السبت ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٣
في غالبية البيوت ذكر كلمة جنس ممنوع إن لم يكن محرما

حول المعتقدات والسلوكيات الجنسية/في المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة

صفاء طميش

تمهيد

هذه الدراسة هي خلاصة تجربة الباحثة التي استغرقت 54 ورشة عمل حول موضوع "التربية الجنسية" والتي أقيمت في مواقع مختلفة بالضفة الغربية وغزة.

شارك في هذه الورشات أكثر من ألف رجل وامرأة من كافة المناطق الفلسطينية ومن خلفيات اجتماعية، سياسية، اقتصادية، دينية، وثقافية متعددة. رجال ونساء تتراوح أعمارهم بين 12 حتى 50 يشاركون بعضهم البعض في تجاربهم ومشكلاتهم الجنسية، يحددون معا احتياجاتهم الصحية والتعلمية المتعلقة بالجنس.

تؤكد هذه الورقة على أهمية أسلوب "المشاركة الفعالة" للناس في ورشات العمل كأداة بحث ناجحة يمكن تجييرها وملاءمتها لكافة المواقع ومع مختلف المجموعات، إن العمل الفعلي على المستوى الشعبي هو الأهم والأكثر تأثيرا في عملية رسم السياسات العامة والدفع من أجل التغيير، خصوصا في مجال حساس كما في موضوع التربية الجنسية والذي يتطلب مساهمة فعالة ومباشرة من كل فرد في هذا المجتمع الفلسطيني.

أما أهم النتائج التي توصل إليها البحث فهي كالتالي: كان هناك تقبل مفاجئ من قبل الحضور عامة لفكرة التحدث عن موضوعات جنسية مختلفة، كما عبرت الغالبية عن إدراكها لأهمية التربية/التثقيف الجنسي على كافة المستويات.

كان الحضور الأقل ثقافة أكثر تقبلاً للموضوع وتعطشاً للمعرفة، النساء المسلمات المتعصبات دينياً أظهرن جرأة وطلاقة في التعبير عن القضايا الجنسية أكثر من غيرهن من النساء غير المتعصبات دينياً أو المسيحيات المتدينات اللواتي شاركن في ورشات العمل.
الشابات اللواتي يساهمن بأعمال تطوعية مختلطة وشاركن في ورشات العمل كن أكثر إيجابية في مواقفهن تجاه القضايا الجنسية من غيرهن غير المتطوعات ومن الشباب الذكور عامة.

كانت الغالبية من الذكور المشاركة في الورشات واعية لعدم العدالة الإجتماعية والدينية والإقتصادية بحق المرأة، إلا أن أقلية ضئيلة من الذكور الشباب أعلنت عن عزمها في لعب دور فعال من أجل تغيير الأدوار الإجتماعية المرسومة للجنسين ومشاركة الإناث في نضالهن من أجل المساواة وذلك بعكس الفتيات اللواتي أظهرن عكس ذلك.

موضوع الانتهاكات الجنسية والتي تطرق إليها المشاركون والمشاركات في ورشات العمل تقع ضمن إطارين : الأول، من خلال ما ذكره المهنيون/ات عن الحالات التي يواجهونها خلال عملهم كمقدمي خدمات، والثاني من خلال اعتراف بعض الحضور بشكل منفرد بأنهم كانوا قد تعرضوا لاعتداء جنسي في مرحلة ما من حياتهم، في غالبية هذه الحالات كانت الضحية أنثى وربما يعود ذلك إلى عدد الإناث اللواتي شاركن في ورشات العمل والذي يفوق عدد الذكور بكثير.
أخيراً، تؤكد هذه الورقة على الدور الإيجابي الذي لعبته المنظمات الأهلية في تعزيز أهمية التثقيف الجنسي كأساس مهم للصحة الجنسية.

مقدمة البحث

كثيراً ما يسأل الكبار الصغار "ماذا ستصبح/ين عندما تكبر/ين؟" أما الإجابات فكثيرا ما تكون مرتبطة بأحلام الأهل أنفسهم تجاه مستقبل أولادهم فنسع إجابات مثل "طبيب/ة، محامي/ة، رجل أعمال، ومعلمة…. الخ، أما أنا فلا أذكر بالتفصيل ماذا أردت أن أصبح عندما أكبر لأنني كنت أغير رأيي كل فترة وفترة بمناسبة وبدون مناسبة. على أية حال فإن موضوع الجنس أو التربية الجنسية لم يكن أبدا من ضمن المواضيع التي كانت على قائمة أحلامي الصغيرة ولا حتى الكبيرة لأنني في النهاية اخترت أن أكون ممرضة وتوجهاتي "الجنسية" جاءت كنتيجة للممارسة والعمل في مهنة التمريض.

بعد تخرجي من مدرسة التمريض في الجامعة العبرية عملت كأية ممرضة ولفترة غير قصيرة في المستشفيات، لكن نتيجة الجمود النفسي والفكري الذي فرضته علي/ قصرا/ أجواء المستشفى والمرضى قررت الإنتقال للعمل مع أناس أصحاء في المجتمع واخترت لهذا الغرض مدرسة في إحدى قرى الجليل.

هذا الإنتقال شكل مفترق الطرق في حياتي المهنية لأن العمل مع الناشئة والشبيبة في تلك المدرسة كان بمثابة النافذة التي أطللت من خلالها على جوانب إجتماعية مرضية لم أتحسسها خلال تجربتي السابقة وربما يعود ذلك إلى جهلي بها وحواجزي النفسية التي عرقلت مسيرة وعيي لوجودها ولذلك فقد صدمتني الحقيقة.

أما القصة التي غيرت مجرى حياتي فكانت قصة فتاة تتعلم في المدرسة التي انتقلت إليها وكانت في الثانية عشرة من عمرها آنذاك (سنة 1989) والتي اصطحبتها أمها إلى الطبيب ليفحص الإنتفاخ في البطن الذي تعاني منه الفتاة، تبين من الفحص أن الفتاة حامل في الشهر الثامن والفجيعة الكبرى التي توصل إليها التحقيق في الموضوع هي أن هذه الفتاة اغتصبت من قبل ستة ذكور تتراوح (أعمارهم بين 14 و 16 سنة) ومن المدرسة ذاتها، ومما يزيد الطين بله أن الفتاة كانت على درجة من السذاجة والجهل جعلتها تقتنع بأن ما يفعله الشباب بها كان مجرد، لعب ولهو من النوع الذي لا يستحق إخبار أحد به، وبما أنها كانت سلبية (passive) كالغالبية العظمى من فتياتنا العربيات فقد رضيت بهذا الإستغلال الجسدي والنفسي كقدر فرضه عليها أولئك الذكور ولم تتمرد، بالإضافة إلى ذلك افتقرت هذه الفتاة أجواءاً دافئة في البيت لدعمها وتنشئتها بشكل صحي فالأب مدمن على الكحول والأم مغلوبة على أمرها فتلجأ إلى بدائل أخرى غير مرتبطة بالبيت لبحث الحب والحنان، أما مصير الفتاة فكان متوقعا فقد وضعت في أحد ملاجئ حماية ضحايا العنف تحت عنوان سري وإسم مستعار إذ أصبحت في نظر المجتمع مذنبة ومجرمة ومن الواجب قتلها على يد أحد "ذكور العائلة" لمحو وصمة العار التي حلت عليهم بسببها.

باختصار، فقد بدأت العمل بالمدرسة عندما كانت هذه "القصة" في أوجها (لأن الإعلام المحلي دجج صفحاته بالحديث عن هذه الفضيحة) وفوجئت بالتستر والتعتيم الذي فرضته إدارة المدرسة على الطلاب بحيث منع طاقم التدريس من ذكر الموضوع ولا حتى مع زملاء الفتاة الذين يدرسون معها في الصف ذاته. وعندما اعترضت على ذلك فوجئت بمدير المدرسة يخاطبني بهذه الكلمات التي لن أنساها: "مجتمعنا العربي محافظ ولا نستطيع أن نتحدث مع الطلاب في مواضيع حساسة كهذا الموضوع" (لا حاجة للقول بأنه لم يلفظ كلمة جنس). أما أنا فكنت جريئة إذ أجبته: "إذا كان عندك في المدرسة أولاد تغتصب وفتيات تحمل فلا أعتقد أن مجتمعك العربي محافظ بل متخلف وجاهل لأنه يتستر على مشاكله الإجتماعية ولا يحاول للحظة أن يواجهها ولذلك تنفجر كالبركان هنا وهناك كما حدث في قصة الفتاة.... أعتقد أن من واجب هذه المدرسة المتمثلة بطاقمها التدريسي أن تلعب هذا الدور وتكون رائدة بالتجربة ومثالا يحتذى به من قبل مدارس ومؤسسات أخرى".

وبعد نقاش حاد وطويل قررنا أن نخوض التجربة بشرط الحصول على موافقة الأهالي، وكانت الخطوة الأولى تجميع الأهالي لإقناعهم بضرورة الحديث عن موضوع "الجنس" بكل تعقيداته وإشكالياته، وكانت الحجة المنطقية التي استخدمت من قبلنا هي أن الشبيبة المراهقة ستبحث عن المعلومات في كل مكان ابتداء من جلسات المقاهي، الجرائد والمجلات، القصص الغرامية والجنسية الرخيصة، وانتهاء بالتلفزيون والأفلام السينمائية التي تعطي مضامين (massages) متناقضة عن الجنس والحب ومقاييس الجمال والرجولة والأنوثة ... الخ.

كل هذه المصادر عبارة عن أدوات تجارية هدفها إغراء الناس على الإستهلاك والشراء، أما المعلومات التي تحصل عليها الشبيبة فهي معلومات خاطئة تتناقلها الأجيال فيما بينها مثلهم مثل الأعمى الذي يقود أعمى آخر، وأكدنا للأهالي بأننا على استعداد لتقديم الجانب العلمي والموضوعي "للجنس" بهدف التنوير وفتح المجال أمام الشبيبة في أخذ قرارات مسؤولة تتعلق بحياتهم الجنسية والإجتماعية عامة.

كانت النتيجة موافقة الأهل على هذا الإقتراح وهنا دخلت التجربة محكها الحقيقي لأنني عندما عدت إلى الطلبة وطلبت منهم اقتراح موضوع للنقاش في مجال "الصحة" تمحورت الغالبية الساحقة من الاقتراحات في موضوع "الجنس" (أمثلة: العادة الشهرية، العادة السرية، الحمل، الولادة، الأيدز، الأمراض الجنسية المعدية، التغييرات الفسيولوجية في فترة المراهقة .... الخ)، وهنا بدأت المشكلة لأن أسئلة الطلبة الحساسة كانت تتطلب معرفة شاملة عن الموضوع للتمكن من إعطاء إجابات محددة ودقيقة للأسئلة الموجهة منهم، وهذا ما لم أحصل عليه خلال دراستي الجامعية السابقة، كنت أعرف مثلا أن ممارسة العادة السرية لا تسبب العمى ولا أمراض جسدية أخرى لكنني لم أكن أعرف كم مرة يستطيع الإنسان ممارستها أو ما هو الأثر النفسي لممارستها أو الإمتناع عنها .... الخ، التجربة القصيرة مع تلك المجموعة من الشبيبة جعلتني أكتشف بأنني أستطيع أن أتحدث عن موضوع الجنس وبدون حواجز إلا أنني أفتقر إلى المعلومات الدقيقة حول الموضوع. ومن هنا جاءت فكرة مواصلة دراستي للماجستير في هذا الموضوع لأعود بعد ثلاث سنوات وأبدأ العمل على الأرض مع الناس من خلال ورشات عمل بدأت قبل البدء بهذا البحث واستمرت من خلاله لتثبيت التجربة وإغنائها.

ربما تبدو قصة هذا البحث طويلة إلا أنني وجدت أن من المهم ذكرها في البداية لأن هذه القصة هي مفتاح وبداية كل ورشة عمل أقوم بها. هذه القصة هي محور تعريفي لذاتي أمام المجموعات المختلفة التي أعمل معها، وهي القصة التي تنقل المشاركين/ات إلى أجواء جدية أخرى تضع موضوع الجنس في إطار واقعي، يومي، جدي، مؤلم أحيانا وساخر في أحيان أخرى، تعطي هذه القصة الفرصة للمشاركين/ات لأن يخرجوا موضوع "الجنس" من القوالب المغلقة والمحددة ذات المضمون الواحد والجامد ليضعوه ضمن مفاهيم شاملة وعامة وضمن تعابير ومعايير إنسانية، إجتماعية، سياسية، إقتصادية، وحضارية. لهذا المدخل تأثير مقنع ومهدئ لبعض الناس الذين يدخلون الورشة وهم في حالة تساؤل وتشوق لمعرفة ماذا سيحدث في اللقاء، أو للبعض الآخر الذي يحضر للورشة وهو على قناعة تامة بأنها ستشجع الإباحية وتغيير القيم العربية والدينية ولذلك تنهمك هذه المجموعة في تحضير ردود هجومية ضد أي محاولة تخدم ذلك الهدف.

لكل الأسباب التي ذكرت أعلاه، ارتأيت أن أبدأ ورقتي هذه بسرد القصة التي ساهمت في وصولي إلى ما أنا عليه اليوم، قبل حوالي عامين قدمت ل WUS مشروع بحث تحت عنوان: المعلومات الجنسية وأثرها على المواقف والسلوكيات/التصرفات الجنسية لدى طلبة الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان البحث عبارة عن بحث تجريبي (Experemental Research)، أي توزيع مجموعة من الطلبة في حلقات وورشات عمل يناقش بها موضوع "الجنس" من كل جوانبه مع تقديم امتحان قبل وبعد الورشات Pre -Test & Post-Test )) لكل المجموعات (Experemental & Control Groups) وذلك لفحص مدى تأثير المعلومات الجنسية على المواقف والمفاهيم الجنسية التي يحملها طلبة الجامعات. كان من المخطط أن ترفع نتائج البحث إلى راسمي السياسات العامة للضغط باتجاه بناء برامج للتثقيف الجنسي تدخل في المناهج التعليمية الرسمية لتدرس لطلبة المدارس منذ جيل مبكرة. وكنت على قناعة تامة بأن المناهج والقانون الإلزامي للتثقيف الجنسي هو الحل الأمثل لمواجهة الجهل الجنسي وما ينتج عنه من مشكلات نفسية واجتماعية ....الخ. هكذا تلخصت فكرة مشروع البحث كما قدمت في البداية.

لكن التجربة العملية مع الناس هزتني وأرغمتني على الهبوط من برجي العاجي لكي أرتطم حقيقة بأرض الواقع الذي ليس له علاقة بنمط تفكيري وتصوراتي خصوصا فيما يتعلق بالمحتوى الفلسفي العام لإشكالية "الجنس" كتعبير وكإنعكاس حضاري وليس كفكرة أمريكية/غربية تتلخص بشهادة الماجستير التي حصلت عليها في نيويورك. لقد برزت العديد من التساؤلات في ورشات العمل الأولى التي قمت بها والتي كان لا بد من وقفة أمامها لمواجهتها والتفكير فيها.

أمثلة على هذه الأسئلة: ما هي المواضيع الجنسية الملائم طرحها في مجتمعنا الفلسطيني وأيها غير قابل للطرح في هذه المرحلة؟ هل من الممكن تصميم منهاج تدريبي موحد يمكن تطبيقه في كل المواقع الفلسطينية؟ لو أدخلنا موضوع التربية الجنسية في المنهاج التعليمي فهل يكفي ذلك لحل مشكلة الجهل الجنسي والمشاكل الجنسية والإجتماعية النابعة عنها والتي يعاني منها طلبتنا وشبيبتنا الفلسطينية؟ ماذا عن الأهل، كيف يمكن إشراكهم في عملية التثقيف الجنسي؟ وماذا لو رفضوا تعريض أولادهم لمثل هذه المعلومات؟ ما هي أفضل طريقة لتضييق الفجوة بين ما يعرفه الأهل فعليا وبين ما سيعرفه الأولاد وبين ما يريد الأهل فعليا أن يعرف أولادهم حول حياتهم وممارساتهم الجنسية؟.

ليس من السهل أيجاد حلول ملائمة ولا إجابات واضحة عن جميع هذه التساؤلات خصوصا لو أمعنا النظر في التجارب العديدة لبعض الدول في مجال التربية الجنسية وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية. مثال ساطع، التقييم الذي أجرته الباحثتان "واتلي وترودل" على أشهر وأكبر منهاجين مدرسيين للتثقيف الجنسي وهما "Teen Aid” و “Sex Respect” والذي كانت نتيجته أن هذين البرنامجين، وعلى الرغم من سمعتهما الرفيعة، غير فعالين والى حد ما فاشلين، المعلومات الجنسية والأسلوب التعليمي للبرنامجين فشلا في تحقيق الهدف الأساسي لهما ألا وهو تقليل نسبة حالات الحمل غير المرغوب فيه لدى الفتيات المراهقات غير المتزوجات، وتقليل عدد حالات الأمراض المنقولة جنسيا وخصوصا حاملي فيروس الإيدز ومرضى الإيدز في المجتمع الأمريكي (Whatley & Trudell, 1993, Trudell & Whatley,1991).

على الرغم من اختلاف المشكلات والاحتياجات في مجتمعنا الفلسطيني إلا أن التجربة الأمريكية جديرة لأخذ بعين الإعتبار خلال التخطيط لتبني سياسات متعلقة بالتثقيف الجنسي. وبما أن المشاركة الفعالة للناس هي وحدها الكفيلة بتحديد الحاجات والمشكلات والحلول الملائمة لها (Warner & Bower 1995)، فقد نبعت الحاجة لإجراء العديد من ورشات العمل حول الموضوع لتجميع أكبر قدر من المعلومات من الناس وعلى كافة المستويات.

ورشات العمل امتدت من عكا، أقصى الشمال حتى غزة، أقصى الجنوب، مرورا في الجليل والمثلث (أم الفحم والخضيرة)، نابلس، الخليل، بيرزيت، رام اللة، القدس، بيت لحم، وراهط في النقب، كانت ورشات العمل مشوقة للغاية بالنسبة لي بحيث أنني لم أدع أية فرصة أو دعوة تفوتني بل اشتركت في جميعها وقد ساهم الحضور من كل الفئات في المشاركة وتفاعلوا بشكل إيجابي جدا.

إستلمت من المشاركين/ات المئات من أقاصيص الورق التي احتوت الكثير من أفكار الناس، آلامهم ومتاعبهم الجنسية غير المعزولة عن الواقع المرير الذي يعيشون فيه، احتوت الأوراق على قصص شخصية وتساؤلات عديدة ومفاهيم مختلفة عن موضوع الجنس كما ينظر إليه من قبل المجتمع والناس بشكل عام، كانت هذه الأوراق بالإضافة إلى "الحوارات" والنقاشات العديدة خلال ورشات العمل هي المحور ومركز الثقل لهذا البحث، لقد جمعت الأسئلة والأفكار وصنفت تحت عدة عناوين تعكس الأوجه المختلفة للجنس.

بناء على هذه الأسئلة والملاحظات تم تصميم استمارة البحث التي ستتم تعبئتها من قبل طلبة الجامعات المذكورة أعلاه بحيث لا يقل حجم العينة عن الألف طالب وطالبة، سيشكل الإستفتاء الذي سيطبق خلال الأشهر القليلة القادمة، الجزء الثاني والمكمل لهذا البحث ولذلك ففي هذه الورقة سيتم التركيز فقط على الجزء الأول المتعلق بورشات العمل، ماهيتها، تعريفها، المشاركين/ات بها، الإنطباعات ومدى الفائدة المرجوة منها على مستوى التغيير الإجتماعي والتأثير على السياسات العامة.

الإطار والمحتوى المعرفي

توصلت الأبحاث المتعلقة بالموجات فوق الصوتية (Ultrasound) أن الممارسات الجنسية لدى البشر تبدأ في مرحلة مبكرة جدا من نموهم، فقد وجد أن الذكور يحدث لهم انتصاب في القضيب وهم لا يزالون في رحم أمهاتهم أو بعد ولادتهم مباشرة وقبل قطع الحبل السري. أما الإناث، فبعد بضعة ساعات من ولادتهن يحدث ترطيب وإفرازات مهبلية تشبه تلك التي تحدث للمرأة البالغة بعد استثارتها الجنسية (Layfeldt, 1981).

عشرة أشهر هو متوسط الجيل الذي يبدأ به معظم الأطفال دروسهم في البيولوجيا والأناتوميا، والذي يبدأ به الأهل في تعليم أولادهم أين أعينهم، أنوفهم، آذانهم...الخ، ولكنهم يقفزون عن الأعضاء الجنسية لينتقلوا رأسا إلى الأرجل والأقدام.

"تتحسس غالبية الأطفال أعضاءها الجنسية وهذا يعتبر بالأمر الطبيعي لأنهم يشعرون بلذة معينة ليست لذة جنسية، الطريقة التي يرد بها الأهل على هذا التصرف مهمة جداً، إذا جعلوا الطفل يعتقد/تعتقد بأن هذا التصرف "وسخ" أو "عيب"، فسيؤثرون على موقف الطفل اتجاه جسده/ها بصورة سلبية" (King, Camp, & Downey, 1991).

في السنة الثانية، يصل حب الإستطلاع لدى الأطفال ذروته ويرغم الأهل على التدخل أو قول شيء ما عن هذه المنطقة المبهمة التي تعطي إحساسا لذيذا عند لمسها. عندها يلجأ الأهل إلى تسميات غريبة مبهمة تعكس عدم ارتياحهم وارتباكهم فيدعون المكان "حمامة" "فرفور"، "ننوش".....الخ، يرافق هذه التسميات المضحكة قوانين صارمة تجعل أعضاء الطفل الجنسية منطقة محظورة لا يجوز لمسها أو الحديث عنها، هذا التحريم يشكل حجر الأساس للجهل الذي تعاني منه الغالبية في مجتمعنا بحيث يصبح مركبا أساسيا لحياتهم الجنسية المستقبلية.

الإستغلال الجنسي لدى الأطفال

إحدى الظواهر التي تنبع من جهل الطفل "لهويته الجنسيه" والتي من الممكن أن تؤثر سلبيا على وضعه/ها النفسي لسنوات عديدة هي ظاهرة الإستغلال الجنسي أو الإعتداء الجنسي، للأسف فإن التعرض للإستغلال أو العنف يبدأ في سن مبكرة جدا وفي معظم الحالات يرتكبها أحد أقرباء الضحية (الأب، العم، ابن العم أو الخال ...الخ) أو أحد أصدقاء العائلة.

في استفتاء أمريكي عقدته مؤسسة YMCA Rape Crisis Program (1988) وجد أن واحدة من بين كل أربع نساء وواحد من بين كل سبعة ذكور سيكون أو ستكون ضحية إعتداء جنسي قبل بلوغهم/ن الثامنة عشرة من العمر. المصدر ذاته وجد أن 80% من المعتدين كانوا معروفين للضحية. (Kinsey1953)
الطبيب المشهور الذي كان صاحب أول وأكبر استفتاء عن الميول والسلوكيات الجنسية لدى الناس في أمريكا بحيث شملت عينته أكثر من عشرة آلاف رجل وامرأة، وجد أن 24% من النساء اللواتي التقى بهن أكدن على تعرضهن لاعتداء جنسي خلال مرحلة الطفولة، أما (Gagnon,1977) فقد وجد أن 20% - 25% من النساء اللواتي تعرضن لاعتداءات جنسية كن من الطبقة الوسطى بينما 33% - 40% من الضحايا كن من طبقات اجتماعية فقيرة.

في مؤتمر "الطفل العربي في اسرائيل" الذي انعقد في أيار عام 1993 "بجفعات حبيبا"، عرض الدكتور مروان دويري، الطبيب النفسي من الناصرة، نتائج بحثه عن الإستغلال الجنسي ضد الأطفال العرب داخل الخط الأخضر (منطقة 1948). وجد دكتور دويري بأن 50% من الذكور و31% من الإناث صرحوا بأنهم كانوا عرضة للمس بأعضائهم الجنسية رغما عنهم من قبل آخرين، 23% من الذكور و 13% من الإناث قالوا بأنهم تألموا أثناء الإعتداء أو أنهم أرغموا على التعري أمام المعتدي، على الرغم من أن العينة التي جرى البحث عليها كانت صغيرة (184 طالبا ً وطالبة تتراوح أعمارهم بين 6 - 12) إلا أنها مؤشر سلبي وخطير يؤكد على تفشي هذه الظاهرة بمجتمعنا.
صرح المجلس الأعلى لحماية الطفل في اسرائيل في كتيبه السنوي لعام 1993 للإحصائيات المتعلقة بالطفل، أنه في عام 1992 تعرض 150 طفلا عربيا للتحقيق بعد أن تبين أنهم ضحايا لاستغلال جنسي من قبل من هم أكبر منهم، بسبب الضغوطات والمحرمات الإجتماعية والحضارية العربية فإن العديد من الضحايا يلتزمون الصمت ولا تصل قصصهم إلى الشرطة أو الإعلام مما يجعل الرقم 150 والذي ذكر أعلاه عددا تقريبياًً.

يعتقد دكتور دويري أن أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى العنف الجسدي المرتكب ضد الأطفال يعود إلى تقاليد وقيم مجتمعنا العربي الذي يربي الأطفال على مفاهيم الاحترام، الطاعة وأحيانا الخضوع لرغبة الكبار مهما كلف الأمر، وبرأيي أن هذا الأمر صحيح لأن أساليب التربية والتعليم المتبعة إن كان في البيت أو في المدرسة لا تترك حيزا لأطفالنا للإبداع والتعبير عن الرأي والمشاعر، أسلوب "التلقين والتلقي" هو تجسيد لفكرة الفاعل والمفعول به بحيث يلقن الكبار ويتلقى الصغار الحقائق المطلقة، المعلومات، فلسفة الحياة، الفكر السياسي والإنتماء الفصائلي (تلميذ الصف الأول يعرف بأنه فتحاوي أو من حماس أو جبهاوي ...الخ)، الإهانات والتوبيخ، والعنف الجسدي والجنسي. تقبل الحقائق كما يراها الكبار هو الأسلوب السائد ولذلك فإن التزام الصمت وتحمل العنف الجسدي والنفسي من قبل الأطفال هي محصلة حتمية لهذه الآلية "التعليمية-التربوية"، لا يعلمنا أهلنا ومدرسينا كيف نصرخ ونقول "لا" لشخص "كبير" ولذلك نلتزم الصمت حتى عندما نشعر بعدم الإرتياح أو الألم الذي يسببه الكبار لنا، لا أحد يعلمنا مفهوم "الخصوصية"، خصوصية أجسادنا ونفسياتنا ومشاعرنا فيصعب علينا التمييز بين لمسة "التحبب" ولمسة "الإستغلال"، الضعف والرضوخ وأحيانا الخوف من المواجهة ومقاومة المعتدين من أجل الدفاع عن النفس، كلها أصبحت جزءا لا يتجزأ من نفسياتنا كأطفال وككبار لتشكل حجر عثرة أمام مقدرتنا على وقاية أنفسنا وأحيانا وقاية أولادنا من مثل هذه الحوادث أو التبليغ عنها والتوجه لطلب المساعدة والعلاج، مشكلة الإعتداءات الجنسية المرتكبة ضد الأطفال موجودة في الضفة الغربية وغزة وبنفس الحدة كما هي داخل الخط الأخضر وكما هي في معظم الأقطار العربية، إلا أننا نفتقر إلى الإحصائيات التي يمكن الإستعانة بها لغرض البحث وإثبات حجم المشكلة. تعتمد المصادر المتوفرة على إفادات كلامية من عاملين وعاملات في مجالات الصحة والتعليم والإرشاد المجتمعي بشكل خاص.

وللأسف، يجد هؤلاء الأشخاص صعوبة بالغة عند مواجهة مثل هذه القضايا وذلك يعود إما للحواجز النفسية تجاه موضوع "الجنس" بشكل عام ومع الأطفال تحديدا وإما بسبب الفقر بالمعلومات المتعلقة بهذا الموضوع وشحة المصادر العلاجية والقانونية التي يمكن الإستعانة بها، في أغلب الأحيان يحتاج هؤلاء المهنيون/ات إلى الكثير من الإقناع للكشف عن حالات اعتداء مرت عليهم خلال عملهم، وإن فعلوا فيكون ذلك ببالغ السرية والحذر.

أما تجربتي الشخصية في ورشات العمل العديدة التي أقمتها هنا وهناك فقد فتحت أمامي أبوابا من الصعب علي إغلاقها وكثيرا ما كنت أتمنى لو أنني لم أطلع عليها أبدا بسبب الألم الذي أشعر به تجاه الضحايا وشعوري بالعجز أمامهم لأنني لست معالجة جنسية ولا أملك الأدوات الأساسية التي قد تساعد في التخفيف من حدة أزمتهم، تجدر الإشارة إلى أنه بعد كل ورشة عمل أو أثناء الإستراحة يبدأ "المسلسل" الذي أكرهه وأحبه في آن واحد والذي يتوجه به ألي بعض الحضور بشكل شخصي ليقصوا علي بعض متاعبهم/ن. أحبه لأنه يعكس الثقة العميقة التي يضعها الحضور بي لدرجة إشراكي بمشكلة تتعلق بصميم خصوصيتهم وأصعب موضوع يمكن لإنسان أن يتحدث عنه لشدة حساسيته، هذا إلى حد ما يعكس نجاح الورشة ونجاح أسلوب الإتصال المباشر وغير المباشر بيني وبين المجموعة من جهة، ومن جهة أخرى الإتصال والعلاقة مع الذات لدى كل مشارك/ة لأن أحد الأهداف الأساسية لورشات العمل هو تحدي الذات ومواجهتها على عدة مستويات أهمها الصدق، إذا فشل الإنسان في مواجهة حالته الخاصة والبحث عن حلول لها فلن يكون باستطاعته مواجهة مشاكل الآخرين أو حتى القدرة على مجرد الإستماع لهمومهم المشابهة لهمومه لأن فاقد الشيء لا يعطيه. بالإضافة إلى ذلك، فإن إرغام الذاكرة على اجترار الحدث وتحريره من زنزانات اللاوعي يؤدي إلى شعور عارم من الألم قد يشجع الشخص على "الفضفضة" والتحدث عن الموضوع، وفي أسوأ الأحوال يساعد الشخص على التعاطف مع آخرين مروا بنفس التجربة.
أما سبب كرهي لهذا "المسلسل" فهو لأنه يذكرني بمدى عجزي أمام حجم المشكلة ولأنه يغمرني بموجة الغضب والألم التي تتراكم مع كل تجربة إنسانية أخرى مؤلمة أسمع عنها، تأتي هذه "المسلسلات التراجيدية" لتؤكد من جديد أن هناك من يصرخ ويستغيث للنجدة لكنها صرخات مكتومة تخنقها أذرع هذا المجتمع الرجولي المتمثل بعقائده وقيمه ومحرماته، بالمناسبة، كل الذين توجهوا إلي كانوا إناثا ما عدا ثلاثة ذكور أحدهم بسبب مشكلة تتعلق بمقدرته الجنسية والإثنان الآخران بسبب تعرضهما لاعتداء جنسي من قبل أحد أفراد العائلة في مرحلة الطفولة، أما مشاكل الإناث فقد كانت تدور أيضا حول هذين المحورين لكن كفة الميزان ترجح الإعتداءات الجنسية على المشاكل الأخرى.

هذا بالإضافة إلى أقاصيص الورق التي ذكرتها سابقا والتي حوت قصصا مؤلمة تسبب لي شعورا عميقا من الإكتئاب والتعاطف غير المنطقي أحيانا مع هؤلاء الرجال والنساء، أود أن أؤكد ثانية على أنه حتى الآن لم تؤخذ المبادرة من أي مؤسسة في الضفة والقطاع للتطرق إلى موضوع العنف الجنسي والجسدي بكل أشكاله والعمل على مستوى التعبئة الجماهيرية من خلال تجارب واحتياجات الناس الحقيقية وأيضا على مستوى راسمي السياسات وسن القوانين لحماية الضحايا ومعاقبة المعتدين، حتى الآن كانت هناك مبادرات شخصية ومؤسساتية نسوية إلا أنها تقتصر على دراسات علمية لظاهرة العنف الموجه ضد النساء بشكل خاص وتفتقر هذه الدراسات إلى الإحصائيات المتعلقة بالاعتداء الجنسي، لا يوجد أي بحث نوعي وعميق مبني على مجموعات مركزة من الضحايا أو المعتدين ليشمل الإشكالات الإجتماعية، الدينية، الحضارية، والإقتصادية التي تلعب دورا هاما في الحدث وأبعاده على مستوى الضحية وردود فعلها ونظرة المجتمع وعائلتها لها ...الخ من تعقيدات قد تنتج عن هذا الحدث العنيف.

إنطلاقاً من واقع الفقر وشحة المصادر المتعلقة بالسلوكيات الجنسية عامة وبالأستغلال أو الاعتداء الجنسي خاصة، واستنادا على احتياجات الناس التي لمستها في ورشات العمل كما ذكرت أعلاه فقد خصص جزء من الإستمارة التي صممت لطلبة الجامعات ليتناول موضوع الإستغلال الجنسي ويتضمن هذا الجزء أسئلة شخصية تتعلق بالإنتهاكات الجنسية التي قد يكون الطلبة قد تعرضوا لها في مرحلة ما من حياتهم/ن، نتائج البحث ستعطينا صورة أوضح عن حجم المشكلة خصوصا لأنه كما ذكرت سابقا سيعبيء الإستمارات أكثر من ألف طالب وطالبة وربما تشكل تجربة البحث محفزاً لمبادرات أخرى على مستويات مختلفة في فلسطين وربما في دول عربية أخرى.

بما أنني ذكرت الدول العربية فسأذكر جزءا من تجربتي في ورشة العمل التي يسرتها/قدتها في تونس والتي شارك فيها مندوبون/ات عن برامج الشباب في اتحادات "تنظيم الأسرة" في أربع عشرة دولة عربية. فقد وجدت بأن المتاعب والمقلقات التي تعاني منها شبيبتنا الفلسطينية لا تختلف أبدا عن تلك التي تعاني منها شبيبة الوطن العربي بأكمله. "المسلسلات" أعادت نفسها في هذه الورشة وأقاصيص الورق حوت ألاما ودموعا قد تكون أعمق من تلك التي لمستها هنا، المحزن في الموضوع هو أن الحضور اعتبر الوضع في فلسطين مرفها "لأن لديكم على الأقل من يتحدث ويثير الموضوع علنا" كما عبر عنه بعض المشاركين/ات في جلسة التقييم. هناك مبادرات في بعض الدول العربية كالسودان ومصر مثلا في الحملة ضد عادة ختان البنات (سأتطرق اليها لاحقا)، ومبادرة أخرى في الأردن قادتها نائبة البرلمان توجان الفيصل في ندوة تحت عنوان "العنف ضد الأطفال - الإنتهاك والتعدي الجنسي"، دعت السيدة توجان الفيصل إلى تغيير القانون الجزائي الأردني الذي ينص على أن الضحية فقط لها الحق في الشكوى وإذا كانت الضحية قاصرا فإن الأهل هم المؤهلون للشكوى وإلا لن تقبل. هذا يعني أن شهادة أو دعوى معلم/ة أو طبيب/ة يكتشف بأن طفلا معينا تعرض إلى اعتداء جنسي غير مقبولة ضمن الصيغة الحالية للقانون. من ناحية أخرى غالبية الأطفال الضحايا تخاف من إخبار السلطة بالحقيقة، وقد صرحت السيدة توجان بقولها "أننا نخفي رؤوسنا في الرمال وندعي أن كل شيء على ما يرام بدلا من مواجهة الحقائق" (فرحان، 23/3/96) صحيح أن هذه المبادرة جريئة وتستحق الإحترام والتقدير إلا أنها للأسف غير كافية أولا لإجرائها لمرة واحدة وثانيا لأنها تعمل على مستوى القوانين ورسم السياسات العامة بمعزل عن التعبئة الجماهيرية النابعة من العمل المباشر مع الناس.

من كل ما ذكر أعلاه يمكننا أن نستنتج بأن ظاهرة العنف الجنسي متفشية في مجتمعنا العربي عامة والفلسطيني خاصة وبدرجة تكفي لأن نقلق ونتحرك باتجاه خلق حلول للمشكلة، للأسف، الجهل وانعدام الفرص أمام الناس للنقاش والحوار وإبراز هذه العاهات الإجتماعية المؤلمة كلها عوامل تساهم في تفاقم المشكلة وانتشارها.

كيف نمنع الإنتهاكات الجنسية ؟

مسؤولية الحلول تقع على عاتق كل فرد من أفراد هذا المجتمع ولذلك علينا أن نتشارك في إيجاد الحلول الملائمة لواقعنا الفلسطيني وتطبيقها.

تَعلّم/ي أنت وابنك وابنتك من خلال إثارة حوار فيما بينكم ومع آخرين من حولكم.

الحوار الجنسي ومرحلة المراهقة

تشير الدراسات العديدة إلى أن الأطفال والناشئة بشكل عام لا يتلقون أي نوع من الإرشاد أو مصدر للتعلم الجنسي من أهلهم، (Allgeier,1991king,Camp,Downey, 1991 Mc Cammon,1993. Hyde,1990)" المصدر الأول للمعلومات الجنسية لدى الغالبية العظمى من الأطفال هو الأصدقاء، وهذا تطبيق تام للمثال الكلاسيكي " للأعمى الذي يقود أعمى "، تأتي الأمهات في المرتبة الثالثة على قائمة مصادر المعلومات والآباء في أسفل القائمة كمصدر معلوماتي عن الجنس" (Hyde, p. 640)، من الواضح أن الوضع في مجتمعنا الفلسطيني لا يختلف في معظم البيوت خصوصا أن ذكر كلمة جنس غير محبذ وأحيانا محرم.

مشكلة الجهل وانعدام الحوار الجنسي لا تقف عند الطفولة بل تبدأ منها وتنمو كالشجرة المغروسة في أرض بالغة الخصوبة. في فترة المراهقة يصل اضطراب وارتباك الناشئة إلى ذروته ومعهم يضطرب ويرتبك أهلهم الذين ينهمكون في محاولات يائسة "لإشغال" أولادهم بأمور أخرى تبعدهم عن الأفكار "العاطفية والجنسية التافهة" بنظرهم، في أحسن الأحوال يهمش الأهل موضوع الجنس والمشاعر ويكون توجههم "تلقينيا" يرتكز بالأساس على وصية "لا تفعل/ي، لا تحب/ي، إحذر/ي...... الخ من "اللاءات التي ليس لها أي تأثير لدى الشبيبة المنشغلة بالتغييرات النفسية والجسدية التي يمرون بها.
في كل مرة يلاحظ الشاب الخطوط السوداء فوق فمه ويتحسس الشعر الذي بدأ بالنمو تحت إبطيه وعلى عانته وفي كل مرة ينطق بها ويسمع صوته الأجش، وفي كل مرة يستيقظ بها وبيجامته ملتصقة بفخديه نتيجة احتلام ليلي سببه حلم أفلاطوني، وفي كل مرة يحدث له انتصاب غير إرادي ربما بسبب احتكاك بنطاله بقضيبه ...الخ, في كل مرة من هذه المرات سينهمك الشاب رغما عنه "بهويته الجنسيه" أو مشاعره الجنسية الجديدة التي يجب أن تعطى حقها، هذه "المرات" لا تحدث مرة في الشهر وإنما في كل دقيقة وفي كل ثانية لتشكل مرحلة صعبة وحرجة في حياة الشاب والشابة - التي ينطبق عليها أيضا كل ما ذكر أعلاه - ولذلك فإن جميع محاولات الأهل في إخماد وتهميش هذه المشاعر والمتغيرات والمقلقات اليومية لدى أولادهم الناشئة مصيرها الفشل.

الإناث - أمثلة على القمع الجنسي والإجتماعي

لا حاجة إلى التأكيد على أن معاناة الإناث في مجتمعنا التقليدي والذكوري هذا أكبر بكثير من معاناة الذكور بشكل عام وفي مرحلة المراهقة تحديداً، العادة الشهرية وبروز الثديين هما علامات البلوغ الأولى التي تظهر فجأة وبدون سابق إنذار وأحيانا في ظروف مثيرة للخوف، ليس هناك من يوجه ويهيء البنات لمثل هذه التغييرات بل يتركن لمواجهتها لوحدهن، أما ما يزيد الطين بلة هو أن معاملة الأهل لهن تتغير فجأة بحيث أن الحرية المحدودة التي تمتعن بها في السابق قد ولت مع الريح، فجأة أصبحن في نظر هذا المجتمع التقليدي "ممتلكات ثمينة" وبنفس الوقت خطرة لأن بوسعها مس شرف العائلة ولذلك يجب أن تحرس بحرص، أما المصيبة الكبرى التي تحل على البنات المراهقات فهي أن أمهاتهن اللواتي كن يعطين الحب والحنان والدعم ينقلبن فجأة إلى أداة قمع أو في أحسن الأحوال يلعبن دور "الوسيط" بين البنات والآباء - صانعي القرار الحقيقيين - الذين لا يلعبون أي دور منزلي ويرمون مسؤولية تربية الأولاد على كاهل الأم، وبما أن الأولاد يحملون إسم الآباء بشكل تلقائي فإن أي خطأ يرتكبه الفتى أو الفتاة سيقترن بإسم الأب أي "بنت فلان فعلت...الخ" ولذلك فعلى الأم أن تحسن تربية أولادها وخصوصا البنات لأن أي خطأ من شأنه أن يغضب زوجها ويغضب جميع الرجال في عائلتها ومعنى ذلك نهايتها وبالتالي عليها قمع ابنتها لكي تحافظ على تواصل العائلة وهلم جرا.

الـخـتـان

أحد الأمثلة المتطرفة للقمع الجنسي هو عملية الختان الشائعة في بعض الأماكن بغزة وبالنقب على الرغم من تحريم الإسلام لها (Bouhdiba, 1985).

تقول إحدى الدايات من غزة "الطهور ينظف رأس الفتاة من الأفكار السيئة ويحررها من الشر الذي بداخلها، الختان يجعل الفتيات مطيعات وخدومات" (سها عراف، جريدة هآرتس 1994)، من الصعب أن نفهم أم تجبر ابنتها على خوض هذه التجربة المتوحشة المؤلمة لكن الخوف على "الشرف" الذي ذكر سابقا والخضوع اللاإرادي للقيم والتقاليد الإجتماعية المجحفة بحق النساء والجهل الذي يعاني منه مجتمعنا بأكمله، كل ذلك يشكل البوصلة التي توجههم في ممارساتهم اليومية وأحيانا العقائدية، فهم على علم بأن البظر والشفتين هما مصدر المتعة الجنسية مما يجعل الأهل قلقين على بناتهم من علاقة جنسية قبل الزواج أو مطالبة الأزواج (بعد الزواج) بتمتيعهن جنسيا وكلا الحالتين مرفوضتان، حرمان الفتاة من متعتها الجنسية سيجعلها مطيعة و"مشتهاة"، هكذا تعتقد فئة كبيرة من مجتمعنا الفلسطيني.

من المهم جدا التعمق في تلك المفاهيم التي ذكرت أعلاه وفهمها ضمن الأدوار، العلاقات، ومحاور القوى داخل الأسرة لكي ننجح في تفسير الدور الذي تلعبه الأمهات - خصوصا المنتميات للطبقات الإجتماعية البسيطة - في قمع بناتهن وهن أنفسهن كن ولا زلن ضحايا قمع الرجل لهن. فمثلا، هن اللواتي يلزمن بناتهن بالعمل المنزلي ويدللن بالمقابل أولادهن الذكور، وهن اللواتي يقيدن بناتهن ويحثونهن على الزواج ....الخ، أما السبب فيعود إلى ما يسمى بغشاء البكارة الذي يجب أن ينزف في "ليلة الدخلة"، أي ممارسة جنسية ستفقد الفتاة بكارتها وبالتالي شرف عائلتها ولذلك تتعلم منذ الصغر من أمها أن الزواج هو الهدف الرئيسى الذي يجب أن تطمح الفتاة لتحقيقه لأنه الأداة الوحيدة لحماية الشرف، أما الأنوثة فقد أصبح تعريفها الشعبي مرتبط "بالأمومة والزوجية".

من ناحية أخرى تختلف معاملة الأهل لأولادهم الذكور لدرجة أن العديد من الأمهات لا تمانع اهتمام أولادهن بالبنات بل تشجعهن على ذلك في بعض الأحيان مع بعض التحظيرات (اللاءات)، لا حاجة للتأكيد على أن هذه الحرية المزيفة التي منحت للأولاد الذكور لا تحسن من وضعهم من حيث صحة المعلومات الجنسية بل في الواقع هم معرضون للغة ومفاهيم "الشارع" التي غالبا ما تكون خاطئة ومشوهة لا تمت مع الواقع بصلة، (مثال المعتقد حول الحجم الطبيعي للقضيب وارتباطه "بالرجولة"، أو وظيفة الجهاز التناسلي وكيف يعمل ...الخ).

يمكننا أن نستنتج من كل ما ذكر أن للأمهات دور مهم في نقل القيم الإجتماعية وترسيخها في مجتمعنا ولهن أثر كبير على المواقف والممارسات. هذا لا يعني أن النساء هن المسؤولات عن القرارات القمعية وإنما يستعملن كأداة للقمع في هذا المجتمع الذي يخدم الرجال، (حقيقة أن العمال الفلسطينيين قاموا فعلا ببناء معظم المستوطنات لا تعني أن الفلسطينيين هم الذين أقاموا المستوطنات وشجعوا الإستيطان)، ظاهرة أخرى نابعة عن الجهل وإنعدام الحوار نجدها في الجامعات، حتى الطالبات يحملن العديد من القيم والمفاهيم الخاطئة ويصدقن المعلومات غير العلمية وغير الدقيقة والمتعلقة بالحمل والجنس ووسائل منع الحمل مما يؤدي إلى ممارسات قد تؤثر سلبيا وبشكل محزن على مجرى حياتهن. في هذا السياق أود أن أذكر قصة إحدى الطالبات التي كانت في السنة الثالثة من دراستها الجامعية وكان قد تبقى لها سنة دراسية واحدة قبل التخرج وقررت أن تتزوج من صديقها الشاب التي كانت تربط بينهما علاقة حب طويلة، قرر الزوجان التوجه إلى طبيب نسائي لتزويدهم بحبوب منع الحمل لأن الصبية قررت إنهاء دراستها الجامعية قبل أن تنجب أطفالاً، الفجيعة أن هذا الطبيب "الفهيم" أكد المعتقد الخاطيء الذي كانوا يحملونه ألا وهو أن حبوب منع الحمل تؤدي إلى العقم لدى امرأة لم يسبق لها وأن ولدت من قبل، المحزن أن أطباء وطبيبات هذا البلد يحملون الكثير من المعتقدات الخاطئة ويشجعونها تحت شعار العلم والطب على الرغم من عدم صحتها، (أنظر/ي Masters& Johnson, 1994 Francoure, 1992. Kelly, 1992 عن أقراص منع الحمل وتأثيرها على المقدرة الإنجابية).

ليس هناك حاجة لسرد باقي قصة هذه الفتاة التي لا يؤمن زوجها - كغالبية الرجال الذين التقيتهم في ورشات العمل خلال السنتين الماضيتين- بدوره في تحمل المسؤولية الإنجابية ولذلك فإن استعمال العازل المطاطي (الكوندوم) غير وارد بالنسبة له كوسيلة بديلة لمنع الحمل.

أود أن أؤكد على أن هذه المعلومة الصغيرة (عن أقراص منع الحمل وتأثيرها) قد يكون لها أثر كبير على حياة هؤلاء الطالبات الجامعيات اللواتي اخترن الزواج لأنهن في نهاية الأمر لا يمتلكن حق القرار في الإنجاب، تصبح أجسادهن فجأة ملكا للمجتمع المتمثل بالرجل الذي هو صاحب الحق في كل قرار يتعلق بهن، تضطر بعض الطالبات إلى ترك الجامعة بينما يعاني البعض الآخر من تحصيل علمي متدنٍ، أو من فقر في الطموحات الوظيفية أي مستقبل مهني تقليدي للنساء وأقل من المتوسط في المجتمع ككل، ما تبقى منهن يعانين من الحزن العميق بعد ولادة الطفل الأول الذي ينزع منهن الحرية النسبية التي كن يتمتعن بها في حياتهن الجامعية.
بالنسبة للنساء الأقل ثقافة فللجهل تأثير مدمر أكثر. في إحدى ورشات العمل عن الأمراض الجنسية المعدية سألتني امرأة من غزة: " أعرف أن لزوجي علاقات جنسية مع نساء أخريات وربما مومسات من تل أبيب، بعد هذه الورشة فهمت أنني معرضة أيضا للإصابة بمرض جنسي بسببه، أعتقد بأنني أستطيع إجباره على وضع العازل المطاطي أو على الأقل منعه من ممارسة الجنس معي".

امرأة أخرى من النقب قالت لي "يا إلهي لماذا تزوج زوجي من امرأة أخرى إذا كانت حيواناته المنوية هي التي تحدد نوع المولود، لقد كنت أعتقد أنني المسؤولة المباشرة عن ولادة بناتي الست وأنا التي شجعته على الزواج من امرأة أخرى لكي تلد له الصبي المنشود الذي يحلم به".

أما امرأة ثالثة فقد قالت لي بعد أن تحدثنا عن أهمية الفحص الذاتي للثدي وللأعضاء الجنسية: "كيف سأميز المرض في أعضائي الجنسية وأنا لا أعرف شكلها في الحالة الطبيعية؟" هذا المثل الأخير ينطبق على الرجال تماما كما ينطبق على النساء خصوصا وأن أحد المسببات الرئيسية للموت لدى الشباب الذكور هو سرطان الخصيتين اللتين من السهل على كل ذكر أن يجري لنفسه فحصا ذاتيا لا يتطلب أكثر من دقيقة واحدة وقناعة عميقة بأهميته.
مواقف نسائنا الفلسطينيات تجاه أعضائهن الجنسية لا تختلف عنها لدى النساء في أمريكا مثلاً، د. راينش، باحثة في مجال الصحة الجنسية، أكدت على ذلك في كتابها الذي أصدرته تحت عنوان "The Kinsey Institute New Report on Sex" إذ قالت: "بالنسبة للعديد من النساء وفي أحيان أكثر للرجال، فإن الأعضاء الجنسية والتناسلية لا تزال مغلفة بالغموض تطوقها المعتقدات البالية التي أهمها الخجل والإرتباك منها (....) المرأة التي تجهل الشكل الطبيعي لفرجها لن تستطيع تمييز العلامات الأولى للمرض الذي قد يتعرض له، الرجل الذي لا يعرف أين يقع البظر فإن احتمالاته لتمتيع زوجته جنسيا ضئيلة" (ReinischK p.27).

من الأمثلة التي ذكرت أعلاه وغيرها من الأمثلة التي يذكرها الناس ولا مجال لذكرها هنا ، يمكننا أن نستشف إلى أي مدى يؤثر الجهل الجنسي على حياة الناس وعلى النساء بشكل خاص والى أي مدى يستطيع الحوار والنقاش حول الموضوع أن يحرف مسار الحياة لدى بعض الناس إلى اتجاهات مختلفة قد تكون أكثر إيجابية.

التثقيف الجنسي/الصحة الجنسية

في الدول المتطورة هناك مناهج تعليمية وبرامج مختلفة حول الصحة الجنسية مقدمة من قبل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والتي تهدف بالأساس إلى تعويض عجز الأهل أو امتناعهم المقصود عن فتح الحوار مع أولادهم حول احتياجاتهم أو مشكلاتهم الجنسية.
تشير العديد من الدراسات إلى أن معظم الأطفال في أمريكا لا يتلقون أي نوع من التثقيف الجنسي.[ Hyde 1990] [McCammon, 1993] [King, Camp & Downey, 1991] [Allgeier 1991]. "بالنسبة للغالبية من الأطفال فإن المصدر الأول للمعلومات الجنسية هو الأصدقاء، وهذا مثل" الأعمى الذي يقود أعمى آخر"، أما الأمهات فيأتين بالمرتبة الثالثة (بعد وسائل الإعلام) والآباء في آخر القائمة كمصدر معلوماتي حول الصحة الجنسية" (Hyde 1990, p.640 ).
أما في مجتمعنا الفلسطيني فالوضع لا يختلف وفي غالبية البيوت حيث أن ذكر كلمة جنس ممنوع إن لم يكن محرما.

في دراسة ميدانية قامت بها "اليونيسيف" حول برامج التثقيف الصحي المتوفرة للشبيبة والناشئة في الضفة الغربية وغزة والتي تقدمها المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، المحلية والأجنبية تبين بأنه لدى عدد غير قليل من المؤسسات برامج مخصصة للشبيبة كجزء لا يتجزأ من برامج المؤسسة لكن ليس هناك أية مؤسسة يتضمن أحد برامجها شيئا يتعلق بالجانب الجنسي (طميش 1996)، المشكلة أن دور هذه المؤسسات مكمل لدور الأهل في مسألة الحوار الجنسي بحيث تركز هذه البرامج على فعاليات إجتماعية، رفاهية، تربوية، بيئية، رياضية، ونفسية إلا أنها لا تتطرق إلى "الجنس"، تتسابق المؤسسات في تعريف أهدافها وفعالياتها المخصصة للشبيبة بحيث تؤكد على أن البرنامج سيطور من مقدرة الشاب/ة على أخذ القرار، التفكير المنطقي، الإبداع والتعبير، الإتصال الذاتي ومع الغير، تنمية الروح التطوعية والمبادرة وغيرها من البرامج التي ربما يكون لها أبعاد ايجابية على المدى البعيد لكنها لا تساعد الشبيبة في اجتياز المرحلة الصعبة التي تدعى مرحلة المراهقة وذلك على الرغم من أن الشبيبة تشكل 23% من مجمل السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة. (Palestinian Bureau of Statistics, 1994).

بلورة الرؤيا داخل المؤسسات كأساس للعمل في مجال الصحة الجنسية

من خلال تجربتي مع بعض المؤسسات فقد لمست اهتماماً شديداً منها في تبني الموضوع وإدخاله في بعض برامجها الرسمية إما من خلال ورشات تدريبية للطواقم وإما من خلال محاولات تجريبية فعلية مع مجموعات شبابية لمراقبة ردود الفعل عن قرب (مثال مؤسسة تنظيم وحماية الأسرة).

مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي بادرت ببعض الخطوات الجريئة التي بدأت بمنحي الفرصة لتنفيذ بحثي هذا من خلالها وتحت حمايتها على الرغم من أن موضوع البحث لا يلتقي مع الخطوط العريضة لبرامجها أو على الأقل لم تكن نقطة الإلتقاء واضحة في حينها، الأهم من ذلك هو أن طاقم المؤسسة رافقني في مسيرة التجربة بكل تعقيداتها وإشكالاتها بحيث أصبحت جزءا عضويا من رؤيتها الفلسفية لدورها كمؤسسة تساهم - كغيرها من المؤسسات الوطنية - في تغيير المجتمع نحو الأفضل، قضية بلورة "الرؤيا" بعد خوض التجربة هي قضية مهمة جدا لترسيخ القناعات الذاتية التي يجب أن تشكل حجر الأساس للبناء الفكري لأي مؤسسة، انعدام هذا الحجر المتين سيؤدي حتما إلى انهيار البناء بعد أول هزة أو أول نسمة خريفية.

هناك أمثلة لا تعد على مشاريع وبرامج أقرت إما بسبب حصول المؤسسة "على دعم مالي يجب أن يستغل في ذاك الموضوع" أو مؤسسة أخرى سمعت أن المؤسسة المنافسة لها ستبدأ بمشروع ما فسبقتها لأن "مواردها المالية وعلاقاتها أغنى" أو لأن البرنامج أصبح "في الموضة وعلي كمؤسسة تريد أن تظهر بمظهر جيد أمام النقاد أن أدخل هذا المشروع في برنامجي" .... الخ، بغض النظر عن السبب الذي يدفع المؤسسة إلى تبني أي مشروع، فإن حتمية الفشل لا بد منها في حالة عدم ارتكاز المشروع على تجربة فعلية وقناعات صلبة ضمن رؤيا واضحة لدى منفذيه ومنفذاته.

بالنسبة لموضوع "الجنس" وبسبب حساسية المجتمع وعدم تقبله له قد تتطلب قضية بلورة الرؤيا وتعميق القناعات وقتا أطول وجهدا أكبر للوقوف أمام هذا التحدي، من الجدير بالذكر أن الإعتقاد الشائع بين "مثقفينا" هو أن شعبنا العربي الفلسطيني هو شعب محافظ ولن يتقبل مثل هذه المواضيع، في الواقع فإن تجربتي العملية مع الناس خلال عامين أثبتت إلى حد ما أن فئات "المثقفين/ات" كانوا أكثر الناس اعتراضا على الموضوع "وخوفاً" منه، بالمقابل كلما كانت الفئات المشاركة في الورشات أقل ثقافة (شهادات جامعية) كلما كانت أكثر صدقا في التعبير عن احتياجاتها الإنسانية وكانت أكثر تلقائية في شرح منغصاتها ومقلقاتها الجنسية والحياتية اليومية وفي طرحها للحلول كما تراها هي.

أفضل مثال على ذلك هو ورشة العمل التي قمت بها في قرية سعير في الخليل والتي شاركت فيها حوالي عشرون امرأة معظمهن أميات (من حيث القراءة والكتابة) وكانت من أمتع وأطرف الورشات التي قمت بها حتى الآن، إذ أن الغرفة التي خصصت لنا كانت صغيرة جدا بحيث جلس معظمنا على الأرض وباكتظاظ وعندما بدأت بتجهيز أوراقي وتجريب الشفافيات التي تعكس على الحائط سمعت بعض النساء يتضاحكن ويتهامسن "هي زي السينما"، هذا الإنفعال التلقائي ساهم كثيرا في خلق جو صادق وصريح بين النساء بحيث تكسرت الحواجز النفسية والإجتماعية لتتحدث كل امرأة عن مشكلتها الشخصية وتستعمل ضمير "أنا" أي "أنا أشعر بالخجل من ...، أنا اؤمن...، أنا جربت ولم أنجح... أنا لا أستمتع ..... الخ" بعيدا عن المصطلحات الأكاديمية ك: "مجتمعنا العربي بشكل عام يؤمن...، أو يشعر بعض الناس بالخجل من الحديث عن هذا الموضوع .....الخ".
المهم هو أن النسوة في نهاية الورشة رجونني على معاودة الحضور للقرية للتحدث مع أولادهن وبناتهن عن مواضيع تتعلق بالجنس، وكانت الحجة المنطقية والصادقة التي طرحوها بأنهن على قناعة بأنه من المهم التحدث مع الأولاد لكنهن في هذه المرحلة غير قادرات على فعل ذلك ولهذا طلبن مني أن أفعل ذلك بدلا منهن، أما الشيء المفاجيء فهو إصرارهن على دعوة الأولاد الذكور أيضا، وعندما سألت عن سبب هذا الإهتمام أجبن: " أنت قلت أن بعض البنات يولدن بدون غشاء بكارة مثلاً، لو لم يعرف الذكر ذلك قبل الزواج فسيقتلها، ثم أن الذكور هم الذين يعملون خارج القرية وهم الذين يجلبون الأمراض والمصائب لنسائهم". كان هذا التحليل الذي توصلت إليه النسوة منطقيا بالنسبة لهن لتفسير سبب الحاجة للمعرفة والحوار من جهة، ومن جهة أخرى، التمسك بي كمصدر معلوماتي يعوض النقص في المصادر والآليات لتلبية هذه الحاجة الآنية التي تبلورت خلال الجلسة.

المحصلة النهائية هي الأهم لأن المبادرة "للتعلم الجنسي لدى الشبيبة" نبعت من قناعة كل واحدة من المشاركات بحيث تعززت هذه القناعة بإرادة المجموعة وكانت النتيجة التلقائية "حملة تمرد" تنص على "ضرورة تثقيف الأولاد"، هذا النوع من العمل الذي قد يسميه البعض "تعبئة" جماهيرية هو الأساس في إنجـاح بـرنـامـج طـمـوح يـتـعـامـل مع الأطفال والناشئة كوحدة غير معزولة عن العائلة والمجتمع.

دور الأهل في التنشئة لا يقل بأهميته عن دور المدرسة ولذلك هناك حاجة ماسة للشراكة بين الأهل والمدرسة لتبادل الخبرات وتوزيع المهام وتقليص الفجوات فيما بينهم، أي أسلوب آخر سيكون بمثابة "إسقاط" فكرة أو برنامج من مجموعة أولى تعتبر نفسها "الفاهمة والواعية" لحاجات الناس، على مجموعة أخرى ثانية "لا تملك القدرة على تحديد ما الذي تريده وكيف"، وغالبا ما سيكون مصير هذا البرنامج الفشل الذريع أو ربما ستتمرد عليه المجموعة الثانية لمجرد كونه "أسقط" عليها قصرا بغض النظر عن جودته وتمايزه (Warner & Bower 1995).

المعرفة الجنسية: بين الحاضر والماضي

من كل ما ذكر أعلاه عن مسألة التثقيف الجنسي يمكننا أن نستنتج بأن الفقر في أجواء "التعلم الجنسي" الذي يعاني منه أطفالنا الناشئة وشبيبتنا لا يقتصر على البيت فقط بل يمتد إلى البرامج المعروضة من المؤسسات المختلفة التي تقدم برامج للشباب والى المدارس التي تخاف حتى من ذكر عنوان الموضوع، المحصلة مشابهة لقصة إبريق الزيت التي لا نهاية لها لأن الأولاد يتوقعون إجابات وردود فعل من الأهل، والأهل يرمون الحمل على كاهل المدرسة والمدرسة غير قادرة موضوعيا على تحقيق ولو جزء من توقعات الأهل وتتهرب من المسؤولية بأشكال مختلفة، الأمثلة على هذه الأشكال عديدة منها مثال "أستاذ البيولوجيا" الذي يطلب من طلابه دراسة مادة الجهاز التناسلي لوحدهم في البيت ومثال حصة الدين التي يتعلم بها الأولاد والبنات أن "الحيض منقض للوضوء" والأولاد والبنات لا يعرفون ماذا يعني الحيض، وعندما يجرؤ الطلبة على السؤال عن معنى الحيض فغالبا ما سيقول لهم الأستاذ الوقور: "إذهبوا واسألوا أمهاتكم"، أما الأمهات فسترد "لما تكبروا بتفهموا" وهكذا تبقى أمام الأولاد والبنات فرصة واحدة للإستكشاف ألا وهي سؤال بعضهم البعض أو من هم أكبر منهم قليلا وتداول المعلومات الخاطئة التي من شأنها أن تؤدي أحيانا إلى عواقب وخيمة.

إن البحث الذي قامت به مؤسسة تنظيم وحماية الأسرة والذي كان هدفه الأساسي فحص المعلومات الجنسية الموجودة في مناهج التعليم وتحديدا مادة البيولوجيا ومادة الدين هو خير مثال لتدعيم ما سبق ذكره أعلاه. فقد تبين بأنه وعلى الرغم من وجود معلومات جنسية في حصص البيولوجيا والدين إلا أن معلومات الطلاب بشكل عام فقيرة وأحيانا مشوهة، يعود ذلك من جهة إلى أن نصف الطلبة تقريبا يختار الفرع الأدبي الذي لا يتضمن بيولوجيا، ومن ناحية أخرى فإن الطلبة المسيحيين لا يشاركون في حصص الدين الإسلامي. حتى الطلبة الذين يدرسون في فرع البيولوجيا يتلقون معلومات سطحية جدا أو يطلب منهم دراسة المادة بشكل فردي (Family Planning & Protection Association, West Bank 1990).

وللأسف، فإن موضوع "الجنس" مستثنى من غالبية الأبحاث، الإحصائيات، البرامج بأشكالها، والكتابات المعاصرة على الرغم من أن تراثنا وأدبنا العربي القديم كان أغنى ما يكون فيه، هناك المئات من الكتب الإسلامية والتاريخية التي كرست مئات بل آلاف الصفحات لموضوع الجنس بكل أبعاده مركزا على المتعة الجنسية كمطلب واحتياج إنساني أساسي، وقد تخطت هذه الكتابات كل الحدود واسترسلت في الوصف الدقيق لتصوير مشاهد من الإثارة الجنسية لا يمكن تجاهل أثرها المباشر على القارئ، تعتبر هذه الكتابات الكلاسيكية خصوصا تلك التي صدرت عن المفكرين المسلمين من القرن الحادي والثاني عشر ميلادي من أغنى وأعمق ما كتب خلال التاريخ فيما يتعلق بالمتعة والسلوكيات الجنسية بكل أشكالها (عطية، 1992)(جمعة 1992)، أما المواضيع التي تم التطرق إليها في هذه الكتابات فقد اعتمدت منهج البحث العلمي الذي كان متوفرا في ذلك العصر وتأثرت بالفلاسفة اليونانيين أمثال أفلاطون وأرسطو، لتفسير الأحاديث النبوية المتعلقة بالجنس (Mussalam, 1983).

وللأسف، فإن مصير هذه الكتابات انحصر على رفوف بعض المكتبات لتلتحق بآلاف الكتب الفلسفية القيمة التي يمكن اعتبارها آخر ما تبقى لنا من أطلال تلك الحقبة التاريخية المميزة بحرية الفكر والتعبير بلا قيود وبلا جمود، انسدل على هذه الكتابات نفس الستار الذي انسدل على الحقبة التاريخية المذكورة بأكملها ولم يفتح منذ ذلك الحين إلا لبعض "الأبطال" الذين قرروا إرجاع بعض هذه الإنجازات إلى الذاكرة. وبالمحصلة النهائية نحن أمام مرحلة من القحط بالمعطيات والمعلومات الجنسية الخاصة بمجتمعنا والى التجارب النادرة لبعض الناس الذين غامروا بالتطرق إلى موضوع الجنس وفشلوا لسبب أو لآخر، لا يترك هذا الركود في الثقافة الجنسية أمام الناس إلا خيار اجترار المعلومات المتوفرة منذ زمن جداتنا وأجدادنا والتي بمجملها لا تتناسب مع التطور العلمي والإجتماعي بتعقيداته.

ربما حان وقت الإنبعاث من هذا السبات الذي استمر عقود اً عديدة لفتح السبل أمام أدمغتنا لتتساءل وتمتحن وتكتشف وترفع الحواجز أمام الحوار الجنسي لمعالجة العديد من الظواهر الإجتماعية المدمرة وخصوصا لدى النساء، الجهل يبدأ من الصغر ويؤثر على المواقف والممارسات في كل مرحلة من مراحل الحياة. كلنا متفقين على أن عملية تغيير المواقف والممارسات الإنسانية هي عملية معقدة، شاقة، وطويلة وأحيانا مستحيلة في جيل متأخر، لكن من المهم أن نفهم بأن مسؤولية التغيير للأفضل تقع على عاتق كل فرد في هذا المجتمع من خلال مؤسسته/ها، عمله/ها التطوعي، برنامجه/ها السياسي والإجتماعي...الخ.

عملية التغيير بحاجة إلى تعبئة جماهيرية لا يمكن أن تتحقق بصدق إلا إذا قادها وبلورها الناس بأنفسهم، الوصول إلى الناس يجب أن يكون مباشرا من خلال التواصل معهم في جميع المواقع التي تجمعهم وذلك من خلال ورشات عمل هدفها منح الناس الفرصة على التعبير وتحديد الإحتياجات وتعريف المشاكل وإيجاد الحلول الملائمة لواقعهم.

الهيكلية العامة للبحث

يصف هذا الجزء من الورقة الأهداف العامة للبحث، الفرضيات، والأسلوب أو المثودولوجيا كما كانت عليه في البداية وكيف تغيرت مع تغير الرؤيا وبلورتها من خلال العمل الفعلي مع الناس وفرص الحوار التي أوجدتها ورشات العمل العديدة التي أقيمت في معظم المناطق الفلسطينية.

وكما ذكرت في مقدمة هذه الورقة، فقد كان توجهي مندفعا وحماسيا للغاية، ارتكز بالأساس على العمل بمستوى راسمي السياسات العامة وذلك من خلال الإثبات لهم بأن التثقيف الجنسي ضروري جدا ويجب دمجه في المناهج الدراسية ليدرس للطلبة منذ جيل مبكر، كنت أعتقد بأنني أمتلك الحل ولذلك فإنني لم آخذ بعين الإعتبار حاجات الناس الـحقـيـقـية والأساليب لتحقيق الحلول التي يرونها صحيحة ومـلائمة لـواقـعـهـم.

الهيكلية العامة قبل التعديل

** الهدف الرئيسي:
رسم سياسة عامة لبناء منهج للتثقيف الجنسي يدرس في المدارس الفلسطينية ويعمم على المؤسسات المختلفة الأخرى لدمجه في برامجها الخدماتية.

الأهداف العامة:

إستكشاف المفاهيم والمعتقدات الجنسية الخاطئة لدى طلبة الجامعة الفلسطينيين، تزويد الطلبة بمعلومات علمية عن المفاهيم والمعتقدات الجنسية.
إستكشاف العلاقة بين المفاهيم والمعتقدات الجنسية الخاطئة من جهة والمواقف والممارسات من جهة أخرى لدى طلبة الجامعة، قياس استعداد المنظمات - غير الحكومية، المؤسسات الخدماتية، المجموعات والشخصيات الدينية والسياسية، الشخصيات المؤثرة في رسم السياسات - على تبني سياسات عامة ودعم مشاريع تساهم في بناء مناهج للتثقيف الجنسي في المدارس الفلسطينية.

الفرضيات:

ستكون المواقف الجنسية للطلبة الذين سيشاركون في ورشات العمل أكثر إيجابية من مواقف الطلبة الجنسية الذين لن يشاركوا في ورشات العمل.

هناك علاقة طردية بين المعلومات والمواقف الجنسية لطلبة الجامعات، لن يكون هناك فرق نوعي بين الطلبة المتزوجين وغير المتزوجين في تحصيلهم بامتحان المعلومات الجنسية، لن يكون هناك فرق نوعي بين الطلبة المتزوجين وغير المتزوجين في تحصيلهم بامتحان المواقف الجنسية.
ليس من المتوقع أن تتغير تصرفات الطلبة الجنسية كنتيجة لتأثرهم بتجربة ورشات العمل حتى لو تغيرت مواقفهم الجنسية، لن يكون هناك فرق نوعي بين الطلبة المسلمين والمسيحيين فيما يتعلق بمواقفهم

صفاء طميش

مشاركة منتدى

  • نعم أختي العزيزة لقد كفيتي ووفيتي في هذا الموضوع ولاكن ألاتعتقدين أن هذا التثقيف سلاح ذو حدين و خاصة عند المراهقين بنوعيهم لأن عندهم حب استطلاع وفضول وقد يصل بهم الأمر إلى تجربة الجنس وهو شئ جديد عليهم لم يكن يعرفونه من قبل

  • ان هدا الموضوع جد مهم وفي القت الراه هناك موضوع مطروح بعنوان الصحة الانجابيه ليدرس في مدارس الضفة ويواجه مند البدايه برفض قوى من قبل المثقفين قبل غيرهم وللاسف ويفضل العمل على توعية وتثقيف المجتمع المحيط باهمية هدا الامر من خلال نشر المزيد من الابحث والدراسات امثال بحثك ولك كل الشكر يا سيدة صفاء على جهودك القيمة مع تمنياتى لك بالتفيق في كل مهامك

  • أشكر كل من ساهم في هذه ألدراسة لان مجتمعنا في أمس ألحاجة لمثل هذه ألنظرة ألواعية وليس فقط في هذا ألمجال بل في ألكثير من نواحي ألحياة ألتي مازال يسيطر عليها ألاسلوب ألتسلطي في ألتربية

  • بصراحة، اعجبت كثيرا بهذا المقال وطريقة التفكير وعملية التثقيف والتوعية المنشودة من خلا ورشات العمل التي تم القيام بها ونشرها على كافة المناطق الفلسطينية والعربية، ارجو منكم المثابرة على هذا والقيام بوضع مناهج تعليمية تكون اساساً لتثقيف الشاب و الفتاة العربية ولكن يجب برأي ان تكون بعيدة عن الفكر الغربي لما يحتويه المجتمع العربي من دين وقيم وتقاليد، اعود وأكرر فرحي وإعجابي بما تقومون به وبصدق تمنيت لو كنت معكم، ارجو منكم ان تتطلعوني على كل جديد واتمنى لكم التوفيق والنجاح دائماًً. بلال قدورة

  • موضوع رائع وشيق ، انا طالبة في كلية دافيد يلين للتربية الخاصة، مشروع التخرج الخاص بي يتناول التربية الجنسية للاطفال المعوقين عقلياً، وقد لفت نظري موضوعك واستفدت منه كثيراً، ولكن ينقصني المراجع التي قمت باستخدامها، هل يمكنك لو سمحت ارسال لي صفحة المراجع على عنواني الالكتروني التالي واكون ممنونة وشاكرة لك جداً على مساعدتك اياي.
    عنواني الالكتروني:
    beatygirl_f@hotmail.com

  • بحاجة الى المراجع بصورة مفصلة، هل يمكنك ارسالها لي على بريدي الالكتروني مع الشكر
    BEATYGIRL_f@HOTMAIL.COM

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى