الخميس ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
أحلامُ وادي السواد
بقلم محسن الذهبي

حلم صيف قارص

نقف مشدوهين ثاغري أفواهنا ، بمواجهة موكب الجنرال الذي خرج يحمل سيفاً بتاراً ويعتمر قبعة الكابوي التي استبدلها بالعقال العربي والكوفية .. حدودُ ملكه أرض السواد بطولها وعرضها من شرق الموصل حتى تخوم الارض بفارس ، الحاشية تصطف برهبةِ المقروص في أنفه ، قوادُ الحرس محمولين بالهلع تدخل غانية الاوبرا المخدع الرئاسي فيرفع الحرس الجمهوري الموشاة صدورهم بأوسمة النصر أذيال ثوبها الابيض الفضفاض خوف أن تتعرث به . في الأرجاء تصدح أنغام طبول الحرب وتقرع الاجراس فوق كنائس المسلمين ومساجد المسيح .. اليهود وحدهم خلعوا قلنسواتهم الصوفية وانهمكوا يلعبون النرد في مقهى الشاطئ والبيروتي والشابندر وحسن عجمي ..
تحت ضوء نجوم الفجر الغاربة فزّ طفلٌ في "خان النص" يبكي خوفاً وفزعا فما كان من "الأب يوسف" إلا إلحاقه في دورة تدريبية على لغة الصمت خلف كواليس مسرح بغدد للفن الحديث ، ساعتها عاد عشاقُ الليل وسُكارى بارات ((أبونؤاس)) إلى أحاديثهم همساً وعند الحصنِ الأول لسور بغداد القديم سقط فارس الكبوة الاولى ، فصرخ عجوز شارع الكفاح وهو يعبر مجرى المياه الآسنه :
 كسرت يدك كاكا عزيز كيف توقع ...

لم يمض طويلا حتى صدقت نبؤة العجوز . فالتئم الشمل بمقهى "العامل" الكبار وحدهم تصدروا الصف الأول وتلتهم الصفوف . أما نحن مراهقي الحارات وصغار عمال المسطر فحشرنا أنفسنا بالكاد عند آخر صف بين "كرويتات" المقهى .
قال الأول – ماسحا صلعته المهيبة - : خوذة ُ المحاربِ تميلُ إلى السقوط ولا بد من تصحيح المسار ...!!

قال الثاني : المنافي إختيارنا المؤقت حتى يتبين الأمر ..!
اختصرها عامل النسيج فقال : الأهوار ملاذنا .. لن نبرح الملاذ .
قال العجوز ودموعه تنز على خديه بهدوء قاتل
 ربما اكون مخطأً .. لكن الطوفان آت ...
انتظر الآخرون أن يكمل كلامه لكنه ظل صامتا يمسح دموعه . صرخ (جبار الأعور) منهياً الجلسة :

الموت لنا .. إن إستسلمنا وهذا أول الوهن إذا لن نتفق ... رفعت الجلسة .
غرق الوطن في طمى الطين .. فألقينا أشياءنا على قارعة الطريق تتلاقفنا السجون بعد أن احترقت أصابعنا من حمل المشاعل .
سألني – معمر السجن – بهدوء الواثق من نفسه : -
اختر نشيدك ...

فاخترت نشيد الاقبية وعرفت وجوها ووجوه . في الحلم الليلي يصرخ طفلي بي : معذرة أبي ، استحلفك بقضبان السجن ولحية جدي البيضاء البالغة الطول أن تبحث عن دوري فأنا موجود .. دلني قبل أن يلتهمك التنين ...
نفرَ المذعورون من آتون يقذف حممه البركانية في كل اتجاه : حلبجه مدينة لا ضرورة لها .. لتمحى من الخارطه ، الاهوار مركز للباعوض والملاريا .. رائحة الفستق والجوز تمنح الرجولة : فلتحرق ، البصرة بلا نخيل شط العرب ليمرض فيعود نهر المسلول ينوح على مجراه . (دي .. دي .. تي ) ليس للبعوض المحترم بل للافكار والله خلق الفرس والذباب خطأ .

الموج يعلو .. النهر يضيق بأسماكه العابثه .. بغدادُ تقف مرغمة بوجه واسط الحجاج والبصرة تقاتل أور التاريخ وبابل .. فيكتب المؤرخ وصيته مداعبا إياها ((مدينة السلام التي تحلم به ولا تعرفه كفى .. فالأعرج لن يمشي سويا ))
ما أن تكتمل دورة القمر حتى يهب تموز رافضا أن يخفى شمسه بعد اليوم ، فيصرخ : - آن الاوان الصبح آت .. فيسمع معروف الكرخي النداء ليخرج من قبره تسابقه أصوات صادحة من مقبرة القريشيين في الكاظمية ومن تحت قبته الذهبية يصرخ موسى بن جعفر مكبرا .. من مقبرة ((براثا)) يأتي النداء :- (آدم لن يموت وابن آدم لن ينتهي).

في مقبرة النجف يتشكل او فوج دفاع تلية كتيبة ((محمد سكران)) وسرايا كنيسة الآلام ... قرب ضريح أبي الشهداء يهلل بالناس – مسلم بن عقيل – ليخطب الجموع مبشرا بقيامة ابي عبدالله واثنان وسبعون من اصحابه وأبنائه وعياله .. في الركب نلمح (المختار الثقفي) يرافق (الحسن البصري) ووحيدا يأتي من واسط (سعيد بن الجبير) مقطعا سلاسل قيده هاتفا : يالثارات العراق .
أرض السواد تموج ، كرخ بغداد ورصافتها .. شعلتها وثورتها تستعد للقاء أهل الطرق الصوفية ومعتزلة البصرة ونحوي الكوفة ورواد شارع ابي نؤاس .. وأبناء الفراتِ جزيرته ووسطه والمصب ..

اليوم لا عودة ل ((عاد)) .. اليوم يوم الطوفان وحكم الأسباط .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى