الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم حبيب فارس

جوديث رايت : رائدة في الشعر الأسترالي المعاصر

تعتبر جوديث رايت (1915 - 2000) من أهمّ روّاد الشعر الأسترالي المعاصر، إذا لم تكن الأهمّ. وعلى الرّغم من أنّها نشأت وترعرعت في كنف أسرة ريفية محافظة تمتد جذورها إلى أوائل المستوطنين البريطانيين، إلا أنها خرجت منذ طفولتها عن تقاليد العائلة، التي وكمعظم الأستراليين المتحدّرين من أصول بريطانية، آنذاك، كانت علاقاتها وولاءاتها لكل ما هو إنكليزي بمثابة فعل الإيمان. فعلى العكس من والدها، مثلا، الذي عمل متطوعاً من أجل التصويت بنعم في الإستفتاء حول التجنيد الإجباري، كتبت رايت العديد من القصائد ضدّ الحرب ومن أجل السلام. ومع حبّها وتعلّقها العظيمين بوطنها أوستراليا، كان لها دوراً ريادياً، بالكلمة والفعل، في فضح المآسي التي ألحقها المستعمرون الإنكليز ليس بحق السكّان الأصليين وحسب، بل وبإيكيولوجيا وبيئة القارّة، التي وبحسب رأيها ورأي الكثير من العلماء والمثقفين، لم تكن لتتحمّل "غلاظة" نمط الحياة الأوروبي، مثلما هي لم تكن قادرة على توفير المناخ لمثل هذا النمط . كانت أستراليا دائماً بالنسبة لـرايت، القارّة المنسجمة أكثر مع أبنائها الأصليين، الذين بدورهم يتقنون التعامل معها بلطف والحفاظ عليها. وكما تقول الكاتبة جوان ويليامز فإن قصائد رايت"عاطفية ، غارقة في حب بلدها وشعبها وأصبحت تمثل صوت وضمير الأمة. فلقد رفضت الى النهاية ان تتخلى عن التزامها العلني بالمصالحة مع السّكان الاصليين".

إلى ذلك، لم تترك رايت باباً إنسانياً، محلّياً وعالمياً، إلاّ وطرقته بأشعارها الخالدة وبمواقفها العملية. فقد دافعت بلا هوادة عن الفقراء، عن العدالة الإجتماعية، عن حقوق المرأة والطفل، تعاطفت مع الشعوب المقهورة مثل الشعب الإسباني إبّان الحرب الأهلية ضد الفاشية ووقفت ضد النازية ودانت القاء القنبلة الذرّية على هيروشيما. لقد أحبّت تراث شعبها والتراث الإنساني عامّة. تقول فيرونيكا بريدي، كاتبة مذكرات رايت "مبدئياً فإن نفسُ رايت كانت معارضة. لقد خاضت مباراة ضد تيار الزمن، ضد التكنولوجيا ودمارها للبيئة، ضد الحرب وانتهاك إنسانيتنا ، ضد فقدان الذاكرة التاريخية التي تحكم على ماضي هذا البلد وسكانه الأصبيين بالنسيان. يمكنك الإعتقاد، بناء عليه، أنها عاشت حياتها مجيبة علىالسؤال الذي طرحه ’هييديجر‘: ’لماذا الشعراء؟‘ من الممكن أنها وزوجها الفيلسوف ، جان ماكينّي، قد قرءا هذه الدراسة، رغم أنهما قد يشكّا في الإنتماء النازي لهييديجر".

نشرت رايت أول دواوينها الشعرية في العام 1946 بعنوان" صورة مثيرة للمشاعر". ومن دواوينها المنشورة لاحقاً" امرأة ورجل" (1949) ، "بوابة" (1953) ،" نارَينْ" (1955) ، "طيور" (1962)، "الحواس الخمس" (1963) ، "النصف الآخر" (1966) ، "على قيد الحياة : قصائد 1971" (1973) ، "الفصل الرابع وقصائد اخرى" (1976)، "سراب" (1985). ونشرت "أعمالها الكاملة 1942-1970" في عام 1971. كما وأن أشعارها نشرت في مجلّد "نموذج انساني : قصائد مختارة"(1966).

ألى ذلك فقد كانت رايت ناقدة شعرية فذّة. وتعتبر دراساتها عن الشعراء الاستراليبن في برنامج "الكامل في الشعر الاسترالي" (1965) إسهاما كبيرا في التاريخ الأدبي الاسترالي . وقد نشرت الشاعرة مجموعة من المقالات الادبيه والمراجعات تحت عنوان " لأنني دُعيت" صدرت في عام 1975. كما نشرت سرداً عن تاريخ عائلتها بعنوان "أجيال من الرجال" (1959) وأخر بعنوان"البكاء على الميت" (1981). ومن كتاباتها عن حقوق السكان الأصليين " ندعو الى معاهدة" (1985)، "مولود الفاتحين" (1991) و"الذهاب الى الحوار (1992)".

وككلّ الروّاد ، غزلت رايت أشعارها على نول من صناعة محلّية أنتجه تراث خاص بأستراليا وحدها. فصدقها مع الذات وإخلاصها لهذا التّراث، شغلاها عن النزوع إلى العالمية، وهذا ما يمكن أن يفسّر ندرة أعمالها المترجمة للغات أخرى. إذ هذا الأمر، يتطلّب من المترجم معاينة دقيقة للبيئة التي أنتجت الشاعرة، والغوص العميق في عالم قصيدتها مضموناً وشكلاً، لالتساقها بثقافة لها مفرداتها اللغوية، التقنية والجمالية الخاصّة . ففي قصيدتها أدناه "جنوب أيامي" التي تعتبر من روائع قصائد الشاعرة، سيكون على الإنسان الذي لم يتعرّف على الرّيف الأسترالي وماضيه، تاريخ السكّان الأصليين، المزاج الأسترالي وروحه المرحة، نمط حياة المستعمرين البيض الأولين ومفرداتهم اللغوية، طرح عشرات علامات الإستفهام حول ما تقوله رايت في قصيدتها وكيف. لكنّك إذا شاهدت بأمّ العين الطبيعة الأسترالية التي أنهكها المستوطن الأبيض، تلك "البلاد الخالية، الهزيلة، الجائعة" وتلك الجداول المتنشّفة التي حلّت أوراق الأشجار البريّة مكان مياهها، وإذا كنت تعلم بأن المسافة التي كان على الختيار" دان" أن يقطعها مع المواشي من" تشارلفيل" الى " ماكينتاير" تزيد عن الألف ميل، وإذا كنت على دراية بالميثولوجبا الأسترالية التي من أعمدتها الرئيسية التمرّد على السّلطة وعدم احترامها، وما يمثّله في هذا السياق، قاطع الطرقات " فرادْ ثاندربولت" و"غمزة’ دان‘"(التي بحد ذاتها تعني الكثير في التراث الأسترالي) اليه للإنصراف قبل أن تقبض الشرطة عليه، وإذا كنت مطّلعاً على تاريخ الهجرة غير البيضاء الى أستراليا وعلمت أن" الصبي الأصفر" الذي مات من شدّة الحرارة وعُرف أنه مات من كثرة الذباب، ما هو الاّ صبيّاً صينياً. إنه لو تسنّى لك كل ذلك لاختلفت قراءتك كلّياً لقصص الختيار دان ولكامل القصيدة التي بين يديك وغيرها من قصائد رايت .

وعندما تقرأ قصيدة واحدة من قصائد جوديث رايت سيكون بإمكانك التّعرف على قصائدها الأخرى دون توقيع. إذ أنه من مميزات قصيدتها، قصيرة كانت أم طويلة، أنها تتضمن أكثر من موضوعاً واحداً ، استخدام حذق لأدوات التناوب بين المباشرة والرمزية ، المجاز، الإستعارة ، التشبيه، السخرية والمرح، الصور والوصف الرمزيين، المزج بين الفصحى والعامية الحاضرة والقديمة، استخدام الأساطير القديمة وغالبا ما تستخدم العشوائية في بناء القصيد ة فتنقلنا من منطقة إلى أخرى في عالمها الرّحب لتعيدنا ثانية أو أكثر إلى نقطة الإنطلاق ذاتها. كما تتميز معظم قصائدها بالتناوب على الكلام بين شخص الشاعرة وشخصيات أبطالها. ناهيك عن أنّها مع استخدامها في بعض قصائدها البناء الكلاسيكي للقصيدة الإنكليزية، فإنها خرجت في معظم أعمالها عن هذا المألوف لتستعيض مثلاً عن آليات السطر المعهودة وعن القافية وموسيقى الأوزان، بآلياتها الحرّة وبموسيقى المعنى واللفظ لمفرداتها وجملها الشاعرية المختارة بمهارة. فاكتسبت بذلك، عن جدارة، فرادة وخصوصية رياديتين في عالم الإبداع .

جنوب أيامي
دائرة جنوب أيامي، جزء من بلاد دمي
تلك النُجد تستيقظ شامخة كاشفة برقّة
المنحدرات النحيلة جافلة تحت الشتاء ،
الأشجارالمنخفضة، زرق الأوراق و الزيتون(1)، الغرانيت الناتىء –
البلاد الخالية ، الهزيلة ، الجائعة. الجدول المليء بشرائح ورق الأشجار ،
المختنق بالصفصاف ، التين و المشمّلة البريين(1)
المتشعبة لأعلى وأسفل ،المبقعة بأشنّة خضراء ؛
والكوخ القديم المترنح بحثا عن مأوى .
 
أه من الليل الصقيعي – المظلم. الجدران تبحث عن الدفء
ومفاصل السقف العتيق تطقطق ؛ رشح المغلاة
المتدلية يهسهس على النار. من الصعب التصديق بأن الصيف
سيعود من جديد يوماً من الايام في موجة من الورد المتعرش ،
يطل بوجهه الحارالى هنا ليروي حكاية أخرى –
حكاية يمكن للختيار دان(2) أن يغزلها بطانيه ضد الشتاء .
سبعون عاما من الحكايات يختزنها بعظامه ،
سبعون عاما تسكنه مثل العسل القديم.
 
خلال تلك السنة ، من تشارلفيل(3) الى هانتر(3)،
تسعة عشر وواحد كانت ، والجفاف قد بدأ ؛
بقي منهم ستون رأساً في ماكينتاير(3) ،
الوحل تصلّب حولهم كالحديد ؛ ومات الصّبي الأصفر
في العربة التي تتقدمهم مع العدّة ، لكن الحصان ظلّ متابعا،
توقف في مخيم ساندي(3) في انتظار المساء.
ما رأيناه أولاً هو الذباب ، يعج كالنحل.
نصل الى هانتر(3) ، مع ثلاثمئة رأس من أصل ألف –
من الوحشية إبقاءهم على قيد الحياة – والنهر كان غبار .
او حتى التعامل في الخريف مع فراشات البوغونغس(4)
عندما تأتي العواصف باكرأً. تحملها معها؛
الفجر، لم يحلّ بعد. او سائقا في شركة كوب(5)
من تامورث(3) – ثاندربولت(2) على قمّة تلّة هانغري هيل(3)،
وأغمزه. لن أنتظر طويلا ، فراد(2) ،
لو كنت مكانك. العسكر خلفنا تماما ً،
قادمون للقبض عليك في تلّة هيلغروف(2). هرب كالمجنون ،
على حصانه الأسود الكبير.
 
آه، لقد انسلّت واختفت
بينما هو يخلط السنين مثل علبة بطاقات مشعوذ.
صحيح أم لا ، لا فرق؛ والصقيع على السطح
يضرب مثل السوط ، والحطب يتحوّل الى رماد.
إصحى أيها الختيار. إنه الشتاء ، والحكايات انتهت.
لا أحد يود السّماع
الى الجنوب من دائرة أيامي.
أعرفها سوداء ضد النجوم، البلاد العالية الهزيلة
ملأى بالحكايات القديمة التي لا تزال تتمشى في نومي .

الهوامش

(1) إشارة إلى نباتات بريّة

(2) إشارة إلى أسماء وألقاب

(3) إشارة إلى أماكن

(4) نوع من الفراش الرمادي الموسمي الكثيف وغير المرغوب في أستراليا

(5) شركة نقل لا زالت موجودة بعدما تحوّلت من عربات الخيل الى الحافلات الحديثة

مراجع

 برايدي، ف، حياة جوديث رايت :
WWW.nla.au/events/doclife/brady.html

 برغ، م. جوديث رايت
ساينس بريس، أستراليا

 رايت، جوديث ، قصائد مختارة، الحواس الخمس :
أنغوس و روبرتسون،أستراليا

 سيرة جوديث رايت :
www.lyrikline.org/index.php?id=162&L=4&author=jw01&show=Bio&cHash=
d8e1885d3f

 معنى الحياة : جوديث رايت – أشعار جوديث رايت :
www.poemhunter.com/judith-wright/

 وليامز،ج، – جوديث رايت :
صحيفة "الغارديان" الأسترالية 5/7/2000


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى