الأحد ٢٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم رانية عقلة حداد

حياة بالوردي

حياة غاية في البؤس وابعد ما تكون عن الوردي

هذه هي الحياة... تفتح ذراعيها للبعض بينما تسحق البعض الاخر تحت قدميها، والمطربة الفرنسية الراحلة اديث بياف كانت من البعض الاخير... وربما اوفرهم حظا بالماسي والبؤس الذي لم تبخل عليها الحياة به، عن هذه الحياة القاسية التي اختبرتها بياف- احدى قمم الغناء في فرنسا - يتحدث الفيلم الفرنسي "حياة بالوردي" انتاج 2007، اخراج اوليفيه دهان، وجسدت دورها بتميز الممثلة الفرنسية (ماريون كوتيار).

الوحدة والبؤس كقدر

المصداقية والالتزام بالموضوعية اهم ما يميز "حياة بالوردي" عن غيره من غالبية افلام السيرة الذاتية، فلم يقدم صناع الفيلم بياف محاطة بهالة من القداسة، انما تم عرض مختلف الظروف القاسية التي احاطت بها منذ طفولتها المبكرة حتى وفاتها، وأثرت في تكوين شخصيتها، بشفافية لم تنتقص من قدر بياف وقيمتها الفنية، بل جعلت المشاهد يقترب مما هو انساني فيها، فيتفهم سلوك بياف بدل من ان يدينها، سواء في ادمانها للخمر والمهدئات وغيرها من الامور، التي قد تكون مرفوضة مجتمعيا، وقد لا تليق بمن هي اسطورة الغناء الفرنسي... بخلاف ما يحدث عربيا حيث لا يمكن تقديم اي هرم ابداعي عربي أكان فنانا او اديبا... الا بصورة تقترب من الكمال مبالغ فيها وبعيدة عن الواقع، فلا يسمح بالمس او انتقاد اي من تلك القمم المقدسة.

" ... اكن الكثير من الاعجاب ل بياف لكن بعض الجوانب من شخصيتها كانت غير مفهومة بالنسبة لي، خصوصا الجانب الاستبدادي،... وانتهيت الى ان احب بياف حقا لاني ادركت ان الشيء الوحيد الذي لا تستطع ان تتحمله بياف هو ان تكون وحدها". هذا حديث ل ماريون كوتيار عن استعداداتها لاداء الشخصية ... اذن الوحدة كانت مفتاح كوتيار لفهم شخصية اديث بياف... وهو مفتاح مهم يقودنا كمشاهدين لفهم هذه الشخصية، حيث منذ الطفولة عاشت بياف شبه وحيدة، فاخذها ابوها بعد ان تخلت عنها امها، وهو بدوره تخلى عنها لحين، فلم تلق الحب والرعاية الملائمة من والديها، لذلك ظلت عطشى الى الحب بكل اشكاله، يسكنها الخوف من الوحدة وتخلي الجميع عنها، فكمن يقرب كأسا ممتلئة بالماء من فم انسان عطشان ثم يبعدها عنه ويظل من حين الى اخر يقرب الكأس ويبعدها حتى يموت هذا الانسان عطشا وكمدا... هذا تماما ما كانت تفعله الحياة مع بياف... تقرب منها بين حين واخر اناس يمنحونها ما فات من حب واهتمام الاهل - الذي طالما حلمت به- وما تكاد بياف تتذوق طعم هذا الحب والاهتمام حتى تنتزعهم الحياة منها بقسوة، كما هو الامر حين تركها والدها وهي في الثالثة من العمر عند والدته صاحبة بيت الدعارة فتولت رعايتها تيتين احدى بنات الهوى وغمرتها بحب ورعاية لم تكترث امها الحقيقية لان تمنحها اياه، لكن فجأة تفقد هذا الحب الممنوح ما ان يحضر والدها ليستعيدها او بالاحرى ليختطفها من حضن تيتين، فكان فراقا مؤلما، كذلك الامر عندما سُحبت منها صديقتها العزيزة سيمون بالقوة من بيتهما المشترك من قبل رجال الامن، ومن جديد مع لويس لوبلي الذي اكتشف موهبتها وهي تغني في الشارع، احتضنها وتبناها فنيا حتى انها كانت تناديه والدي لوبلي فمنحها الابوة التي لم يكترث والدها الحقيقي لان يمنحها اياها لكن اختطفه الموت منها سريعا وكذلك حبيبها مارسيل.

شظايا حياة

16شباط 1959، هو اليوم الذي سقطت فيه بياف على المسرح وهي تغني في نيويورك، وبهذا الحدث يبدأ المخرج الفيلم، ثم ينتقل في المشهد الثاني الى العام 1918 الى طفولة بياف، وهكذا يستمر في الانتقال من مشهد الى اخر الى ازمنة مختلفة من حياة بياف، فكان اختيار المخرج ملائم لهذا الشكل من البناء الزمني المتقطع او المشظا، ليقارب من خلاله حياة بياف المتشظية والمأساوية، وسافرد مقال خاص للحديث عن هذا البناء الزمني في الفيلم حيث لا يتسع المجال لذكره هنا.


بياف... حياة بالوردي

اسم الفيلم "حياة بالوردي" مأخوذا بعناية من عنوان احدى اكثر اغنيات اديث بياف شهرة، ليعمق الاحساس لدى المشاهد بالسخرية الذي يولدها التناقض بين حياة غاية في البؤس وابعد ما تكون عن الوردي تلك التي عاشتها بياف، وبين الترنم باغاني تدعو للامل.

بياف هي الكنية الفنية التي اطلقها مكتشفها لويس لوبلي (جيرارد دي باردو) عليها، وتعني بالفرنسية العصفور الصغير نسبة لصوتها الجميل، القوي، وحجمها الضئيل.

كما اسلفنا ان الخوف من الوحدة كان مفتاح كوتيار لفهم وتجسيد شخصية بياف، وهو ذاته الذي جعل المخرج يهتم باعطاء المَشاهد التي تتناول لحظات فراق بياف عن الاشخاص الذين احبتهم واحبوها اهتماما خاصا، فالحب على مختلف مستوياته بالنسبة الى بياف هو الدرع الحامي من الوحدة، والنبع الذي يروي ظماها ويعوضها عن حب وحنان الابوين المهدور، مما جعل المخرج دهان يولي اهتماما خاصا للمشهدين الذين تعلم في كل منهما اديث عن موت احد احبائها؛ الاول لويس لوبلي مكتشفها ومعلمها وعرابها، والثاني مارسيل حبيب القلب والروح، فيفرد لهما دون باقي مشاهد الفيلم اسلوب المشهد اللقطة فتتحرك الكاميرا بشكل مستمر دون انقطاع مع بياف بحرية وتتأثر بحالتها وانفعالاتها وايقاعها، متظافرة مع اللون الداكن والاضاءة الخافتة على امتدت على طول الفيلم بؤس الحياة التي عاشتها بياف، فكانت مشاهد وداع مؤلمة.

كذلك هناك عناصر اخرى في الفيلم تساعد على ايصال شعور بياف بالعزلة والوحدة رغم انها كانت محاطة بالاصدقاء والمساعدين، فقد كانت ترفض ان يفتح الاصدقاء ستائر منزلها لضوء الشمس، كما لو انها لا تشعر بالامان وترغب ان تبقى في عزلة عن ذلك العالم الخارجي.

التماهي مع بياف

اما ماريون كوتيار فجسدت شخصية اديث بياف بتميز، فاستحقت عنه مؤخرا جائزة الاوسكار لافضل ممثلة في دور رئيسي، بالاضافة لما يزيد عن خمس عشرة جائزة اخرى، فكما لو ان كينونة كوتيار تماهت مع بياف، في مختلف مراحل عمرها من العشرين الى السابعة والاربعين، ولن يعرف الا من شاهد الفيلم التنوع في المراحل العمرية التي جسدتها كوتيار، لان بياف في اواخر عمرها وبفعل الادمان بدت وكأنها عجوز بالثمانين وهي لم تتجاوز الاربعينات، كما لا يمكن اغفال دور المكياج المتقن الذي قام به ديدييه لافوغن ونال عنه ايضا جائزة الاوسكار.

كما لا بد من الاشارة الى الصورة المختلفة التي يقدم فيها فتيات الهوى ... صورة انسانية قلما قدمتها الافلام على هذا النحو... كما شخصية بائعة الهوى تيتين التي منحت كل الحب والحنان لبياف في طفولتها، فتيتين لديها من الحب والانسانية والايمان مما يجعلها لا تختلف عن اي امرأة اخرى ليس الا الفقر الذي اضطرها للعمل في هذه المهنة.

حياة غاية في البؤس وابعد ما تكون عن الوردي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى