أنَّ معدلات الجريمة عندهم أكثر بما لا يدعُ شكَّاً على تخرصاتهم وافتخارهم الساذج بإنسانية عنصرية بلهاء.

ملاحظة: سأكتفي بهذا القدر، حَفَاظَاً على حسن العلاقات والجوار، ولا أستبعد أنْ تفوز رواية "ترمي بشرر" بجائزة نوبل، بعد البوكر، ليس لأسلوبها الأصيل الذي لم يسبق إليه، ولا لحبكتها الدرامية القوية، بل لأنَّها رواية ليست للقراءة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى