الأربعاء ١٣ آذار (مارس) ٢٠١٣
تَنْبِيهَاتٌ عَلَى مَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ
بقلم محمد جمال صقر

جَدِيرَةٍ بِالْبَحْثِ«30»

مَاجِسْتُورَاهْ «3»

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجّاجِ، قالَ:

جاءَنا بَشّارٌ يَوْمًا، فَقُلْنا لَه: ما لَكَ مُغْتَمًّا؟

فَقالَ: ماتَ حِماري فَرَأَيْتُه في النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَه: لِمَ مِتَّ؟ أَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ إِلَيْكَ؟

فقال:

سَيِّدي خُذْ بي أَتانًا عِنْدَ بابِ الْأَصْبَهاني
تَيَّمَتْني بِبَنـانٍ وَبِدَلٍّ قَدْ شَــــجاني
تَيَّمَتْني يَوْمَ رُحْنا بِثَناياها الْحِســانِ
وَبِغُنْجٍ وَدَلالٍ سَــلَّ جِسْمي وَبَراني
وَلَها خَدٌّ أَســـيلٌ مِثْلُ خَدِّ الشَّيْفَرانِ
فَلِذا مِتُّ وَلَوْ عِشْــتُ إذَنْ طَالَ هَواني
فَقُلْتُ لَه: ما الشَّيْفَرانِ؟

قالَ: مَنْ يُدْريني! هذا مِنْ غَريبِ الْحِمارِ؛ فَإِذا لَقيتَه فَاسْأَلْهُ!

فخطر لي أن أتخذ "غريب الحمار"، علما على كل ما لا معنى له ولا وجه، ثم أتتبعه على الزمان والمكان والإنسان، أتأمل نبوع الغرابة من طوايا القرابة، كيف كان، وكيف تُلُقِّي؟

31

قطع همزة الوصل في أوائل إعجاز الأبيات

خطر لي أن أبحث عن قطع همزة الوصل في أوائل إعجاز الأبيات العمودية (أشطرها الأخيرة)، مما لا يتطابق فيه الشطران من صور الأبحر المختلفة، هل يكون فيها مثلما يكون إذا تطابقت؟

وفي أثناء ذلك تنكشف كلمات معينة (اسم مثلا)، يقطع الناس همزة وصلها نظما ونثرا، لأسباب ينبغي أن تكشف من طبيعتها هي ومن طريقة حديث الناس.

32

سياق استعمال الأمثال بين ابن سلام والمعري والكلاعي

خطر لي أن أوازن في أساليب إيراد الأمثال في الكلام، بين الأمثال لابن سلام والفصول والغايات للمعري ونكتة الأمثال للكلاعي؛ فقد قَصَدَ الكلاعي قَصْدَ انتظام الأمثال، وبذل لهذا القصد كتابه، أما المعري فقد عَرَضَ له ذلك عُرُوضًا، فكان من آثار اختلافهما بقاء أمثال ابن سلام (روايته لها) على حالها غالبا عند الكلاعي، وتغيرها عند المعري، على رغم أنها جامدة عند علمائنا القدماء، ينبغي ألا تغير!

33

ظاهرة الإلحاق في بنية الكلمة العربية

اسمحوا لي هنا أن أكتفي بالنقل عن مقالي "التوافق"؛ فقد نبهت فيه بعنوان "ظاهِرَةُ الْمُلْحَقِ أَقْوى آثارِ الْوَزْنِ الْعَروضيِّ فِي الْوَزْنِ الصَّرْفيِّ"، على خطر هذه الفكرة، قائلا:
ولقد صار لـ(الملحق) باب مستقل أصيل في علم الصرف، يعرض فيه علماؤه لأوزان صرفية نشأت لغرض لفظي (صوتي)، بتغيير أوزان صرفية أولى، ربما لم تعد مستعملة، تغييرا يجعلها بزيادة حرف أو حرفين، على وفق أوزان معينة، من نوع مقاطعها وعددها وترتيبها، "ليصير ذلك التركيب بتلك الزيادة، مثل كلمة أخرى في عدد الحروف وحركاتها المعينة والسكنات، كل واحد في مثل مكانه في الملحق بها، وفي تصاريفها: من الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول -إن كان الملحق به فعلا رباعيا- ومن التصغير والتكسير، إن كان الملحق به اسما رباعيا لا خماسيا. وفائدة الإلحاق أنه ربما يُحْتاج في تلك الكلمة إلى مثل ذلك التركيب في شعر أو سجع".

ما (المُلْحَقُ) فيما أرى، إلا ظاهرة وزنية صرفية، من آثار الوزن العروضي ونتائج علاج الشاعر لإبداع شعره، صارت سنة لغوية اتبعه فيها غيره من مستعملي اللغة. ومن قديم ينهج الشعراء لغيرهم مناهج اللغة.

كذلك أرى أن الإلحاق كان في أَوَّليَّته لفظيا (صوتيا) فقط، ثم صار وسيلة إلى توسيع المعنى أو تضييقه أو التعبير عن معنى جديد. إن لدينا نماذج باقية من تلك المرحلة السابقة، تؤكدها وتبينها، قال ابن منظور: "جَهَرَ بكلامه ودعائه وصوته وصلاته وقراءته (...) وأَجْهَرَ وجَهْوَرَ: أعلن به وأظهره" ، وقال: "شَمَلَ الرجل وانْشَمَلَ وشَمْلَلَ: أسرع وشمَّر" ، فقدم لنا فيهما (جَهْوَرَ) الذي على وزن (فَعْوَلَ)، الملحق بـ(فَعْلَلَ)، بتغيير (جَهَرَ=فَعَلَ)، و(شَمْلَلَ) الذي على وزن (فَعْلَلَ)، الملحق بـ(فَعْلَلَ) كذلك، بتغيير (شَمَلَ=فَعَلَ)- اللذين لم يتغير المعنى فيهما عنه فيما غُيِّرا عنه. ولا نحتاج إلى نماذج للمراحل اللاحقة (كسَيْطَرَ= فَيْعَلَ، وشَرْيَفَ، بمعنى قطع ورق الزرع الجاف=فَعْيَلَ)، الملحقين كذلك بـ(فَعْلَلَ)، بتغيير (سَطَرَ=فَعَلَ، شَرُفَ=فَعُلَ)؛ فهي الآن المستولية على الملحق، حتى لقد صارت ملجأ المحدثين كلما احتاجوا إلى التعبير عن معنى جديد، ولا سيما إذا ترجموا فعجزوا عن مقابلة الكلمة بمثلها من العربية، فأخرجوا لنا كلما لا أستطيع الآن حصرها -ولم أعلم أحدا فعله- وفقوا في بعضها وأخفقوا في بعضها، كما في مثل: عَلْمَنَ=فَعْلَنَ، بتغيير عَلِمَ=فَعِلَ، وعَمْلَنَ=فَعْلَنَ، بتغيير عَمِلَ=فَعِلَ، وجَمْعَنَ=فَعْلَنَ، بتغيير جَمَعَ=فَعَلَ، وشَعْرَنَ=فَعْلَنَ، بتغيير شَعَرَ=فَعَلَ، وبَنْيَنَ=فَعْلَنَ، بتغيير بَنى=فَعَلَ، ومَعْجَنَ=مَفْعَلَ، بتغيير عَجَنَ=فَعَلَ، ومَعْجَمَ= مَفْعَلَ، بتغيير عَجَمَ=فَعَلَ، ومَفْصَلَ=مَفْعَلَ، بتغيير فَصَلَ=فَعَلَ، ومَنْطَقَ=مَفْعَلَ، بتغيير نَطَقَ=فَعَلَ، ومَذْهَبَ=مَفْعَلَ، بتغيير ذَهَبَ=فَعَلَ، وبعضها أشبه بالنحت منه بالإلحاق. وكما اضطر علماؤنا القدماء إلى الإقرار بباب الملحق، قبل مجمع اللغة العربية بعض ما ابتكره المحدثون".

34

أثر البديع المَقَاميّ في تركيب الجملة
بين الهمذاني والحريري واليازجي

خطر لي أن أمر في مقامات بديع الزمان والقاسم الحريري وناصيف اليازجي، لأختار لكل منهم مقامة، بحيث تجتمع ثلاث المقامات على جوامع التوارد المعروفة معنى ومبنى، ثم أتأملها لأضبط أثر الظواهر البديعية المختلفة ولا سيما التوازن، في تركيب الجملة العربية.

35

بين فَعْلَة وفَعْلَى موازنة نصية صرفية

خطر لي لما وجدت العرب تخلط في مقصور فَعْلاء، بين فَعْلَى المقصور الصريح وفَعْلَة الصحيح غير المقصور- أن أفتش عن حدود ما بين الوزنين على أنواعه كلها التي يرد فيها وبها اسما وصفة، كيف كان كلا الاسم والصفة.

لقد اطلعت على أنهم يقولون: رجل أَبَحّ وامرأة بَحَّاء وبَحَّة. ومما يخطئ فيه الدهماء عكس ذلك أحيانا، كما في رَيَّاء وسَمْحَاء، في رَيَّا وسَمْحَة، فإنه إن سهل مد المقصور وقصر الممدود، لم يسهل ذلك في الصحيح!

36

إهمال التقفية القائمة: دراسة عروضية نحوية

خطر لي أن كثيرا من الأبيات التي أراها مقفاة، ولم يعبأ الشاعر بما فيها من تقفية، وعدمُ عبئه على وجوهٍ طباعية وغير طباعية- إنما قُفِّيَتْ عَفْوًا، ولا حاجة إلى حَمْل معاملة المقفاة عليها.

بل ربما عثرت على خصائص أعمق من الظاهرة الموهمة، تؤكد أنها تقفية عارضة غير مقصودة، إذا جمعت أمثلة النوعين القصدي والعفوي، ووازنت بعضها ببعض عروضيا ونحويا.

37

تصريف أطراف الجناس في شعر ابن الرومي

خطر لي أن أستفيد من ولع ابن الرومي باللعب بكلمات المجال اللغوي الواحد، في بحث يسبر غور هذه المهارة عند هذه المدرسة المصنوعة!

ها هو ذا يقول مثلا لممدوحه من قصيدتين اثنتين:

فَتَوَخَّ الْإِعْذَارَ وَارْغَبْ عَنِ التَّعْذِيرِ يَا ابْنَ الْمَعْدُودِ فِي الْمَجْدِ فَرْدَا
فَتَوخَّ الْإعْذَارَ وَاعْلُ عَنِ التَّعْذِيرِ لَا زِلْتَ لِلْعُلَا وَلَدَيْهَا

فيكشف الاختلاف الباطن في الائتلاف الظاهر على كلمتي الإعذار والتعذير ، وهو من معالم هذه المهارة.

38

الحذف من المعطوف استغناء بالمعطوف عليه
في شعر ابن الرومي

خطر لي أن أمر في شعر ابن الرومي، فأستخرج ما حذف فيه من المعطوف استغناء بوجود مثله في المعطوف عليه؛ فقد توسع في، ولا سيما في القافية، ثم هو عمل نحوي مثير!

39
ظاهرة الضرورة الشاعرية

قديمًا نَبَّه الزَّجَّاجيُّ على جَرْي الشعراء في حديثهم عَفْوًا مَجْراهم في شعرهم، وحديثا ذكر الدكتور أحمد بسام ساعي أنه حاور نزار قباني فوجده يجري في حديثه عفوا كذلك مجراه في شعره.

لقد خطر لي أن أفتش أحاديث الشعراء على مدار التاريخ، عما تَفَلَّتَ فيها من ظواهر أشعارهم الخاصة، دلالة على مكانة الظاهرة في نفسها، وتميزها مما جرى علماء الشعر على جمعه بها في مسلك واحد.

40
بث روح اللهجة في جسم اللغة
بين النقل التقليدي والعقل الإبداعي

خطر لي أن أتأمل كتابات من استطاعوا أن يُحْيوا موات لغتهم العربية، باستلهام روح لهجتهم، فأوازن بين من تتبعوا تعابير اللهجة فنقلوها إلى اللغة من دون تغيير إلا في أصواتها تقريبا، ومن عقلوها ثم أبدعوا باللغة ما بَدَتْ أسبق إليه.

وقد نبه على طرف من ذلك أحد الكتاب التونسيين بكتاب سماه -أظن- تطعيم اللغة باللهجة أو روح اللهجة، جعل فيه طه حسين ممن فعلوا ذلك، ولكنه لم يُعَنِّ نفسه بالبحث عن حقيقة الأمر، ولا عن وجهيه السابقين.

41

صفقة الحكيم بين اللغة واللهجة

أذكر أنني حين درست مقرر اللغة العربية لطلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة، اصطنعت لهم منهجا خاصا مناسبا، وكانوا من قبل ينفرون من المسائل اللغوية العويصة التي تُعْرض عليهم.
لقد قررتُ عليهم مسرحية توفيق الحكيم "الصَّفْقَة"، التي ادعى فيها أنه استحدث لغة بوجهين لغوي (فصحوي) ولهجي (عامي)، سُمِّيت اللغة الثالثة- وأنها تُمَكِّن من المخرجين من شاء حمل الممثلين على الأداء الفصحوي، ومن شاء حملهم على الأداء العامي. وتَخَيَّر فيها من الأصوات والكلمات والتعبيرات والجمل، ما تشترك فيه اللغة الفصحى واللهجة العامية. وكنت أجري أنا وتلامذتي على تَتَبُّع ما تَخَيَّر، فإن أفلح تركناه له، وإن أخفق أخذناه عليه، ثم لم نتركه حتى فصلنا شأن إخفاقه من أين بدأ وإلى أين انتهى. وفي الاختبار كنت آتيهم بعبارات من عباراته، لأسألهم فيها عن توفيقه إمَّا وفق أن ينبهوا عليه، وعن إخفاقه إذا أخفق أن ينبهوا عليه ويفصلوا شأنه مثلما فصلناه معا في المحاضرات.

لقد كان عملا باهرا لطلاب الأعلام ولأساتذتهم جميعا، لم يعهدوه في تدريس المقرر. والآن أطمح إلى استقراء ذلك على منهج البحث العلمي، وقوفا على أسرار إخفاق هذه التجربة.

42

العلاقات النحوية بين الفُحوليَّة والخُنوثيَّة

الذكورة بينة والأنوثة بينة، ولكنَّ بينهما أمورا مشتبهات، أنوثة مذكرة وذكورة مؤنثة! وقد سُمِّيت هذه الأخيرة خنوثة، وهي الليونة المتكسرة، واتُّهم بها من الذكور من أطال مجالسة النساء، حتى أشبههن قولا وفعلا، ومن تَدَسَّس إلى مضمن طوايا أنفسهن حتى عرف أسرارهن؛ فكان النابغة الذبياني من النوع الثاني، وابن قيس الرقيات الأموي من الأول، وابن حزم الأندلسي من الثاني، وبعض معاصرينا...!

فإذا استقر لدينا وحدة الطبع الظاهرة على الأجسام والأرواح والأفعال والأقوال، حتى ادعينا فيما سبق اختلاف العلاقات النحوية بين الذكورية والأنوثية- جاز أن ندعي هنا اختلافها في كلام الذكور بين فُحُولهم ومُخَنَّثيهم، من حيث تَخْلُصُ لها في كلام الفحول ذكوريتها، وتختلط في كلام المخنثين، فتُغْري بتمييز وجهيها كُلَّ نِحْرير نِقَاب!

مَاجِسْتُورَاهْ «3»

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى