الخميس ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم حسين حمدان العساف

جائزة نوبل والعرب

تحدثت وسائل الإعلام المختلفة على نطاق واسع من العالم عن شخصيات عربية هامة فازت بجائزة نوبل. كل شخصية لها دورها الهام والمؤثرفي ميدانها الذي برزت فيه. أتحدث الآن عن إحداها، أبدعت في ميدان الأدب، تحديداً في مجال الرواية، هي شخصية نجيب محفوظ. فقد فاز عملاق الرواية العربية نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب للعام 1988، وأقيم له حفل تكريم لائق في العاشر من كانون الأول للعام 1988 باستوكهولم عاصمة السويد.

التعريف بجائزة نوبل

من أوصى بإنشاء هذه الجائزة؟ هذا سؤال قد يخطر ببال الكثيرين. عالم كيميائي ثري، اخترع مادة الديناميت الشديد الانفجار، فشعر أنَّ اختراعه مُدَمِّرٌ لا محالة، وأنه لابد أن يلحق بالبشرية الكوارث، ويجلب عليه لعنة الأجيال القادمة التي ستقع ضحية هذا الاختراع، أحس بندم شديد، فأراد هذا المنكود في حياته أن يكفّرعن خطئه القاتل، ويحررنفسه من عقدة الذنب التي ظلت تلازمه حتى صارت كابوساً ثقيلاً على صدره، لا يبارحه، فلم يجد مخرجاً ينقذ البشرية من عواقب (ديناميته) إلاَّ استتباب السلام والأمن في العالم. لذلك قرر(الفرد نوبل) أن ينفق أمواله لكل من يدافع، أو يساهم، أو يناضل من أجل إقرار الأمن والسلام تعويضاًعن جنايته المدمرة. لأن السلام وحده هو الذي يجنب البشرية جميعها، مما يلحقه اختراعه بها من حروب ودمار وآلام، وكان لهذا العالم الكيميائي الثري وصية قبل موته. قضت أن تمنح جائزة مالية ضخمة، تحمل اسمه لكل إبداع متميز في أحد ميادين الفيزياء والكيمياء والطب والسلام والأدب والاقتصاد من شأنه أن يخدم، أو يفيد، أو يمتع البشرية، وقد أسس هذه الجائزة التي حملت اسمه في وصيته سنة 1896. وغدا منح المبدعين الكبار جائزة نوبل في كل ميدان من هذه الميادين تقليداً متبعاً كلَّ عام ابتداء من العام 1901،

مقياس الفوزبها

ولجائزة نوبل هيئة تشرف عليها، وتمنح الجائزة، تسمى هيئة الجائزة، أوهيئة التحكيم، تتألف من ثمانيةعشرعضواً، بينهم أدباء وعلماء، و ذوو اختصاصات أخرى مختلفة، يتقن هؤلاء عدة لغات أوربية عالمية. وتنظر هذه الهيئة في كلِّ ما يُرَشَّحُ إليها، من إنجاز نافع بارز، أو عمل مبدع متميز في كلِّ ميدان من الميادين الآنفة الذكر، فإذا رضيت عنه، أو استحسنته نال الجائزة، وإذا ما نال الجائزة إنجاز ما، فلا ريب أنه إنجازرائع متميز، حتى لو كان دون ذلك على رأي جهات أخرى، وللتميز أوالإبداع عند هيئة الجائزة مقاييس لابد من توفرها في كلِّ إنجاز. وتوفر مقاييس التميزأو الإبداع في الأثر الأدبي أو عدم توفرها فيه راجع إلى قناعة ثلثيها في الأقل. وأبرز هذه المقاييس في الأثر الأدبي ثلاثة: الإنسانية، والعمق، والعالمية، وقد تشترط على المؤلف غزارة الإنتاج، وبغير هذه الشروط، أو بغير أحدها، يفقد الأثر الأدبي الجدارة التي تؤهله للترشيح ثم الفوز. ذلك أن القارئ الأوربي لا يقرأ أثراً معاداً، أو مسبوقاً إليه، ولا يقرأ قصة أو رواية لا تعمق وعيه، ولا تثري معرفته، أو تغني خبرته. والقارئ الأوربي الذي تهتم بأمره اللجنة أكثر من سواه، يريد أن يطلع بلغته أوبلغة أوربية أخرى على التجارب الإنسانية عند مختلف شعوب الأرض من خلال ما يقرؤه في القصة أو الرواية. وهو إذا أتقن لغة غير لغته، فهي لغة أوربية أخرى، وقليلون جداً من القراء الأوربيين يتقنون لغة أخرى غير أوربية، وهذه القلة نادرة ندرة لا تذكر، وعالمية الأثر الأدبي لا تكون إلاَّ بلغة أوربية، أو مترجم إليها، يتقنها أعضاء هيئة الجائزة أو بعضهم، وأي إبداع أدبي آخرلن تكتب له العالمية، إذا ظلَّ مكتوباً بلغته غير الأوربية، وإذا كان من استثناء فلاعتبار آخر، لا صلة له بطبيعة الأثر الأدبي نفسه. وأنا لا أعتقد أنَّ أحداً من أعضاء الهيئة يتقن لغة غير أوربية، أي لا أعتقد أنَّ أحداً منهم يتقن بل يعرف شيئاً عن اللغة العربية، أو غيرها من لغات العالم الثالث. من هنا فإنَّ أيَّ رائعة أدبية، لا تدخل العالمية إلاَّ إذا امتطت جواد لغة أوربية، وهذا ما أغرى عدداً غير قليل من أدباء وشعراء وغيرهما ممن ينتمون إلى لغات غير أوربية أن يتخلوا عن الكتابة بلغات أوطانهم، ويكتبوا بلغة أوربية طمعاً في شهرة واسعة، وأملاً في الوصول إلى العالمية، والعالمية مغرية. ينتج عن هذا أنَّ اتساع أوضيق انتشارإبداع أدبي ما، تحدده لغة هذا الإبداع. وهي على كل حال مرتبطة بظروف البلد الذي تنتمي إليه. ولا يحلق الأثر الأدبي في الأجواء العالمية إلاَّ إذا كان مبدعاً يرفرف بجناحين خفّاقين هما: العمق والإنسانية، وهذا ما تؤكد عليه هيئة الجائزة.

الأدب العربي والعالمية

وإذا كان تكريم نجيب محفوظ يعني دخول أدبنا العالمية، فأكثر من سؤال يُلقى في هذا الصدد: ألم يدخل أدبنا العالمية قبل نجيب محفوظ؟ وإذا كان أدبنا دخل العالمية قبل هذا الأديب، فلماذا لم تُكَرِّمْ الهيئة من كانَ قبله من الأدباء؟ هل من تقصير؟ أين هو؟ هل في أدبنا العربي أم في هيئة التحكيم؟ إِنَّ لغتنا العربية، تعكس، بلا شك، وجه أمتنا، ولغتنا، كانت في عصر من العصورعالمية، لكنهّا اليوم محاصرة داخل كيان أمة تتطلع إلى الانعتاق من قيود التخلف الحضاري المزمن الذي ما زالت تئن منه، وتترنح فيه. وفي شعرنا القديم، كما في الحديث عمق وأصالة وإنسانية، وقد نطقت به السنة العرب القدماء فأجادت، وأبدعت، كما نطقت به الأعاجم، من أمم شتى، فتنتهم اللغة العربية عن لغاتهم المختلفة، فأجادت، وأبدعت لنا في الشعر روائع، كما أنّ لنا في النثر روائع، أبدعها أدبنا القديم، ترجمت إلى عدة لغات أجنبية، تأثر بها كثير من الأدباء الأجانب، وظلت البشرية تستمتع بها جيلاً بعد جيل؛ مثل رسالة(حي بن يقظان) والمقامات، وأعادت العبقرية العربية خلق ألف ليلة وليلة من جديد، مما جعلها تبتعد كثيراً عن أصلها الأول، وكانت في نهاية المطاف رواية عربية، عكست بجلاء، كالروائع السابقة، الحياة العربية، كما عكست نظرة الإنسان إلى الحياة. ويومذاك كان الأدباء والعلماء والفقهاء والفلاسفة وسواهم من غير العرب، يقبلون على إتقان اللغة العربية ليكتبوا بها، كما يقبل هؤلاء اليوم على إتقان إحدى اللغات الأوربية ليكتبوا بها. كانت لغتنا عالمية في وقت من الأوقات، كما هي حال اللغات الأوربية اليوم، وبعالمية لغتنا، بلغ أدبنا القديم العالمية، وكان العمق والإنسانية من أهمّ سماته. واليوم على الرغم من كلّ ما يعانيه أدبنا العربي الحديث من إشكالات ذاتية وأخرى موضوعية لا سبيل إلى نكرانها، وعلى الرغم من كلِّ ما عليه من مآخذ، فإنه يبدع الروائع تلو الروائع، ترجم كثيرمنهاإلى لغات أجنبية عديدة، جعلته يبصرطريقه بعمقه وإنسانيته إلى العالمية. هذه السمات تميز بها أدبُ نجيب محفوظ، كما تميز بها أدبُ غيره من العرب. جائزة نوبل لا تمنح إلاَّ للكتاب الكبار. والسؤال المشروع: ألا يوجد كتابٌ كبّار رحلوا، أوما يزالون أحياء، ولم ينالوها؟ بإيضاح أكثر: نجيب محفوظ أول أديب عربي نال هذه الجائزة. فلماذا نجيب محفوظ بالذات؟ ألم يكن غيره أو قبله أدباء عرب كبار يستحقونها؟ لا شك أنَّ في أدبنا العربي الحديث أعلاماً كباراً يستحقون جائزة نوبل على رأي نجيب محفوظ. فحين أخبروه بفوزه بالجائزة، تمنى لوأنَّ أحداً من أساتذته الكبار، نالها كطه حسين والعقاد. وهذا قول حق، فالعقاد كاتب عملاق، وطه حسين عميد الأدب العربي أديب، ناقد، مجدد، ولهؤلاء عدة كتب ترجمت إلى لغات أجنبية، بل إن رائعة طه حسين(الأيام) وحدها ترجمت إلى عدة لغات أجنبية، وفي أدبنا العربي أعلام آخرون غير قليلين، ترجمت آثارهم إلى لغات أوربية عالمية، أي إلى لغات هيئة التحكيم: ميخائيل نعيمة، ناقد، شاعر، مجدد، قاص، جبران خليل جبران، كاتب، أديب، شاعر، فنان، انتشرت شهرته في الشرق والغرب، كتب بالإنكليزية، وكتب بالعربية، وما كتبه بالإنكليزية غزا أمريكا وأوربا، ثم ترجم إلى العربية، وما كتبه باللغة العربية شاع في البلاد العربية، ثم ترجم إلى غير لغة أجنبية، أمّا عبقري الرواية العربية الطيب صالح فحسبه رائعته الشهيرة(موسم الهجرة إلى الشمال) التي ترجمت إلى غير لغة أوربية. وفي المغرب العربي روائيون وقاصون كبار كتبوا بإحدى لغات هيئة التحكيم، وكتبوا كذلك بلغتهم العربية ثم ترجم ماكتبوه إلى لغات أوربية. ومهما اختلفت مستويات هؤلاء الأعلام الكبار الذين ذكرناهم على سبيل المثال لا الحصر، أو تباينت مذاهبهم، ومهما تنوعت أساليبهم فيمارووا أو قصوا، وسواء أكان ما كتبوه باللغة العربية ثم ترجم إلى اللغات الأوربية، أوما كتبوه مباشرة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، فإنَّ آثارهم تخطت حدود المحلية، ودخلت العالمية. بل إنَّ أهمَّ ما كانت تلتقي عليه آثارهم جميعاً العالمية والعمق والإنسانية، وهذه هي المقاييس التي تتوخاها هيئة التحكيم في أي إبداع تمنحه الفوز. وقد فاز كثيرمن هؤلاء الأعلام بجوائزدولية مختلفة تكريماً لهم لما أبدعوه من آثار أدبية رائعة. المبدع العربي الطاهربن جلون من المغرب نال جائزة(الغونكور)الفرنسية، وهي جائزة دولية رفيعة، نالها في مطلع هذا العام 1988 عن روايته الأخيرة(الليلة العظيمة)، وقد ترجمت إلى اللغة العربية بعنوان(ليلة القدر) وعلى الرغم من ذلك كله لم ينل واحد من هؤلاء جائزة نوبل!!! فأين التقصير؟ أ من هؤلاء الأدباء العرب الكبارأم من هيئة الجائزة التي لم تلتفت إليهم؟

ماذا تطلب الجائزة من المبدعين العرب؟

ماذا تريد جائزة نوبل من الأدباء العرب على وجه التحديد؟ أتطالبهم بالإبداع أم تطالبهم بشيء آخر؟ إذا كانت تطالبهم بالإبداع كما تطالب غيرهم، فهم مبدعون حقاً بلا أدنى شك، وهم لا يقلّون عن غيرهم إبداعاً، إذا لم نقل: إنهم يتفوقون عليهم، فهم إذن جديرون بالجائزة، وإذن كان يجب أن يُمنح هؤلاء الجائزة قبل وقت طويل، أمّا إذا كانت تطالبهم أكثر من الإبداع، فإنَّ هذا المطلب الإضافي ينأى بالجائزة عن هدفها الحقيقي المعلن، كما ينأى بها عن النزاهة، ويهبط باختيارها إلى مستوى معين، يجعله عرضة لتساؤلات كثيرة.

رأي بعض المرشحين للجائزة في اختيارهيئتها

ومن الراحلين العرب أدباء كبار لم ينالوا الجائزة!! حين نال أديب فرنسا الكبير اندريه جيد جائزة نوبل، نصح هيئة الجائزة أن يلتفتوا إلى تكريم الدكتور طه حسين، لأنه يستحق الجائزة، ومضى أبعد من ذلك فقال: إنَّ طه حسين أجدر منه بها (1) فاعتراف أحد أبرز أدباء فرنسا المعاصرين أنَّ أديباً آخر أجدر منه لم ينل الجائزة بعد يعد دليلاً على أنَّ الهيئة إذا ما أنصفت أدباء فإنهاتعرض عن آخرين. بيد أنَّ ترشيح طه حسين، وهو أحد أهم كتّاب القرن الماضي إلى الجائزة، لم يقتصر على مستوى أدباء كبار كاندريه جيد، وإنما تعداه إلى المستوى الدولي، فقد رشحته إلى الجائزة هيئة إقليمية، هي جامعة الدول العربية، ومع ذلك صَمَّتْ هيئة نوبل أذنيها، فترشيح أديب كبير فائزبجائزة نوبل لنظيره الآخر من مصر، لا تعتدُّ به هيئة نوبل، وترشيح منظمة دولية لعلم بارز من أعلام الفكر والأدب، لا تلتفت إليه هذه الأكاديمية، والهيئة لاتنصف فئة إذا انحازت إلى فئة معادية لها، لا تفوقها عطاء وإبداعاً.. هذا منهج غير سليم، يسيء إلى سمعة الهيئة ذاتها، ويجعل الناس يرتابون في نزاهتها، وقد يبلغ الأمر عند بعض الأدباء أو المفكرين أو سواهم، أن يزهدوا في الجائزة، ويعرضواعنها إعراضاً يبلغ الرفض، وهذا ما حدث فعلاً: فقد رفض المفكر الوجودي جان بول سارتر، كما هو معروف، قبول جائزة نوبل العام 1964، وهذا الرفض كان حدثاً عظيماً، تجاوزت أهميته ترشيحه للجائزة، وكتب هذا المفكر إلى أمين سرالأكاديةالأسوجية ما حرفيته:(لقد علمت بأنكم تنوون منحي جائزة نوبل، لكنه لأسباب شخصية وأخرى موضوعية لا أرغب في أن أكون مرشحاً للجائزة لا لسنة 1964ولا بعدها)(2) وحين حصل غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للآداب عن رائعته:(مائة عام من العزلة) عام 1982أدرك أنّ جائزته الكبرى ربما تذهب لمن لايستحقها، فقال:(إنه لمن عجائب الدنيا حقاً أن ينال شخص كـ (مناحيم بيجين) جائزة نوبل في السلام تكريماً لسياسته الإجرامية التي تطورت في الواقع كثيراً خلال السنوات الماضية على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة. إلاّ أن الموضوعية تفرض أن نعترف بأنّ الذي تفوق على الجميع هو الطالب المجد آرييل شارون. ويقول عن اقتسام الرئيس أنورالسادات وبيجن جائزة نوبل للسلام:(الرجلان اقتسما الجائزة، لكن المصيرمختلف من أحدهما إلى الآخر:الاتفاقية ترتب عليها في حالة أنورالسادات انفجار بركان الغضب داخل جميع الدول العربية فضلاً عن أنه ذات صباح من أكتوبر1981 دفع حياته ثمناً لها. أما بالنسبة لبيجين فلقد كانت هذه الاتفاقية نفسها بمثابة الضوءالأخضر ليستمر بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيوني الذي لايزال حتى هذه اللحظة يمضي قدماً. أعطته الجائزة أول الأمر الغطاءاللازم حتى يذبح ـ بسلام ـ ألفين من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات داخل بيروت سنة 1982. جائزة نوبل في السلام فتحت الطريق على مصراعيه لقطع خطوات متزايدة السرعة نحو إبادة الشعب الفلسطيني، كما أ دّت إلى بناء آلاف المستوطنات على الأرض الفلسطينية المغتصبة. لا أحد عـانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني.. أنا أطالب بترشيح آرييل شارون لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذاقلت أيضاً: (إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل، أنا أعـلن عـن إعجابي غيرالمحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة)(4) ماذا يعني هذان الموقفان؟ أليس موقف هذا المفكرالبارزوهذا الروائي الكبيريعبّران عن احتجاجهما على منهج هيئة الجائزة في الاختيار؟ إنَّ هذه الجائزة منحت منذ أن تأسست عام واحد وتسعمائة وألف إلى عشرات الشخصيات، ينتمون إلى أمم شتى، بينهم يهود وإسرائيليون وصهاينة،إلاَّ العرب. وأكثر من ذلك، فالهيئة منحت خلال عام واحد فحسب أديبين يهوديين جائزة نوبل هما: جوزيف انيون ونيلي ساخزعام ستة وستين وتسعمائة وألف بزعم أنهما أبرزا تيارين في الأدب اليهودي. اثنان من اليهود ينالان الجائزة في عام واحد لإبرازهما تيارين في الأدب اليهودي، وكوكبة من الأسماء العربيةاللامعة في حياتنا الفكرية والأدبية جددت، وأبرزت أكثرمن تيارفي أدبنا العربي، تميزت آثارها بالعمق والإنسانية والعالمية، لم ينل واحد منهم الجائزة إلا نجيب محفوظ. اثنان من اليهود نالا الجائزة خلال عام واحد، وعشرات الأسماء اللامعة المبدعة في حياتنا الثقافية، لا ينال أحدهم الجائزة أكثرمن قرن!! لا شك أن المطلوب، إذن، من أدبائنا ومفكرينا ومبدعينا أكثر مما تعلنه هيئة الجائزة، فليس العمق والإنسانية والعالمية هو، وحده، مطلوباً من الأديب أو المفكر العربي، المطلوب، فضلاً عما تقدم، شيء آخر. فما هو يا ترى؟ قد لا تتوافر للدولة ولا للأفراد في الوقت الحاضر وثائق خاصة بهيئة الجائزة، تكشف أسرارها أو اتجاهاتها، إذا كانت لها أسرارأواتجاهات سياسية أو تكشف ما إذا كانت ثمة قوة خفية تكمن خلفها، تتحكم بها، أو تحدِّد مسارها، ولكن إلى أن تظهر مثل هذه الوثائق، إنْ وجدت، سيظل التخمين وكذلك القرائن سبيلنا للحكم على الجائزة.

لماذا تأخرت الجائزة على رائد الرواية العربية؟

جائزة نوبل للآداب منحت إلى الأستاذ نجيب محفوظ، والسؤال: لماذا نجيب محفوظ بالذات دون غيره من أعلام الفكروالأدب والفن؟ بل ماله نجيب محفوظ؟ ولماذا لا ينالها؟ ألا يستحقها؟ إنه، بحق، رائد الرواية العربية بلا منازع، بل عملاقها، وله فضل كبيرعليها، ومن مآثره مثلاً، أنه أغنى الرواية العربية، وأنه من دعاة اللغة الفصيحة، حيث طوَّعها للرواية العربية، دافع عنها يومَ كان غيره يدعو إلى اللهجات العامية، ولا يخفى على أحد أنَّ طريقه كانت في أول عهده شاقة وعرة حين اتجه إلى كتابة القصة أو الرواية، إذْ لم يكن أمامه يومذاك من التراث ما يرفد سبيله في هذا المجال إلاَّ قليلاً، ورغم ذلك شقَّ طريقه بجهد وصبر، فاجتهد، واستمر، وتطوّر، واغتنت تجربته إلى أن تربع على عرش الريادة في القصة والرواية، وطوّرهما، واغترف من نبعه الدّفاق القاصون والروائيون العرب من بعده جيلاً بعد جيل، ومازال ظله يهيمن إلى اليوم على الكثيرين منهم. نجيب محفوظ أغنى المكتبة العربية بإنتاجه الغزير الذي تجاوز الخمسين عملاًروائياً وقصصياً، ترجم إلى معظم لغات العالم، وتحوّ ل كثير مما ألفه هذا الروائي الكبير إلى أفلام سينمائية. مَنْ مِنّا لا يذكر ثلاثيته الشهيرة(بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) التي أنجزها في أوائل الخمسينات، وقد أشارت إليها المناهج الدراسيةالمقررة في بعض الدول العربية، وأنا لا أرى أنَّ روائينا الكبير يستحق جائزةَ نوبل فحسب، بل أرى أنَّ الجائزة تأخرت عليه كثيراً، فما منْ عربي إلاَّ ويفخر بنيل هذا الأديب الكبير الجائزة. وتكريمه إنمّا فخر للعرب كلهم وللأدب العربي على نحو خاص. وأسمح لنفسي أن أستعير من الشاعر سميح قاسم عبارته:(إنَّ منحَ نجيب محفوظ جائزة نوبل ليس تشريفاً لنجيب محفوظ، وإنما تشريف للجائزة نفسها.) ولكن متى كان يجب أن يكون التكريم؟ مما لا ريب فيه أنَّ روائينا الكبير بلغ ذروة إبداعه الأدبي في الخمسينات والستينات، كما بلغ في تلك الفترة أوج عطائه وإنتاجه الغزير، وكان يستحق الجائزة في تلك الفترة بالذات، كما كان يستحقها في تلك الفترة كذلك، وقبلها، أعلام آخرون في فكرنا وأدبنا العربي، وأنا أرى أنَّ هذا الأديب لو لم تكن له في تلك الفترة إلاَّ الثلاثية، لكفاه ذلك فخراً، ولكان بها جديراً بالريادة، بل لكانت الثلاثية وحدها خليقة بالجائزة. لكن، وبأسف لم ينلها وقتذاك، وهو في ذروة إبداعه وإنتاجه الغزير، ولم ينلها غيره من المبدعين العرب في مختلف مجالات العلم والأدب والفن... فما الذي مَيّزَ هذا الروائي الكبيرمن غيره من الأعلام الكبار، وجعله يختلف عنهم حتى يظفر بالجائزة آخر الأمر؟ هل من تغير طرأ على اتجاه هيئة الجائزة، أم التغير طرأ على اتجاه نجيب محفوظ؟

موقف نجيب محفوظ من اتفاقية كامب ديفيد

إنّ نجيب محفوظ أيد زيارة أنورالسادات إلى القدس المحتلة، وناصره في اتفاقية (كامب ديفيد) كغيره من مفكري وأدباء وساسة التطبيع، ودعا إلى التطبيع مع العدو بل إنه كان أكثرهم اندفاعاً، وأمضاهم عزيمة على مسلك هذه الطريق، وجاهر في موقفه هذا، فيما أبرق، أو كتب من رسائل، أو أذاع من آراء أو أجاب عن مقابلات إذاعية أو صحافية دون حرج أو تحفظ.

هل هيئة الجائزة مبرأة من الأهواءالسياسية؟

نال جائزة نوبل خمسة من العرب. أربعة مصريين بعد اتفاقية(كامب ديفيد)، وفلسطيني واحد بعد اتفاقية (أوسلو)، وهاتان الاتفاقيتان غير متكافئتين مع إسرائيل. نال ثلاثة منهم جائزة نوبل للسلام وهم: أنورالسادات (1988) وياسرعرفات(1994) ومحمد البرادعي (2005)، ونالها في الأدب نجيب محفوظ(1988)، وفي الكيمياء نالهاالعالم المصري أحمد زويل (1999)، اثنان منهم مقيمان في أمريكا، ويحملان الجنسية الأمريكية، وهما أحمدزويل ومحمد البرادعي.ولهؤلاء الفائزين علاقات مع اليهود أو الإسرائيليين أو الصهاينة إنْ على الصعيد الرسمي أوعلى الصعيد الشخصي. ويثب إلى الذهن سؤال مشروع: لماذا احتجبت الجائزة عن أدباء المقاومة الفلسطينية الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني لبلدهم فلسطين وفي مقدمتهم شاعر فلسطين الكبير الراحل محمود درويش على جائزة نوبل للسلام؟ من أولى بجائزة نوبل؛ الإرهابي الذي يجزر قرية كاملة، ويسعى إلى احتلال أراضي الآخرين بالقوة، أم المناضل الذي يسعى لاستعادة وطنه السليب، وتحرير الإنسان من الظلم؟ أناأزعم أنّ جائزة نوبل سينالها عرب آخرون بعدالخمسة المشارإليهم، لكنني لا أظنها تمنح لمن يناضل من أجل الحرية، ويتصدى لعدوان الكيان الإسرائيلي المغتصب وأطماع الصهيونية العالمية، أولمن يقاوم الظلم والعدوان في كل مكان حتى لو كان بلده يهادن إسرائيل مهما أوتي من عبقرية وإبداع. لاينالها من يرفض اتفاقيتي (كمب ديفيد)و(أوسلو)، ويناصرجهاراً كفاح الشعب الفلسطيني من أجل حريته واستقلاله. إِنَّ الجائزة حاصرت ثقافتنا العربية المعاصرة، وحاصرت ثقافة رفض الاستسلام لواقع الاحتلال والمشاريع الاستعماريةالمعادية للأمة العربية والإسلامية، وتجاهلت أعلامنا الكبار، وكرّمت أناساً ليسوا أفضل، ولا أشهر من أعلامنا، وهي لا تهدف من هذا التجاهل إلاَّ أن تجعل العرب يشككون بثقافتهم، ويتساءلون عن جدوى تطلعهم الحضاري، وهذا جزء من حصار أعم تفرضه علينا هذه الدول المعادية، ترمي من وراءه إلى جعل الأمة العربية ترفع لهم في نهاية المطاف راية الاستسلام، وتعترف لهم، صاغرة، بالتفوق عليها في كل جانب من جوانب الحياة، لا سيما الجانب الثقافي. ويعتقدالمرء أنّ المطلوب ـ عربياً ـ للحصول على جائزة نوبل مواقف مستسلمة لا متصدية، وحضارة تابعة لا أصيلة. وعلينا ـ نحن العرب ـ أن ننفض أيدينا من جائزة نوبل إذا لم يكن اختيارها حراً، وأن لا نقيس بها عالمية أدبنا أو ثقافتنا.

جوائزعالمية أخرى

ينبغي أن تبتعد الجائزة عن السياسة، وتلتزم الحيدة تجاه الجميع، وتقف أمامهم من مسافة واحدة، لايعنيها منهم إلاّ تفرد العمل المبدع والإنجازالعظيم في مختلف الميادين بغض النظرعن انتماء صاحبه العرقي أواللغوي أوالديني أو السياسي، هذا هو الغرض الذي من أجله ظهرت الجائزة، أمّـا إذا تأثرت بالأهواء والميول السياسية، فإنها تنحرف عن هدفها الحقيقي المعلن. والأنظار ترنو اليوم إلى جوائزعالمية أخرى أوجوائزعربية مثل جائزة الملك فيصل العالمية بفروعها المتعددة كالدراسات الإسلامية، والأدب العربي، والطب، والعلوم، وهي ثاني جائزة عالمية بعد جائزة نوبل أو الجوائز التي تقدمها جامعة الدول العربية أو التي تمنحها الدول العربية، كل دولة على حده، وقد فازبها كثيرمن أعلامنا.

 [1]

[1الإحالات:
(1) – جبرا إبراهيم جبرا – ملاحظات حول الأدب العربي والعالمية.
مجلة الدوحة – السنة الثالثة العدد 33 سبتمبر 1978 ص 22.
(2) – حديث الشهر – فضلو هدايا مدير تحرير مجلة (طبيبك)0
العدد 368 كانون الأول – ديسمبر 1988.
(3) ـ صحيفة صوت الشعب السورية. العدد196(1690) 11ـ 18تشرين الأول 2008


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى