الثلاثاء ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم أسامة عبد العزيز جاب الله

جماليات المفارقة النصية

قراءة بدائية في ديوان(مجروح قوي) لمحمد صبحي

يشير مفهوم المفارقة إلى الأسلوب البلاغي الذي يكون فيه المعنى الخفي في تضاد حار مع المعنى الظاهري. وكثيراً ما تحتاج المفارقة وخاصة مفارقة الموقف أوالسياق، إلى كدّ ذهن، وتأمل عميق للوصول إلى التعارض، وكشف دلالات التعارض بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الغائص في أعماق النص وفضاءاته البعيدة.
كما أن للمفارقة وظيفة مهمة في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، فهي في الشعر تتجاوز الفطنة وشد الانتباه، إلى خلق التوتر الدلالي في القصيدة عبر التضاد في الأشياء، الذي قد لا يأتي فقط من خلال الكلمات المثيرة والمروعة في السياق، بل عبر خلق الإمكانيات البارعة في توظيف مفردات اللغة العادية واليومية داخل

الخطاب الشعري.

وكثيراً ما تعد المفارقة على أنها لغة العقل والفطنة، وليست لغة الروح والخيال والشعر، وأنها عمل فكري وليس عاطفياً أوأثراً شعرياً خلاقا. إلا أن المتتبع للمفارقة وأنماطها البلاغية في الآثار الشعرية العظيمة، يجدها أنها لغته الحتمية وسلاح الشعراء الكبار في سجل الشعرية الكونية. فهي التي تحقق أعلى درجات التوتر في القصيدة، وبها نبلغ الحقيقة ونصل إلى لذة النص ودهشته. لذا يقول الناقد كلينسثا بروكس "أن الحقيقة التي يسعى الشاعر إلى كشفها لا تأتي إلا عبر أسلوب المفارقة" .

لقد وظف الشعراء الكبار من الغربيين المفارقة في شعرهم، أمثال شكسبير، واليوت، وبايرن وتوماس مان وبوب وكري وشيلى وفيليب سدني وغيرهم بالمئات، حتى لم تسلم قصيدة من قصائدهم إلا وضربت بطرف من أطراف المفارقة. كما وجدنا أن الشعر العربي قديمه وحديثه، اعتمد في بناء نسيجه على عنصر المفارقة وأن أغلب القصائد الشهيرة في الشعر العربي تعتمد في شعريتها وبنائها اللساني على المفارقة وعمودها الفقري التضاد. سواء أكانت مفارقتها لفظية أوسياقية. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن الشعراء الغربيين الذين اتصف شعرهم بالهجوم المباشر والبساطة في التركيب، وهما مظهران لا يصبان مباشرة في جوهر المفارقة، بنيت قصائدهم المشهورة على عنصر المفارقة، وخاصة المفارقة السياقية، كما هوالحال مع الشاعر الإنكليزي وردز ورث.

تقوم شعرية المفارقة بشكل أساسي على التضاد بين المعنى الظاهري والباطني. وكلما اشتد التضاد بينهما، ازدادت حدة المفارقة في النص.

يأخذ التضاد في مفارقة الأدب أشكالاً متعددة، فهوفي المسرحية قد يكون كوميدياً أومأساوياً، وفيه تتفجر العواطف والأفكار وتتقاطع، فقد تُضحك المفارقة بمأساتها، وقد تُبكي بسخريتها. ولا يعني أن المفارقة في الشعر، تقصر نفسها عند مبدأ التضاد فقط، بل تلجا إلى السخرية في كشف باطن النص الخفي، حيث يمتزج الألم بالتسلية، كما يؤكد ذلك أ. ر. تومسن، أن المفارقة لا تكون إلا عندما يكون الأثر نتيجة امتزاج الألم بالتسلية. وكثيراً ما تلجأ المفارقة في بحثها عن طرفي التعارض في الأشياء والأحداث، اصطناع الغفلة أوالتظاهر بها.

إن المفارقة جوهر في الأدب، فهي تعكس وظيفته النهائية التي تقوم على الصراع بين الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، المتصور والمألوف، الفاني والأزلي، ولأنها تعكس الرؤية المزدوجة في الحياة، فإنها خير ما يمثل الأدب، باعتباره تمثيلاً نقياً لما يجب أن يكون، تجاه الكائن (الموجود) الفاسد. أن المفارقة تخلق توازنا في الحياة والوجود، فهي نظرة فلسفية للحياة، قبل أن تكون أسلوبا بلاغيا، ندرك بها سر وجود التنافرات والتناقضات، التي هي جزء من بنية الوجود نفسه لذا يقول الناقد الكبير أ.اي. ريتشارد: " أن المفارقة استحضار الدوافع المتضادة من أجل تحقيق وضع متوازن في الحياة". فهي بهذا المعنى، ترفع الإنسان فوق معضلاته، وهمومه العصية في الكون، وتمنحه حرية التجاوز. لذا يقول غوته بهذا الصدد "أن المفارقة ترفع الإنسان فوق السعادة أوالشقاء، الخير والشر، الموت والحياة. وحين تتكشف لنا المفارقة في الحياة، تبدولنا الحياة على حقيقتها، فهي مرآة الحياة الصافية وهذا ما دعا توماس مان أن يقول أن المفارقة لمحة صافية، تتصف بالحرية والهدوء، وهي لمحة الفن الصافي نفسه.

إن حس الشاعر بالمفارقة لا يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في إطار المفارقة، بل في قدرته على إعطائها صورة في الذهن أولاً، ثم مطاردتها في الحياة والواقع. عندها يستطيع أن يتفاعل مع ما يحدث في الواقع ضمن مفهوم المفارقة. ليس كل شاعر يستطيع أن يتلبس فلسفة المفارقة، فهي ليست لباس خارجي، بل فلسفة ونظرة جوهرية للعالم وإذا لم يستغرق الشاعر فيها، ويتشبع بها، لا يجد فكره وشعره الطريق لها. وحين تصبح المفارقة عند الشاعر فلسفة وسلوكاً وشعوراً يستطيع عندها أن يلتقط أشتات المفارقة في الواقع والكون ويجمعها في منشور اللغة والشعر. لذا يجد الفطن من النقاد والأدباء والمتتبعين، إن المفارقة لا يقدم عليها إلا الشعراء الكبار ويفر منها من كانت تجربته بسيطة ومحدودة. فهي تحتاج إضافة إلى تحديد معالمها والتفاعل معها والشعور بها في الحياة اليومية، قدرة في تجسيدها لغة وشعراً وإحساسا.

والمفارقة نوعان رئيسيان، هما:
1- المفارقة اللفظية.
2- مفارقة الموقف أوالسياق.

ويمكن تحديد المفارقة اللفظية على أنها المفارقة التي يكون فيها المعنى الظاهري واضحاً، ولا يتسم بالغموض وذا قوة دلالية مؤثرة.وكثيراً ما يكون المعنى فيها هجومياً، وخاصة في شعر الهجاء.وهذه المفارقة يتعمدها الشاعر، ويخطط لها، عبر التضاد بين المظهر والمخبر.

أما النوع الثاني من المفارقة، وهومفارقة الموقف أوالحدث، فليس فيه صاحب مفارقة، بل هناك ضحية أومراقب. وبعبارة أخرى تعتمد المفارقة هنا على حس الشاعر الذي يرى به الأشياء والأحداث من حوله، وتصويرها بمنظور المفارقة، ويترك للمراقب (الإنسان) تحليلها واستنباط أبعادها الفلسفية والشعورية، وكشف خيوط تعارضها. ومن هنا تختلف المفارقة اللفظية عن السياقية في أن الأولى تعتمد في كشف حقيقتها أولاً على صاحب المفارقة (الشاعر). أما المفارقة السياقية فإنها تعتمد على المراقب أوالقارئ في استنباط وكشف التعارض بين المعنى الظاهري والخفي.

في المفارقة اللفظية يكون المعنيان الظاهر والباطن في مواجهة مباشرة على خلاف المفارقة السياقية أوالحدث التي تتطلب خفاء وعمقاً في البحث عن طرفي المفارقة داخل بنية القصيدة، وقد تحتاج إلى استنباط وتحليل لمجمل القصيدة أوربطها بسياق خارجي عن القصيدة نفسها، وهذا أكثر أنواع المفارقة.

المفارقة في ديوان ( مجروح قوي ) :

ترتكز شعرية محمد صبحي نصر على حدة المفارقة التي يصهر بها هموم الإنسان وحريته في إناء الوجود الإنساني، ويوزع مفارقته الشعرية بين الاندهاش والتعجب والسخرية وعلامات الاستفهام وأحياناً الهجوم المباشر.

تتكثف بلورات صوره الشعرية، وتترشح عبر ركني المفارقة(التضاد)، بتفاصيل الحياة اليومية، وتمتزج بألوان الأشياء، وملامح الأماكن، ونبض الشوق والحنين غير المنتهي للوطن. تضعنا شعريته عند مفازة التأمل، وسواحل الإبحار نحومحيط الإنسان اللا منتهي، بها نقطع مسافة الألم والشوق والدهشة بعد أن تتركنا في لجة التأمل والانفعال وتعود إلى أرض الساحل (الواقع) وحدها.

موسيقى قصائده تأتينا هادئة لكنها مشحونة بدفق شعوري طفولي، وتيار دلالي حزين. يفتح الشاعر نوافذ الحنين والشوق للوطن.

والديوان باختصار يمثل صرخة الإنسان (الشاعر) بوجه الحياة. وفي صرخته، ينتقل الشاعر من الوطن المحدود (مصر) إلى اللامحدود ومن الذاتي إلى الانساني. لذا ليس غريباً أن يأتي العنوان مطلقاً، ويمنح لفظة "مجروح" سمة العموم والتنكير ويبعدها عن ألف التعريف المقيد. ويعطيها بعداً انسانياً أشمل، ينطلق فيه من وطنه المقيد الجريح الى رحاب الانساني الذي يتماثل معه، وتنتهك فيه الحريات، ويشهق فيه الانسان قهراً وموتاً.

يقيم الشاعر عبر العنوان المنتقى بشاعرية فائقة مفارقته بين الجرح وشدته، عبر التضاد أوالتوازي على حد مصطلحات ياكبسون. والمثير من توازي العنوان، أنه ضم طرفي التوازي، وهما التوازي الايجابي والسلبي في آن واحد وبعبارة أخرى أن التوازي في عنوان الديوان أخذ فضاءين، وهما الفضاء المكاني (الأفقي) والفضاء الدلالي (الرأسي). فعلى مستوى التوازي المكاني، جاء التوازي الايجابي في العنوان بين لفظة "مجروح" و"قوي" كي يكشف علاقتهما من حيث حجمهما وشموليتهما وبعدهما الأفقي. وهذه الصرخة من ( الجرح ) نفسها دخلت في تواز سلبي من الناحية الدلالية مرة ثانية، كي تعمق عظم المأساة التي توحيه دلالة الوصف الذي لا يحمل حدوداً معنية. وبذلك أضاف التراكم الدلالي للفضاء الأفقي في التوازي الايجابي، بعداً دلالياً للتوازي السلبي داخل العنوان وترشح فيه وعمق من فجوة التضاد بين حجم الجرح وقوته.

مفارقة العنوان :

شكل العنوان الذي حمل بذور توازيه (التضاد) الذاتية (السلبية والايجابية) إضاءة للنص مما كشف الغطاء عن دلالات القصائد وأشعل لهيب التضاد والتوازي في داخلها.

يفتح الشاعر نوافذ الحنين للوطن في قصيدته "جرح الوطن ". وقد شكلت هذه القصيدة مع قصيدة " مجروح قوي "وقصيدة " قلب جريح " وقصيدة " شرخ " نقاط الاستقطاب والربط الدلالي مع عنوان الديوان"مجروح قوي ". لذا جاءت كلها محملة بحس شاعري غني. وهذا ما عبر عنه جيرار جينت بالنص الموازي، الذي تشتد فيه علاقة العنوان بالنص وتتشابك. والحقيقة أننا لوتأملنا التوازي الدلالي بين القصيدتين "قلب جريح " و"جرح الوطن" من ناحية وعنوان الديوان "مجروح قوي " من ناحية ثانية نجد أنه يتوزع على مسارين، شأنه شأن التوازي في العنوان نفسه. المسار الأول وهوالتوازي الايجابي بين دلالتي الجرح والألم. فالعلاقة الدلالية بينهما يطلق عليها بالدلالة التلازمية، وتقوم على مبدأ الاستدعاء. في حين تقوم دلالتا القلب والوطن مع دلالة لفظة ( الجرح) في العنوان، على العلاقة السلبية (الانكسار). يضاف الى ذلك أن فضاء دلالة ( جرح ) مفتوحة مثل الجرح نفسه، مما أعطى لهذا التقابل الدلالي المضاد، تعادلاً نفسيا، ساهم في تكريس فجوة الدلالة بينهما.

مفارقة اللفظ والمعنى :

تتوزع مفارقة قصيدة " جرح الوطن " بين المفارقة السياقية واللفظية. وتأتي مفارقة الشاعر اللفظية عبر حدة التضاد يقول:

حدّد ملامحك يا وطن..
أصل التفاصيل اتمحِت..
بين السطور
ليه اتبنى بينّا وبين هذا الوطن..
جوّانا سور ؟
وطنّا ليه صابه العمى ؟!
ولاّ البلاد دي اتحنّطت
فيها الذمم..
والكلّ صار للأجنبي..
ابن الغبي..
ولاّ أنا طلعتْ الغبي ؟
علشان أحقق مطلبي
لازم أطاطي للعمم..
ليه الوطن صابه البكم ؟
يا أيها الوطن الذي مليان جراح !!
ليه كل شيء ف حياتنا
أصبح مستباح ؟!
وبراح براح
عمّال يضيق..
أصبح خنيق....

يعتمد الشاعر أسلوب التراكم الدلالي للتضادات الفرعية داخل نسيج القصيدة، للوصول الى قمة المفارقة السياقية التي تنتجها القصيدة ككل. فهوهنا يضيف للتضاد الذي بدأه بين الوطن والملامح التي مُحيتْ وكذلك بين البراح الذي يضيق ( أصبح خنيق ) ليقف عند مفارقته السياقية التي يضيء طرفها سطر القصيدة الأخير.

وبراح براح
عمّال يضيق..
أصبح خنيق....

أما طرفها الثاني، فينبثق من سلسلة التضادات التي تراكمت في القصيدة، وأولها، تضاد الوطن المعرّف وضياع الملامح، لتنتهي أخيراً بين مفارقة الوطن البراح والوطن السجن، وما بينهما تقع مسافة الإنسان والهوية.

والملاحظ في شعر محمد صبحي نصر أنه لا يعتمد فقط على التضاد الدلالي في إقامة طرفي المفارقة، بل يعتمد على الموسيقى الداخلية المنقولة إلينا عبر التشكيل اللغوي (الصوتي)، وتفاوت طرفي التضاد في تركيبهما الصوتي الفيزيائي الذي تعود له الموسيقى الداخلية.

إن فجوة التضاد بينهما تعود الى الموسيقى الداخلية وارتباطها بدلالة المتضادات في القصيدة.

وبراح براح
عمّال يضيق..
أصبح خنيق....

كشف السطر الأول هنا، الذي شكل مركز التضاد فيه تفاوتاً في البناء اللغوي (الصوتي ، ارتبط بالمسار الدلالي له وقد انعكس هذا التفاوت على الموسيقى الداخلية، عبر مسار التنغيم والوضوح السمعي، وطبيعة المقاطع الصوتية فيه.
من أجل أن تتوضح الفروقات الصوتية في بناء السطر، وارتباطها في دلالة المتضادين، يمكن تقسيم السطر الى قسمين رئيسيين :

 الأول: براح براح (طرف التضاد الأول).
 الثاني: عمّال يضيق..(الطرف الثاني).
أصبح خنيق.... (مسافة التضاد).

مرتكزات الوضوح السمعي (الموسيقى الداخلية) في الجزء الأول من السطر جاءت من الصوائت (الألف) ومن الأصوات المائعة (الراء) وهذه الأصوات التي سادت في هذا الجزء، تمتاز بطبيعتها الفيزيائية الناعمة التي لا ضجيج فيها، وتظهر طاقاتها الصوتية وحزمها على شاشة الرسم الطيفي في المركز، مما يعطي تشكيلها إيحاء يتفق الى حد ما مع مشهد البراح والحرية.

في حين أن لفظتي " عمّال يضيق" طرف التضاد الثاني، ضمت أصواتاً حادة خشنة ( الميم والضاد والقاف)، وخاصة لفظة "خنيق"، ومن الناحية الصوتية الفيزيائية المختبرية، فإن الطاقة الصوتية في لفظة "خنيق" تتسم بالعشوائية والتشتت وفيها ضوضاء وتمتاز حزمها الصوتية ببداية حادة. وهذا ما أعتقد أنه يمنح اللفظة إيحاء دلالياً. لذا تقف اللفظتان المركزيتان في السطر، البراح و( يضيق ) في تضاد صوتي وتنغيمي وموسيقي أيضاً، مما يعزز التضاد الدلالي المعجمي بينهما، ويزيد من حدته وشراسته.

تلك نظرة تأملية عاجلة لسطور هذا الديوان أملنا فيها أن نقف على العتبات النصية فيه، ومنها نلج إلى دروبه الجمالية، ولعلنا نعاود النظرة فيه مرة أخرى بصورة أشمل للوقوف على تلك العتبات والجماليات.

قراءة بدائية في ديوان(مجروح قوي) لمحمد صبحي

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى