الثلاثاء ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
مسيرة تبشيرية تروي
بقلم مروة كريديه

حكاية فرسان الأفخارستية في جبل لبنان

"إن إنشاء المدارس ليس وليد الحاجة لتعليم النشء وتثقيفه، بل هو واجبٌ أخلاقي، لأن من يتعلّم ينمّي قريته وعائلته ووطنه ودينه" جوزيف دولور

استلهم الأب جوزيف دولور اليسوعي الفرنسي من معاناة الانسان رسالته التربوية في جبل لبنان على امتداد نصف قرن آخذًا على عاتقه تأسيس أكثر من أربعين مدرسة و متابعتها، حاملا آلة التصوير وموثقًا لحياة مسيحيي المشرق ويوميات القرى المنغمسة في عمق التاريخ ، ومكرزًّا برسالته الكاثوليكية ل"فرسان الأفخارستيا"، حيث شكل لبنان خلال القرن التاسع عشر نقطة تنافس وجذبٍ "تبشيري" كما سياسي، أدى الى نهضة علمية عمت الأرياف النائية حيث كان لمدارس الارسالية اليسوعية ومعاهدها دور محوري في تخريج معظم النخب السياسية التي حكمت لبنان فيما بعد.

ولد دولور عام 1873 في ليمونست من ضواحي مدينة ليون بفرنسا، في أوج ازدهار العمل "التبشيري " في المشرق زمن البابا لاوُن الثالث عشَرالذي خوّل الأباء اليسوعيين منح الدرجات الأكاديميّة ولا سيّما الدكتوراه في الفلسفة واللاهُوت عبر ديرهم الكائن في الأشرفية شارع هُوڤلان ببيروت وكانت نواة جامعة القديس يوسف التي تأسست عام 1875.

ولا يمكن فصل حياة دولور ومهامه التربوبية التي أوكلت إليه عن السياق التاريخي لاسهامات الآباء اليسوعيّون الواسعة، فمنذ سنة 1839 أنشأُوا في بيروت مَقرًّا لهم وديرًا احتضن نواة المكتبة الشرقية، وأضافوا لذلك مدرسةً صغيرة؛ ثمَّ أنشأوا في غَزِير بمنطقة كسروان معهدًا إكليركيًّا سنة 1846، ثم مدرسةً سنة 1855؛ كما أسسوا المطبعة الكاثوليكيّة 1848، و كانت أول مطبعة حجريّة صغيرة من نوع الأوتوغراف، غير أن الرهبان اليسوعيين شعروا أن هذه المطبعة لا تلبي إحتياجاتهم وتطلعاتهم بسبب إمكانياتها المتواضعة، وصودف مرور الكونت دي تريمون في بيروت عام 1853م فعلم من رئيس الإرساليّة المشكلة فتبرع بستة آلاف فرنك فرنسي لشراء مطبعة متكاملة المعدات والإمكانيات. ولهذه المهمة قامت المطبعة الجديدة الكاثوليكيّة عام 1854 بطبع ألفي نسخة من كتاب "الإقتداء بالمسيح" الذي وزع مجاناً على الناس، ثم جلبت المطبعة حروفاً لاتينيّة لطبع النصوص الفرنسيّة. وفي الوقت ذاته وإنطلاقاً من مفهوم التنافس مع الإرساليات الأخرى في بيروت وجبل لبنان، فقد تلقى الكاثوليك مطبعة أخرى هدية من اللجنة الفرنسيّة لمدارس الشرق.

ونظرًا إلى بُعد غَزِير آنذاك عن بيروت بوصفها عاصمة القرار ومركز الثقافة والتجارة ، إذ كان قَطع المسافة الفاصلة بينهما يَستغرق سِتَّ ساعات، انتقلت المدرسة إلى بيروت سنة 1875 لدورها الرائد في استقطاب النخب الفكرية والأدبية خلال العهد العثماني، حيث كانت واحدة من حواضر الشام، وقبل أن تحمل اسم ولاية وتصبح عاصمتها تخطت سورها القديم في النصف الأول منذ القرن التاسع عشر ، وراحت تنمو بُعيد منتصف القرن نمواً سريعاً، وقد أسبغ البابا لاوُن الثالث عشَر على هذه المُؤسّسة لقب الجامعة، الذي خوّلها منح الدرجات الأكاديميّة ولا سيّما الدكتوراه في الفلسفة واللاهُوت،ثم توالى تأسيس كلّيّاتها ومعاهدها، كمعهد الطّبّ عام 1888 وغيرها من الكليات كالحقوق والهندسة.

في ظل هذا الزخم "التبشيري" والتربوي قدم جوزيف دولور الى غزير ولم يتم الثامنة عشر خلال عام 1891، وبعد أربعة أعوام ابتعثته الرعيّة اليسوعية الى القاهرة حيث أمضى فيها فترة تدريبية وتعليمية ما بين عامي 1895-1899 درس خلالها اللغة العربية والفلسفة وتعمق في اللاهوت المقارن، ليصبح كاهنا متفرغا في "فرسان الأفخارستية " وهو ما يطلق عليه بالفرنسية Croisés eucharistiques وترجمتها الحرفية هي "الحملات الصليبية الإفخارستية"، أي التي تعنى بسر المناولة أو بسر القربان المقدس. ونظرا لما تحمله الترجمة الحرفية من "حساسية" تطلب الأمر العودة لجذور التسمية حيث نجدها قد أطلقت في بدايات القرن العشرين على الجماعات التي نزحت باتجاه فرنسا من اوروبا الشرقية، وعملت على إعداد المريدين من الناشئة لتناول القربان المقدس وفق الطقس المسيحي. وكان هذا العمل "الديني" أحد أوجه النشاط الذي انتشر فيما بعد في أوروبا والعالم المسيحي عمومًا، وانتقل كذلك فيما بعد إلى المشرق وخاصة لبنان، تحت تسمية "الرعية" أو "الفرسان" أو " الرسل" وغيرها من التسميات. وقد أشار لي صديقي المترجم موسى الخوري بأنها عبارة يمكن ترجمتها بـ "فرسان الأفخارستيا" أو "فرسان سر القربان" أو "فرسان المناولة الأولى"، أو "رعية المناولة الأولى" أو "رعية سر القربان"

استلهم دولور حكمته الصوفية ودوره كمريد من القديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبنة اليسوعية التي تعتمد تعاليمها الروحية على الفقر، العفة والحج إلى أورشليم. فكان متأهبًا دوما من أجل الخدمة الفضلى، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بخدمة الإيمان بالله وترقية العدالة وتثبيت المصالحة والغفران بين الناس، فانطلق مربيا ومؤسسا لقيم الصداقة والحرية.
وتلخص مقولة جوزيف دولور الشهيرة مسيرته طيلة نصف قرن حيث يقول :" إن إنشاء المدارس ليس وليد الحاجة لتعليم النشء وتثقيفه، بل هو واجبٌ أخلاقي، لأن من يتعلّم ينمّي قريته وعائلته ووطنه ودينه". لذلك فقد ساهم بتأسيس الجمعيات وفتح المدارس في القرى "المارونية " و " الكاثوليكية" وعمل على مساعدة الفقراء تاركا بصمات عديدة على الصعيد الروحي، حيث كانت تتم الاستعانة به في الاكليريكية وغيرها من اجل التنشئة الروحية والقاء المواعظ الصوفية، وكان تأثيره كبيرا ومشهودا في هذا المجال لأنه عاش الروحانية المسيحية في البيئة التي وجد فيها خصوصا في غزير ومحيطها حيث الدير الذي تحول في مابعد الى الاكليريكية. وخلال الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، التجأ الآباء اليسوعيّون إلى دير مار انطونيوس التابع للرهبانية المارونية، ومكثوا فيه طوال فترة الحرب، بعد أن أغلقت السلطات التركيّة العثمانية جامعتهم، كما توجّه آنذاك بعض تلامذتهم الأجانب إلى مدرسة الرهبانيّة المارونية في دير سيّدة المعونات بمنطقة جبيل وكان دولور قد وثق بعض الصور عن أطفال القرى في الجبال خلال المجاعة في تلك الفترة.

وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان الرهبانية "المارونية" هي بالأساس كنيسة شرقية منتشرة في سورية وجبل لبنان، وهي مستقلة تختلف في بعض تفاصيلها اللاهوتية عن "كاثوليكية " الفاتيكان الغربية، بيد انه ثمة تنسيقا عاليا خلال القرن التاسع عشر تم بين الآباء اليسوعيين والموارنة ، لاسيما في عهد الأب العام مبارك سلامه 1891-1895 الذي اوفد رهبانه الموارنة الى غزير للحصول على التعليم الديني.

الأب الماروني عبدو واكد من جهته يعتبر:" ان الهدف الاساسي لمجيء الاباء اليسوعيين الى لبنان كان تنظيم الكنيسة الشرقية بشكل عام والكنيسة المارونية بشكل خاص الى جانب تاسيس مدرسة اكليريكية مارونية واخرى للطوائف المسيحية في لبنان " معتبرا ان تكريم الرهبان الاوائل الذين اتوا الى لبنان عام 1830 وهم الايطالي الاب بول ريكادونا والفرنسيين الاب بونوا بلانشيه والاخ هنري هنزيه كما " فرسان الافخارستيا " تكريم للتاريخ ولرجالاته الكبار المعروفين بعطاءاتهم وتضحياتهم والتاريخ كتاب مفتوح على الحاضر الذي يستشرف المستقبل ومن نسي تاريخه او تجاهله لا حاضر له ولا مستقبل.

واكب جوزيف دولور في تحركاته المفوض السامي الفرنسي جبرايل بونورJean Henri Gabriel Bounoure وهو الذي كان كاتبا وشاعرا قبل عمله السياسي، فكان يطلعه على احتياجات القرى التنموية والتربوية حيث يشير له في احدى رسائله ان هذه المدارس 42 تقع في الجزء الأوسط من لبنان المسيحي وبالتحديد في كسروان والبترون اي المنطقة الممتدة من الساحل حتى الجبل ويصفها بأنها قرى فقيرة جدا تعيش في بؤس مؤلم وفقر مدقع ، مشيرا الى ان مدارسه تضم 47 معلم وينتظم فيها حوالي 1800 تلميذ، ويلتمس دولور من بونور المساعدة المادية لدفع الرواتب لهذه المهمة التبشيرية الرسولية.

أمضى دولور معظم حياته في مركز غزير، باستثناء ثلاث سنوات مابين عامي 1925-1928 حيث انتقل الى حمص لمدة عامين وعام امضاه في بيروت . وتوفي في 20 حزيران يونيو عام 1944 عن عمر يناهز 71 عامًا . وقد عملت إدارة المكتبة الشرقية في الجامعة القديس في بيروت العام الماضي على جمع مخطوطاته وصوره تكريمًا لذكرى رجل وهب 53 عاما من حياته لخدمة الرهبنة اليسوعية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى