الخميس ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

حب في زمن الأخلاق

يصرخُ هشام بكل ما يملك من قوة، كمن يعاني من عذاب داخلي مرير، وكأنه يريد تحطيم الزجاج من خلال الصوت فقط !، وهو يلوح مرفرفاً بيديه وكأنه ينوي الطيران، وهو ينظر إلى زوجته فيحاء المنكمشة على نفسها، فتنظر له بعمق وبحيرة وكأنها تودعه بسفرٍ طويل !، ثمَ تخفض بصرها لتنظر إلى نقطة واحدة، الشيطان وحده يعلم ما كانَ يدور في مخيلتها من أفكار وخواطر تتراقص بذهنها في تلك اللحظة وهي صامته، ساكنة....... ومن ينظر لها في تلك اللحظة سيعلم مباشرةً بأنها إنسانة مخذولة وتعيش تحت وطأة الاحتقار والضعف. وجهها شاحب جداً وكأنها ستموت بعدَ ساعات معدودة، بينما يبقى صمتها القاتل ذاك ووقفتها المستكينة المنهزمة ونظراتها الحيرى كلها توحي بأنها كالذي فقدَ الذاكرة للتو، حينها تعلو صرخات زوجها مصرحاً وهو يزمجر، بعدَ أن لفَ حول نفسه عدة مرات وبسرعة كالزوبعة فقال: لا أريد أن أسمع أي أخبار عن أمي وأبي بعد اليوم، ثمَ يردف بكل سفالة، سوفَ لن أسمح لهم بدخول منزلي ما دمت على قيد الحياة، ثمَ يردف بيأس: لقد سئمت من هذه الحياة المبتورة التي أعيشها، فأحياها وأنا كالطير الذي قُصَ جناحيه، ثمَ يعيد ما قالهُ دونَ ملل كعهد السكارى عندما يتحدثون، ألم أقل أنها مبتورة ولا تستحق العيش فيها، فيقهقه ها.... ها.... ها.....، وهو يمشي في الغرفة من ركنٍ إلى ركن وكأنه يفكر في شيء ما عاقداً يديه خلف ظهره كالذي يساق من قبل البوليس معقود الأيدي، ثمَ دارَ حول نفسه دورة كاملة، كما يضبط المرء ميل الساعة، فصرخَ بحقد وأسى: أنا لم أكن يوماً سعيداً، واليوم أصبحتُ تعيساً وغداً سوفَ لن أكون بالتأكيد سعيداً...... ويرسم تعبير غامض، ماكر على وجهه ليبدو كوجه متآمر..... ثمَ يضحك بصوت متقطع وبرنة عالية دونَ خجل، هى..... هى...... هى.........كالضحكات التي تطلقها العاهرة......... في حين انتشرت في الغرفة رائحة قوية خانقة، والصادرة من فمه كرائحة حانة.........

بينما ترتجف أبنته الصغيرة لينا، بنت الأربعة أعوام، ويهتز جسمها كله رعباً من الهلع والخوف لمنظر أبيها السكران وهو يصرخ عالياً، فتهتز أركان الشقة من جذورها، في حين يمسك أخيها أثير أبن الثامنة عاماً، طرف ثوبها بحذر غير مسبوق وهو ينظر إلى أمه ووجوههم شاحبة، متعبة وفقدت كل تعبير للطفولة البريئة..........

يجلسُ هشام على الكنبة ليغوصَ فيها، بعدَ أن صّرحَ بما يريد، فأرعبَ الجميع وكأنه مارد، ثمَ يمد يدهِ المرتعشة نحوَ الكأس المملوء بالنبيذ ليجرعها دفعة واحدة وكأنه دواء !، فيمسك بالسكين التي أمامه بعدَ أن قطعَ فيها الخيار، ليصنع لنفسه مزه يتلذذ بها أثناء شربه، ويلوحُ بها عالياً كالسيف وكأنه في ساحة قتال فيقول مستنكراً: أغربوا عن وجهي الآن، لا أريد رؤية أحداً منكم وهو يشير إلى أبناءه، بينما تبقى زوجته تراقب الأحداث وهي صامته وكأنها صماء لا تسمع !، ثم يتقدمون أولاده باتجاهه، ويطلبون منه برجاء طفولي مفرط أن يكف عن الشرب وأن يذهب كي ينام، فالساعة قد تأخرت وتجاوزت الواحدة بعدَ منتصف الليل، فيشتمهم غاضباً ويقول: منافقون كأمكم، لسانهم ينطق بالحب والرقة، وقلوبهم سوداء تضمر الكره وتخفيه، في حين تعلوا أصوات الأولاد بعد أن تشجعوا قليلاً فقالوا بصوتٍ باكٍ: كفى يا بابا، لا داعي للشرب أكثر يا بابا، نحنُ نخاف عليك حقاً يا بابا.......

مراء..... أنكم تكذبون، يدمدم وكأنه يحاول أن يبيعَ شيئاً في السوق، فيقول: لم يبقى إلا الصغار كي يتحكمون بتصرفاتي، ثمَ يشرع، والله عال..... نحنُ نحب في زمن ن ن ن..... الأخلاق، وهو يلوي لسانه عندما يتحدث، وكأنه يعلك، عندها يصرخ فجأة وهو يلوح بالسكين، قلت لكم أغربوا عن وجهي الآن، اللعنة، كل اللعنة تقع على أمي وأبي لأنهم أنجبوني ورموني في لجة الحياة الصاخبة كالبحر وأنا لا أجيد السباحة، فيضحك بصوت مجلجل ها....ها.....ها....، ثمَ يشرع قائلاً هم السبب في هذا الذي أنا فيه....... عندها يصوب السكين نحو زوجته الواقفة كالصنم وكأنها تنتظر حدوث المصيبة !، فقالَ لها بالحرف الواحد: لا تنسي ما قلته لكِ قبلَ قليل، لا أريدهم يدخلون منزلي بعدَ اليوم، لا أريد ثمَ يصرخ مؤكداً مفهوم....؟، تخفضُ الزوجة بصرها وتزر عينيها كالتي تشعر بالنعاس وتريد أن تنام، فقالت بانكسار ووهن: نعم، سوفَ أفعل كل ما تريد، ولكن كف عن الشرب الآن، لقد شربت الليلة كثيراً، وعلى غير عادتك، ثمَ شرعت، ستقتل نفسك يا رجل، وحاولت أن تشرح له بهدوء وكأنها تريد استرضائه.... نحنُ لا نريد منكَ شيئاً، ولكن أنظر إلى صحتك، فجسمك يرتعش، ووجهك أصفر بلون الليمون ونظراتك ينقصها التركيز، فأردفت بنوع من الحزم وكأنها تحاول أن تعيده إلى صوابه، أرجوك كف عن الشرب الآن وأذهب للنوم......، لكنه يسمعها ولا يتأثر، فبدا لها في تلك اللحظة شخص غريب عنها، غير مفهوم كالمعجزة، ليبقى منظره مقزز، فعلى رأسه كتلة من الشعر صفت بطريقة كيفما أتفق، وعيونه الداكنتين كثقبين صغيرين، بينما حجم رأسه لا يتناسب معَ طول قامته، فهو صغير نسبياً، في حين ذراعاه التي تشبه أذرع عملاق، وساقاه كشجرتين، لذلك كانَ يمثل لهم رعباً حقيقياً لأسرته، خاصة عندما يكون في حالة من السكر الشديد، فيقف ثانيةً ولكنه بدا وكأنه شاخَ عشر سنوات سريعة، فقال وصوته يهدر كصوت العاصفة: أعوذُ بالله، ما هذه الحياة التي نحياها !، عيشة يموت فيها المرء وهو في مقتبل العمر، ثم يقسم بشرفه الغير ملوث صارخاً، بعدَ أن دقَ بقبضته على صدره بقوة: تقع عليّ لعنة الشيطان إذا رأيتهم هنا يوماً، سأقطع رؤوسهم أولاً ثمَ ألسنتهم ثمَ رقابكم جميعاً...........

تنظر له زوجته وهي حيرى لا تعرف ماذا ترد وكيفَ تتصرف معَ هذا المخلوق الذي لا يعمل شيئاً سوى التسكع نهاراً والسكر ليلاً، بينما تعمل هي كمنظفة، ليأخذ ما تتقاضاه، كي يبدده على ملذاته، أستغفر الله قالت وهي تحدثُ نفسها بصوتٍ غير مسموع وتضربُ كفاً بكف وكأنها تصفق ثمَ تخفض رأسها مجدداً، لتدخل دوامة العذاب والشقاء والبؤس الذي لا يريد أن ينتهي أو أن يغادرها.....، في حين يعيش أولادها التعساء حالات الهلع والرعب والخوف القاسي المرير دونَ أن يكون لهم أي دور أو قرار كما هو الحال لأطفال بسنهم وتحت ظروف كظروفهم..........

شربَ هشام في تلكَ الليلة كثيراً جداً، فبدأت الأفكار الشريرة تدور في رأسه كما يدور الكحول في عقله ، ثمَ بدأ يتألم ويبكي ويضربُ رأسه وهو يقول: أرجوكم، أسعفوني، فهناك سكاكين تقطع في أوصالي، ثمَ يردف، أشعر بأنَ قلبي ليسَ في مكانه، وهو يسب ويشتم ويلعن أمه وأبيه ويقول باستهتار هم السبب، لعنهم الشيطان في الحياة وهم أحياء، ثمَ ينظر إلى زوجته ويبدأ بالتضرع والتوسل وهو يصرخ من الألم، في حين ينظرون أولاده إليه بشرود، ليبدو وكأنهم يتامى، فيصرخ الزوج مجدداً وهو يزفر بهلع ويقول بكلمات تكاد تكون مخنوقة وكأنه يغرق: أريدُ مزيداً من الهواء، لماذا قطعتهم عليّ الهواء، ثمَ تنحشر الكلمات في فمه فتأبى أن تخرج، وكأنه عقاب الله !، فيختنق ويزداد شحوباً ليبدو وكأنه قد ماتَ قبلَ ساعات، فيسقط على الأرض كالحجر فاقداً لنبض الحياة.........

تنظر له الزوجة بذات البرود والشرود، بعدَ أن اختلطت في قلبها أحاسيس الرعب والخوف والهول والذل والمهانة، وكأنها هي التي ماتت !. ولم تمضي إلا دقائق حتى يكون أبيه وأمه على رأسه بعدَ أن فاضت الدموع في أعينهم بحرقة ومرارة لموت أبنهم البكر والوحيد وهو مازال بعد لم يتجاوز التاسعة والثلاثين......، فلم تلاحظ فيحاء نفسها إلا وهي تلتقط أولادها فتضمهم نحوها بقوة وكأنها تخاف أن تفقدهم، والدموع تطفر من عيونها كالمطر، فتشرع قائلة لهم دونَ وعي: كم عظيمة هي الأديان، لقد صدقت حينَ قالت:

(احترموا آباءكم واحترموا أمهاتكم، أن من لا يحترم والدية مدان إلى يوم الدين).1

«ولا تقل لهما أفٌ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما».2

ثم يخيل إليها صوت زوجها وهو يرن في أذنيها من بعيد، لكنها تسمعه بدقة عندما قال صارخاً: أنه حب في زمن الأخلاق !، ولا تعلم ماذا كانَ يقصد في كلامه ذاك، لكنها كانت على يقين بأنَ زوجها كانَ رجلاً غريباً وغير منطقياً كالمعجزة تماماً.

1 كتاب الصابئة المقدس / الكنزاربا

2 كتاب الإسلام المقدس / القرآن


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى