الأربعاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم رانية عقلة حداد

حين تفاجئنا الحياة بغير المتوقع

هذه الخطوات التي تسابق الزمن على أسفلتي
هل تدرك إلى أين تمضي بها الحياة؟!
تلك الأقدام وهي تعبر ممراتي بكل هدوء وثقة
هل تعلم أي تجربة تنتظرها؟!

تتساءل الطريق

تمضي الحياة هادئة، هانئة بـ جيوفاني (ناني موريتي) وأسرته: زوجته باولا (لاورا مورنتي)، ابنته ارين (جاسمين ترينكا)، ابنه اندريا (جوزبي سانفيليس)، كما يمضي الفيلم الأيطالي (غرفة الابن) في ثلثه الأول مستعرضا التفاصيل اليومية لحياة هذه الأسرة المستقرة، والمتوازنة، والسعيدة، حيث الدفء والصدق يوّحد أفرادها ويمنح لعلاقتهم قوة ما؛ الأب يعمل طبيب نفسي وعيادته جزء من المنزل، الام تعمل في دار نشر، ولم يمنعهما الانشغال في العمل من متابعة ارين واندريا في المدرسة وأي نشاطات آخرى لهما؛ حيث لكل منهما نشاطه الرياضي الذي يتميز فيه.

كيف للقلب أن يحتمل ما لا يقوى على احتماله!... فعلى نحو غير متوقع، حَدثَ ما عصف بالأسرة، وبَدد السكينة التي كللتها، وأصبح الألم، الحزن، والغضب... هي المشاعر التي تسود أفرادها، ففي حادث مؤلم... اندريا يغرق في البحر وهو يمارس رياضة الغوص.

ما الذي يمكن للمرء أن يفعله ازاء الثابت الوحيد في الحياة؟ ازاء ما هو محتم وقد جاء باكرا... صدمة تكتم الصرخة، وألم عميق حتى الانكار، من أقسى لحظات الفيلم والتي كان وقعها على المشاهد أشد - بهدوئها وعمقها - من منظر الابن في التابوت والأهل والأصدقاء في وداعه، أنه مشهد وضع الصفيح المعدني عليه كغطاء للتابوت، وما لحقه من مجموعة لقطات كبيرة وموجعة لالات تُحكم الاغلاق، تلحم الصفيح، وتشد البراغي باصواتها التي تفطر القلب وتمعن في تأكيد الغياب، لم يبقَ من الابن سوى غرفته واغراضه التي حافظت عليها الاسرة كي لا تنسى وكي تتصبر على الغياب، لكن الشعور بالذنب لم يغادر بعدها جيوفاني، فلو لم يقرر الذهاب إلى ذلك المريض الذي استدعاه في يوم اجازته، لأمضى الوقت مع ابنه ولما وقع ذلك الحادث، كيف سيتمكن من مسامحة نفسه؟ احتاج كل منهم أن ينعزل بنفسه لحين كي يستوعب الحدث، وسرعان ما تحولت الامور من غيظ مكتوم إلى غضب يعلن عن نفسه حين اشتبكت الاخت مع أحد أعضاء فريق كرة السلة اثناء اللعب، وحين كسر الاب الابريق...

في مشهد ينقلنا من الموت إلى الحياة وهو من المشاهد الجميلة والذي يعبر بعمق عن احساس الاب بالفقد، نرى جيوفاني بعد دفن الابن يجلس في إحدى العاب مدينة الملاهي وهي تتحرك به وتخضه بشكل عنيف للاعلى والاسفل؛ كأنها تتحدث بقسوة حركتها عن ألمه، والضجيج الذي يعم المكان عن غضبه، وتعابير عينيه التي تحجّر فيهما الدمع تُحدِث عن شعوره بالعزلة ونشعر بالالم وبقسوة وحدته في خضم هذه الحياة الصاخبة حينما نرى العالم من وجهة نظره.

جيوفاني... معالج نفسي، لم يكن هذا خيارا اعتباطيا، فهو الذي يساعد مرضاه على تجاوز مشاكلهم والامهم، هاهو الان عاجزا عن تجاوز الامه الخاصة، وعاجزا عن مساعدة زوجته وابنته على تخطي هذه الازمة، قد دخل حالة اكتئاب عميقة فكر خلالها ان يهجر مهنته، فليست هناك وصفة طبية قادرة على شفاء جراح النفس، وكيف سيتمكن من تقديم العون لمرضاه وهو عاجز عن تقديمها لنفسه.

كيف يمكن تجاوز هذا النوع من الالم؟ هل يمكن ان نعود بالزمن؟ ام ان الاستعانة بالزمن وحدها الكفيلة بالنسيان وتجاوز الجراح؟... الزمن قدّم لهم صديقة ابنهم المجهولة عبر رسالة بعثتها لاندريا دون ان تعلم بموته، فكانت تلك الصديقة معينة العائلة للبدء شيئا فشيئا بتقبل موت الابن والتعايش مع الحقيقية المؤلمة.

بهدوء ينتهي الفيلم، بلقطة عامة والكاميرا تتبع وتلتف حول افراد العائلة وهم يتقدمون باتجاه البحر... باتجاه الغامض كما الموت، وكأنهم يبادرون للدخول في حالة سلام وتصالح مع القدر... مع البحر (الجاني) الذي هو اكبر واقوى منهم.

تتميزت الكاميرا المرافقة لجيوفاني عندما يتحرك في اي ممر بانها تتحرك بحرية فتتبعه من خلف ظهره إلى اي مكان يدخله؛ سواء في الشارع عندما خرج ليشاهد فرقة الرقص ببداية الفيلم، او في ممر مدرسة ابنه، او حين ينتقل عبر الممر الداخلي الطويل والواصل بين عيادته ومنزله، وحركة الكاميرا هذه تقرأ على انها -كما جيوفاني- مفتوحة على استكشاف الاشياء ودهاليزها التي لا يمكن التنبؤ مسبقا بها، ونحن بدورنا كمشاهدين نتوحد معه بزاوية النظر في رحلة الاستكشاف هذه.

(غرفة الابن) من الافلام القليلة التي تتناول هذه الحالة الشعورية الخاصة، بهدوء وواقعية بعيدا عن استثمار هذه الحالة لاستدعاء دموع المشاهدين، (غرفة الابن) من انتاج واخراج (ناني موريتي)، كما انه قد قام ايضا بدور البطولة وساهم في كتابة النص، وكانت السعفة الذهبية في مهرجان كان 2001 من نصيب هذا الفيلم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى