الاثنين ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عبدالوهاب محمد الجبوري

دروس وعبر من ذكرى مولد سيد البشر

يا رعى الله ذكراك المقدسة، يا غار ثور.. لقد كنت مبعث الحرية كما كان غار حراء مبعث الروح.. فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي.. كان العالم قبل يوم محمد يعاني من تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتغلب الأثرة وتحكم السفاهة.. فلما ظهر الرسول الكريم (عليه أفضل الصلاة والسلام) كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق..

كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل وتعليماً لآداب النفس بالعمل وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة.. فألفهم على المودة وجمعهم على المحبة والوحدة ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً ومن سنته دستورا ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض ومدّنوا العالم وهذبوا النفوس..

إن ذكرى مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هي ذكرى قيامه الروح وولادة الحرية ونشور الخلق، ومثلما كان مولده عليه الصلاة والسلام البعث الأول الذي طهّر النفس وعمّر الدنيا وقرّر الحق للإنسان، فان البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ رحلة الآخرة الأزلية ليعلن أبدا: أن الملك لله وحده..

كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادية وعبودية الشهوة وسلطان القوة الغاشمة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه ولا للغرض النبيل اثر في سعيه ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه.. إنما كان حيواناً شهوته الغلبة، مادياً غايته اللذة، أنانيا شريعته الهوى، ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وأسرف في المادية حتى اتخذ إلهه من خشب وحجر وفي الأنانية قتل أولاده خشية الإملاق..

فلما بُعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منقذا للبشرية، ً فتح في غار حراء باب إلى السماء تنزلت منه الملائكة والروح على هذا (الهيكل) المنحل و(الجسد) المعتل فنفخت فيه سر الحياة وتجسد معنى الخلود في حقيقة الله الواحد الأحد..

كان العالم قبل يوم محمد يغط في قصور عقلي يقتل التفكير السليم وقصور جسدي يقتل التصرف الحكيم، فلم يكن للأسرة نظام ولا للقبيلة قانون ولا للأمة دستور ولا للعقيدة شريعة، وإنما طغيان عاصف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة.. فالأب يهب الموت والحياة لأبنائه بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف، والملك يُخضع نفوس الشعب باسم الدين والكاهن ينسخ العقول بقوة الجهل.. أما عامة الناس فهم أتباع من سقط المتاع..

فلما بعث الله سبحانه وتعالى محمدا رحمة للعالمين بعث الحرية من مرقدها وأطلق العقول من أسرها وجعل التنافس في الخير والتعاون على البر والتفاضل في التقوى ثم وصل القلوب بالمؤاخاة والمحبة وأقام العدل والمساواة في الحقوق والواجبات حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته وأدرك الفقير أن بيت المال ثروته وأيقن الوحيد أن المؤمنين جميعاً إخوته، ثم محا الفروق بين أجناس الناس وأزال الحدود بين الأركان فأصبحت الأرض وطناً واحداً والعالم أسرة متحدة لا يهيمن على علاقاتها إلا الحب ولا يقوم على شؤونها سوى الإنصاف والعدل وليس بين المرء وحاكمه أو خليفته حجاب ولا بين العبد وربه وساطة..

شخصيته صلى الله عليه وسلم:

اتصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالخلق والحزم، إذا قال فعل وعازماً صارماً إذا همّ أو أمضى، عادلا إذا حكم، حكيماً إذا تصرّف أو قضى، جمع الله له عقلاً وافراً وخلقاً رضياً ويدا كريمة ونفساً عفيفة وضميراً نقياً وصدراً رحبا واسعاً وذهنا حاضراً ورأيا سديداً ونظرات بعيدة وتدبيراً حسناً، اتسعت دائرة علومه ومعارفه من غير دراسة ولا مطالعة ولا جلوس إلى معلم، إنما هي فطرة الله الذي أحسن كل شيء خلقه..

لقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام بالحلم عند المقدرة والصبر على احتمال المكاره وما خيّر بين أمرين إلا اختار ايسرهما ما لم يكن أثما (حاشاه صلى الله عليه وسلم).. وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فيأخذ الحق لها، وقد يكره المتكلم ولا يكره الكلام إذا كان حقا.. وقد يحب المتكلم ويكره الكلام إذا كان باطلاً..

كان يغضب ولكنه لا يحقد ويحزن لكنه لا يستسلم للحزن.. كان ابعد الناس غضباً وأسرعهم رضا.. لا يبارى في الجود والكرم والسخاء والنجدة والشجاعة والحياء وحسن المعاشرة والشفقة والرحمة والرأفة على الجميع.. وان كانوا من أعدائه.. يصل الرحم والوفاء بالعهد والعدل والأمانة والعفة والزهد في الدنيا والصدق في القول والتواضع مع علو منصبه ورفعة رتبته وأفضل قومه مروءة وأنبلهم خلقاً وأكرمهم معاشرة ومصاحبة وأحسنهم حواراً ومناقشة وأصدقهم حديثاً وأوفاهم عهداً وأعظمهم حلماً وأطهرهم سريرة وأبعدهم عن الفحش وكان يمازح أصحابه ويحادثهم ويعود المرضى والثكالى واليتامى ولو في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر.. ويبدأ بالسلام والمصافحة، يكرم من يدخل عليه وربما بسط ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه بالجلوس.. ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم.. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم انه كان لا يجلس إليه احد وهو يصلي إلا خف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته..

وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله (وانك لعلى خلق عظيم) وهو الخلق الذي أمره الله تعالى في قوله (خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين)..

قوة المجتمع وبناء الوحدة الوطنية المتماسكة:

وعلى هدي السيرة العطرة لفخر الكائنات تتجسد دروس وعبر أخرى خالدة هي العناية ببناء المجتمع المتماسك الموحد على أساس من إعداد الإنسان الفاضل المتحد مع نفسه أولا والموحد في مجتمعه ثانياً.. وفي هذا يقول الباحثون في السيرة النبوية، كان لهذا الإنسان النصيب الأوفى من جهد الإعداد حينما جعله الإسلام مدار عملية مركزة لصياغته صياغة عقائدية أخلاقية وفكرية جديدة تستهدي بسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..

وليس أوضح على مسؤولية الفرد تجاه مجتمعه من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وان أساءوا أسأت.. ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وان أساءوا أن تجتنبوا إساءاتهم)..

فكل فرد في المجتمع راعياً ومسئولا عن رعيته: القاضي في خصومه والرجل في أهله والمرأة في بيتها والعامل في معمله والفلاح في حقله والجار في جاره والقوي في نصرة الضعيف والسائر في امن الطريق والقادر في حماية العاجز.. وبهذه المسؤولية الجماعية تشعر الجماعة بقوة خفية تعينها على المحافظة على واجهة المجتمع موحدة نقية.. والأيمان، الذي يأتي من سلطانٍ فوق سلطة الإنسان يدين به الخاضع له لأنه مطمئن إليه، هذا الأيمان هو شرط الشروط في تكوين الإنسان المسئول المكلف، أي المواطن الذي يراقب الله في علاقته بربه وبالناس أجمعين.. ومن هذا الإنسان المؤمن يتكون المجتمع الفاضل والمجتمع الموحد ويزداد تماسكاً على اختلاف أديانه ومذاهبه وطوائفه.. ذلك ما تلقيه ذكرى فخر الكائنات في روح الإنسان من دروس وعبر خالدة على مر الزمن..

فأين هم العرب والمسلمون الذين تتجلى في سلوكهم وصفاتهم روح محمد وأخلاق محمد وغيرة محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) في هذه الأيام التي يعيش معظمهم فيها – مع السف والحزن - كقطع الشطرنج وإتباعا، كعبيد الأرض وهمجاً كهمج الجاهلية ؟ وهل كان هذا ليحصل لو أنهم اتخذوا من أحكام الله منهاجاً ومن سيرة المصطفى علاجاً ومن حياة السابقين الأولين الأخيار قدوة ؟

ولو كانوا كذلك لما ضعفوا ووهنوا وتخلفوا عن الأمم الأخرى في حضارتهم وقوتهم وعلومهم , ولما تجرأ احد على المساس بشخصية المصطفى عليه الصلاة والسلام والإساءة إليه والاعتداء على مشاعر اكبر كتلة بشرية على وجه الأرض تقارب المليار ونصف المليار من حيث العقيدة والهوية الدينية، كما انه اعتداء على مشاعر الأسرة الدولية أيضا لان أبناء هذه الأسرة يقرون ويشهدون على إخلاص الرسول صلى الله عليه وسلم ودوره في التاريخ والحاضر والمستقبل..

وإننا في العراق مهما اثخنتنا الجراح ومهما قام به الاحتلال وأتباعه ودول الجوار التي لا تريد خيرا لهذا البلد وشعبه، من محاولات لزرع الفتنة الطائفية بين مختلف الأطياف العراقية، لكن أبناء الشعب العراقي واعون جيدا لهذه المخططات ويعرفون حقائق التاريخ ومشاعر الإخوة والمحبة التي عاشوا بين أحضانها آلاف السنين حق المعرفة، ولن تنطلي عليهم كل محاولات الهدم والتشرذم والتفرقة تحت أي تسمية أو غطاء أو حجة، لأنهم يعيشون في بلد يحترم الأديان وحقوق الإنسان ومعتقداته وشعائره..

إن أبناء العراق (ومعهم أبناء امتنا العربية والإسلامية) يقفون صفاً واحداً بوجه كل من يحاول تشويه سمعة الأنبياء والرسل لأنهم مؤمنون بان هؤلاء الرسل والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وكتبهم المقدسة هي كتب سماوية منزلة ومصدرها واحد هو الله سبحانه وتعالى وتدعو إلى نفس الأهداف والقيم والمبادئ.. قال عز وجل في محكم كتابه الكريم: (امن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير) وهم يعاهدونك يا رســول الله على النصر أو الشهادة، انتصارا للحق على الباطل وانتصارا لدينك ولأنبيائك ورسلك وقيمهم ومبادئهم السماوية الواحدة..

صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم بعثت ويوم انتقلت إلى الرفيق الأعلى ويوم تبعث حياً رحمة وشفيعا لامتك، المسيء منهم والمحسن، فهل يتعض المتعظون ويعتبر المعتبرون، وأول من أوجه أليهم حديثي هذا هم الحكام والملوك والرؤساء والزعماء والمسئولين من العرب والمسلمين في كل بقاع الأرض وأصقاعها لأنهم هم أول المسئولين عما يحصل من فتنة وضعف للعرب والمسلمين وهم أول من سيحاسبهم الله عن هذا كله يوم القيامة الذي بات قريبا من كل واحد منا!!!..

ولما كانت ذكرى المولد ذكرى انطلاق الإنسانية من اسر الأوهام وطغيان الحكام وسلطان الجاهلية، فما أجدر بالقلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشاربها أن تستخلص الدروس والعبر العظيمة من الذكرى العطرة وان تخشع أجلالا لها ولصاحبها عليه أفضل الصلوات والسلام، نبي الحرية والقيم والمباديء الإنسانية وداعية السلام والمحبة والوئام..
وأخيرا نقول كما قال الشاعر:

ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
ولست مبدٍ للعدا تخشــــــــعاً
ولا جـــــــزعا إني إلى الله مرجعي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى