الأربعاء ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبد المجيـد إبراهيـم قاسـم

جودي جبل المقاصد. . . قصائد مصبوغة بلون الحزن

عن "دار الينابيع" بدمشق صدرت المجموعة الشعرية "جودي جبل المقاصد" من الشعر الكردي المعاصر, والعمل مترجم عن قصائد منتقاة من مجموعتين شعريتين للشاعر " كوني ره ش" وهما: " DERGEH> JIN / EVIN/ بوابة الحياة والحب" و " EY WELATO / أيها الوطن" وقد قام بترجمة الإصدار الأستاذ "هجار إبراهيم".

حملت قصائد المجموعة جملة مشاعر وأفكار يحملها الشاعر, ويحاول جاهداً إيصالها للقارئ بمنتهى الشفافية والوضوح, فيطلق من خلالها لروحه العنان وتهيم في فضاء اللا حدود, باحثاً عن الحقيقة, لاهثاً وراء قيمٍ تنشدها ذاته الشاعرة, قيمٍ كالمحبة والحرية وقدسية الحياة. ويسعى للإفصاح عن أحاسيسه, والتي تغوص عميقاً في نفسه, وأن يدرك تلك الأحاسيس بالكلمة, وإن كانت عصية, معتمداً في ذلك على مجموعة أدواته التي أستخدمها بحرفية عالية.

يبدأ الشاعر بإهداء رقيق متميز, ويصنع من كلماته باقة زهور يقدمها لمن كانوا الأقرب لنفسه وروحه, ليعبّر عن وفائه لهؤلاء الذين ذهبوا في فراق أبدي, ومن ذهبوا إلى فراق طويل تلك الفراقات التي أصبحت منبع آلامه وأحزانه ومصدر إلهامه وإبداعه, ثم يتابع إهداءه... وإلى كل دعاة الحرية والسلام والصداقة بين الشعوب. اصطبغت مجموعة القصائد التي احتواها الإصدار بصبغة الحزن, وجاءت مشبعة بفلسفة الألم, متضمّنة الكثير من الإيحاءات التي عكست جراحاً مترامية عاشها الشاعر بذاته, وملمحّة إلى إرهاصات معاناة طويلة لإنسان سكنته الفجيعة فنراه يقول:

وإلى الآن/ عندما يفتح باب غرفتي فجأة/

أرتعش. ./ برؤيا خيالك أمامي/

لو عرفت أنك سترحلين. .‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!/

لودعتك أنا. / ص 54 /

ويقول في القصيدة المعنونة بـ "مع السلامة. . . أخي"

ربما يكون هكذا قدري. ./ كلما أرى عشّاً/

يأتي الغراب الأسود ويدمّره/ كلما أثبت خيمة

تحاول الثعالب والضباع نزع أوتادها/

وكلما أبني كوخاً/ يحدث زلزال ويهدم كوخي. / ص 58 / .

وبآلامه تلك يحاول الشاعر أن يختزل معاناة شعب بأكمله ويختصر فجيعة أمة برمّتها حين يقول:

على شواطىء الحياة/ صار قلبي ميناءً/

للعذاب والأحزان/ أصبح عشّاً للهموم والأوجاع/

ترسو إليه/ كل السفن التائهة ولا تزال تقصده/

فتعالوا/ واجمعوا/ بين جراحات قلبي فالقلب كبير/

والمكان رحب/ وفسيح. ص / 15 / .

فالشاعر مشغول بقضية شعبه أكثر من أي شيء آخر, وهو المتمسك بأرضه رغم النكبات والمحن, وهو العاشق والمعتز بلغته. . . لغة آبائه وأجداده:

لأجل شعبي ضحيت بحياتي/ وقضية شعبي هي غايتي. ص / 33 /

لو رحلت أنا أيضاً/ فمن الذي/ سيقلّب تراب هذا الوطن/

كأمّي التي كانت تقلِّبه/

صباح مساء/ في جمع القش والحطب. ص / 35 / .

وأملي هي اللغة/ لغة الآباء والأجداد/

لأن فيها يكمن وجودنا. ص / 33 – 34 / .

وتبدو عبر بوحه الإنساني - معشوقته الحرية - بادية العيان لكنها أكثر ما تكون بالتلميح وليس بالتصريح:

أرحل يا أخي/ مع السلامة/

أرحل/ فالطير مع سربه سعيد/.

وإن الشاعر "كوني ره ش" الذي استطاع أن يتوغل في أعماق النفس الإنسانية وأن يتلمس جرحها الغائر, يحاول مراراً أن يزيل الحواجز فيها, وأن يضيء الشموع في عتماتها من خلال دعوته للإنسان بالعودة إلى سجيته التي خلقه الله عليها مستعيناً بالحكمة والكلمة الحسنة:

لا أحد يريد أن يموت/ مع أننا سنموت جميعاً. . ./

ولكن ستبقى آثار صنفين من البشر/ ستبقى ولن تفنى/

لأنه سيسجّل بالأبيض والأسود في تاريخ الشعوب. ص / 19 / .

وبالحكمة أيضاً يثور الشاعر على قيم المجتمع الفاسدة ويلقي بالبينة على المسيء والجشِع: / خرابو/ XERABO / في سرّك يكمن سرّ وجودي/

خرابو/ مهما أخفيت وجودك/ مهما حاولت إضلالي/

فأنت ترفع من قدري/

وتجعل نجمي أسطع وأكثر ألقاً./ ص 70 - 71 / .

أيها الثري/ يا أسير المال و الملذات/

أتعلم مثلي/ كم أُسراً تنام أفرادها/ على بطونهم دون عشاء/

احترس. .! / ذات يوم/ ستبتلعك هذه القافلة/

ستضيع بين أقدامهم./ ص 72-73/ .

وهناك أيضاً من الحكمة تلك التي استخلصها الشاعر من تجارب الحياة:

صديقي/ الصداقة لا تأتي في كل زمان وحين/

الصداقة أنا وأنت/ وهي الحياة بكل معانيها/

الفراق أيضاً يكشف سرّ الصداقة/

حلوها../ ومرها./ ص 37 /.

أجل هذه هي الحياة..؟/

على حقيقتها تمضي ولا حول لنا/

وليس أمامنا سوى الانتصار أو الهزيمة/

بين العدم والوجود/

لكن العظيم حقاً هو من يقدم/ فناً... وصناعةً/

ويدلُّ الآخرين على طريق الخير./ ص 50 /.

ويتناول الشاعر أيضاً العديد من الظواهر الاجتماعية التي ينتجها المجتمع الذي يعش فيه: هل أهاجر أيضاً..؟/

وأتشرّد في شوارع أوروبا/

أقتات من بقايا الفتات. ص / 36 / .

ونجد الشاعر يحاور الطبيعة, يتألم معها, يشاركها الآلام والآمال, فتارةً يبثّها أحزانه وتارةً يعاتبها ويلومها وتارة أخرى يبدع في وصف عناصرها بغاية الروعة والعنفوان:

وخلسةً/

امتدت عينيّ صوب السماء/

وجدت القمر والنجوم يتبادلان الابتسامة

دون أن يعيراني أي اهتمام. ص / 26 / .

بالله عليك يا جبل المقاصد/

هلا حملت بعض همومي/

وخففت بعض آلامي. ص / 49 /

يا شجرة البلوط/ ألا تخجلين من ذلك التراب/

الذي أنبتك/ تمايلي/

فالمشاركة بآلامهم ضرورية ص / 85 - 86 / .

في عين ديوار/ على شاطئ نهر دجلة/

تحت ظلال أشجار التين/

يصفر الريحان بين نكهة النعناع البري وشيئاً فشيئاً/

تتساقط أوراق أزهار نيسان. / ص 52 /

ما زالت جبال وطني/ شامخة. . ./ بضبابها ودخانها/

بصمود أحجارها/ ومنحدرات وديانها. ص / 45 / .

إن شاعرنا دائم البحث في حقول الكلام, ينشد السعادة في قمة الألم, فرغم الحزن والضياع والخيبة فإنه يبعثر المحبة أينما حلّ, ويزرع الأمل والتحدي حيثما أقام:

يا ابنة العم..! / طابت ليلتك/ لا تتفاجئي فأنا عاشق/

عاشق أنا يا ابنة العم! / ليس لدي ما أخفيه عنك/

وإن كان لدي سرّ / أبوح به/ فإنه بلا شك/

حبي هذا. . . هو لكِ./ ص 27 - 28 /.

كما أنه يقودنا إلى واحة تملؤها الطموحات والأمنيات التي تكاد تملأ السطور وما بينها:

يتحرّر الشعب المسحوق يوماً/

وتعود الخراف إلى ثداء أمها/

ستزهر أشجار البلوط/

ويستريح الرعاة تحت ظلالها الطويلة. ص / 44 /

أنه شاعر الحنين وينثر عطور الحياة فوق أبياته ويصوغها بمنتهى العذوبة, يسافر في فضاءات شاسعة من الألحان والصور, يتلاطم كالبحر حيناً وينساب كالينبوع أحياناً أخرى, إنه الشاعر المسكون بالأوجاع والأحلام:

يا وطن. . !/ كفى . . . بعداً/

لا تسألني عن العشق ومواعيد اللقاء/

فلم تعد أغنية - الفتاة السموقية - تهز كياني/

لم تعد تأتي بالأحلام والخيالات كما كانت/

فقلبي يتمزق إرباً. . إرباً. ص / 42 /

ثم نجده يقول: كنرجسة مرمية تفتحت للتو/

خدها أحلى من العسل/ نظرتها أعمق من البحار/

وقدّها ممشوق/ ص 65 / .

يتضح لنا عند الانتهاء من قراءة القصائد وبشكل جليّ مقدرة الشاعر - من خلال ما ينقله من مكنونات روحه مستعيناً بمخزونه العاطفي - على تحويل المأساة إبداعاً وصياغتها لوحات تعبيرية غاية في الجمال والأناقة وهو الذي عاش المرارة وفاضت من أعماقه ينابيع الحزن والأسى, ويدرك جيداً كيف يضفي الروعة خلال بحثه الحميم عن ترجمة رغباته المكتومة التي تضمرها كلماته. لقد مكّنته مطواعية الكلمات لديه, وسلاسة التراكيب وعذوبة المفردات أن تنأى به عن الرتابة والتصنّع في الكتابة, كما أن تنوّع الرؤى وتدفق الصور التي يستقيها من بيئته الكردية, فتح فضاءات داخلية وموسيقا ساحرة أمام قصائده, ومنح شفاهية التناغم بين المبنى والمعنى.

وبذلك استطاعت القصائد التي احتواها الإصدار أن تنفذ إلى أعماق الروح, وان تجتاح مضامينها الأفئدة, دون أن تشعرها بمثالب الانتظار, كما أن العاطفة التي امتازت بالصدق والخيال الخصب, مكّن "كوني ره ش" وهو القامة المديدة في رياض الأدب وصاحب المداد الطافح بالإنسانية, أن يحملنا في تجوال بهي وممتع في دنيا الشعر وإضافة إلى القدرات التعبيرية والإيحاءات الرائعة كانت اللغة القائمة على الوضوح, التي اعتمدها شاعرنا محرضةً لذائقة المتلقي ومستثيرةً لعقله ووجدانه, ومؤكدةً بالوقت ذاته جمالية الشعر الكردي الحديث, ومقدرته على التعبير بدقة وروعة عن مكنونات النفس الإنسانية وعن معاناة تلك النفس ورغباتها.

ولا يمكن هنا أن نغفل عن جمالية الترجمة التي قدّمها "هجار إبراهيم" الأمر الذي اثبت مقدرته على نقل الحالة الشعورية وأفكار شاعر النص الأصلي, بتعبير صادق وإحساس مرهف واستطاع أن يبلغ إلى حد كبير مرام الشاعر في عملية الترجمة التي أنجزها, بالرغم من قصورها في بلوغ المكمَن الدفين لحديقة الروح التي تتجول بينها كلمات شاعر العمل الأصلي, وأثبت بالوقت نفسه وضوح أسلوبه وتمكّنه من اللغة العربية وهو بعمله يضيف نقطة مضيئة للشعر الكردي والأدب الكردي عموماً, كما يضيف عملاً متميزاً للمكتبة العربية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى