الأحد ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم مروة كريديه

ديانة العصر

هل نحن على أبواب عصر اختفاء الأديان ؟؟

لعلّي من أكثر الناس انتقادًا للأيديولوجيات و "المقدَّسات" بمعناها المؤدلج، الذي يتحكم بمصائر البلاد والعباد، ويُحوِّل البشر الى كائنات متصارعة متناحرة متنافرة، من خلال أديان وطوائف ومذاهب وملل ونحل، عَمِلَتْ على تفتيت العالم الى جُزر سياسية وأمنية، لا متناهية تقاتل بعضها بعضًا، تحت شعارات تنفي الآخر وتحتقره، وأحيانا تكفّره وتُهدر دمه، الأمر الذي تتخذه "الدول الكبرى" ذريعة للسيطرة على مقدّرات الشعوب من خلال إرسال "حمامات سلامها " لتَسقُط على رؤوس الشعوب الفقيرة تلك، فتمطرهم صواريخ بحجة مكافحة الإرهاب ونشر السلام والأمان .....
وبسبب تلك الظروف أمست بعض الدول أشبه ما تكون بمزارع تشبه الاقطاع وتحكمها شريعة الغاب، فَيرث الابن أباه في الاقطاع السياسي هذا ويستولي على الكرسي، فيقمع الداخل بالحديد والنار، وينصاع لسياسات الخارج كالنعاج، حتى يحافظ على كرسيّه التي لا يغادرها الا بقدرة قادر.....

أمام هذا الوضع المزري يبحث المفكر لنفسه عن مخرج فكري للأزمات ويتساءل :هل يعدُّ الخروج على الايديولوجيات حلاًّ ناجحًا؟؟ وما هي البدائل ؟؟ والسؤال الملح هو: هل يمكن لنا التخلُّص نهائيًّا من الأيديولوجيات؟؟ وهل يمكن لنا حلّ الطوائف وتوحيد المذاهب ؟؟ وهل يمكن لكائن الإنساني أن نحيا بلا مقدسات؟؟
هناك طروحات فكرية "حداثية"جديدة هل لها ان تكون بديلاً ؟وهل يمكن للفكر "الليبراليّ الماديّ" أن يوحّد البشرية ويقضي على الأيديولوجيات؟؟

الليبرالية الجديدة :

هناك تيارات فكرية حاليّة تروِّج لخطاب ماديّ، اخترق الغرب اولا ثم هبّت رياحه الى الشرق، وفي مجموعه يقوم على ادعاء اختفاء الإيديولوجيات. مفكرون ذوو شأن يعلنون أنّ في الديموقراطية المتقدمة يكون المواطن غير قابل لفعل القولبة أوالتنميط، وان العقائدالماضية التي سادت انتهت، فقد انتهت الإيديولوجية البورجوازية، كما انتهت المشاحنات والمجادلات بين الماركسية والمبشرين بالنزعة الاقتصادية الليبرالية، وأُقفل باب النقاش فإن الرأسمالية تُصدِّر الليبرالية إلى كل مكان في العالم، وان "الليبرالية الماديّة" تتطابق مع الطبيعة العميقة للإنسان؟!
وقام بعض المفكرون بتقديم "المادية الليبرالية" كباب وحيد ونهائي للخلاص من التأثير البشع لـ"الأفكار المستوردة" ، مع ما يرافق ذلك من مصطلحات "التقدم"، و"التكنولوجيا"، و "الاتصال"،و "السرعة" و"الحداثة".

غير أنَّ هذا الطرح " الليبرالي " المناهض للأيديولوجيات بحدّ ذاته يؤدي تشييد إيديولوجيا جديدة، فتصبح هذه الايديولوجية طرفًا وطائفةً ودينًا قائمًا الى جانب بقية الطوائف والأديان والأفكار والمقدسات الأخرى الموجودة على الساحة العالمية ، و يصبح شعار "الليبرالية " بحد ذاته ذاك "المقدس " الذي لا يمكن مسَّه ، فيتحول الى العصا الذي نقمع به الآخرين.....
إنَّ الليبرالية المطروحة علينا اليوم تُضفي على ذاتها أكثر من أي وقت مضى رداء إثبات بسيط لنظام الأشياء، وحيد وغير قابل للدحض. هكذا يُصرِّح آلان مينك من أجل الإنهاء الحاسم لأي نقد فيشيرإلى أنّ: "ليس الفكر، وإنما هو الواقع الذي يتصف بصفة الواحدية".إذن لم يعد أيضا هناك أي مجال للتفكير: فالواقعي الآنيّ يكفي. والواقعة والقيمة لم يعودا يشكلان إلا شيئا واحدا.
ويقدّم لنا أرمان ماتلار مثالاً عن هذه الظاهرة التي تعممت: "الكليانية واقعة، يقول ماتلار، وهي أيضا غيديولوجيا: فاللفظ يخفي تعقد النظام العالمي الجديد بدلاً من أن يكشف عنه"

فالشعارات الليبرالية المطروحة اليوم تُوقع الشعوب في فخ الكليانّية وتقبّل الامر بكليّاته فيصبح الشعار شموليًّا ، بما يستتبع ذلك من استراتيجيات هيمنة من خلال توحيد انماط الاستهلاك بين الشعوب .
إنّ ما يُوَاجِهُ شعوب العالم اليوم وتعاني منه هو سياسة "اختزال الكائن الإنساني "، فعندما يُختزل الكائن الإنساني بكلِّ أَبعادِهِ الفكريَّةِ والروحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة، بما فيها الأبعاد الميتافيزيقية والغيبية ويتحول الى كائن مادي اقتصادي مستهلك فقط ، فإنَّه يتحول هذا الكائن الى رقمٍ مسطَّحٍ ذو بعدٍ واحدٍ على قائمة الاقتصاد العالمي ورقمًا في بورصَةِ الأسهم يتحكم بها المسيطر على المال.

و الشعوب العربية و شعوب المنطقة تُواجه صراعات" اختزال الانسان" من أنواع شتى ؛ فحركات الاسلام السياسي تختزل الإنسان ب"المسلم الحركي "فقط ، والفكر الشيعي المتشدد يختزل الانسان ب "المسلم الشيعي" فقط ، واليهودي المتطرف يمنح نفسه حق "الفوقية " على سائر البشر وانه مميز وهو "شعب مختار" فيختزل الانسانية ب"اليهود " فهم البشر وما سواهم في مرتبة دون ذلك ، والليبراليون الجدد يختزلون الانسان ب"الكائن المادي الاقتصادي".... إذن ما نشهده اليوم هو سياسات متصارعة للاهوت المقدس على الارض يُغرق كوكب الارض في دوامّة عنف لا تنتهي .
ومن ثُمّ تُقدَّم "الليبرالية " الى تلك الشعوب المتناحرة "المختزلَة " أصلاً لتزيد اختزالَ الانسان اختزالاً...

الخطاب الشمولي في الفكر "الليبرالي المادِّيّ "
عند تفكيك مفردات الفكر الليبرالي المادّي يمكن لنا أن نميّز أربع محاور تُشكل مركبّات أيديولوجيا العصر :
أولا : التكنولوجيا والتقنية :

لا شك في أنّ التقنية واقع، وتكمن خطورته في أَنَّه حَاز قوَّة القانون فالإيديولوجية التقنويَّة تُمركِز فِكر النَّاس حول الـكيفية فيبقى فكر الانسان متجهًا نحو:كيف؟؟ وذلك من أجل إخفاء السؤال الحقيقي المرعب: لمَاذا؟؟؟
فتكون "الأسباب التقنية" هي المستدعاة غالبا لحجب المشاكل الاجتماعية أو الاختيارات السياسية القابلة لأن تكون موضوع أخذ ورد، فمنطق الأنظمة الشمولية ومن بينها النظام الاقتصادي يُحظِّر أن تُوضَع انحرافاته موضع نقاش. وعندما يتمُّ تجريم الاختلال الوظيفي، فذلك من أجلِ الدَّعوة إلى مزيد من التقنية من شأنه أن يسمح بالتحكم فيه.

ثانيا: أطروحة التقدُّم :

إنَّ واقعَ التقدَُم المطروح اليوم، هو تَقدُّم أحاديّ البُعد يؤدي الى خلل بالغ ،لأنّه لا يأخذُ بعين الاعتبار حاجات الكائن الإنساني الأُخرى، فهو لا يقيس إلا التقدم المادي الكمِّي البحت مع ما يرتبط به في المؤشر الاقتصادي، الأمر الذي أَوقع الشُّعوب النامية في الهوس، لأنَّ عمليَّة تقهقرالإنتاج الاقتصادي مسألة غيرقابلة للتصوُّر في عالمنا الحالي، لذلك يتمّ تكريس مفهوم التخلُّف لتبقى الشعوب في أتونٍ محمومٍ مع نزعة التطوُّر، فعبادة السرعة تولِّد بدون حدود نفاذ صبر نزعة الملاحقة.

ثالثًا: وسائل الاتصال والاعلام:

وهي تُشكِّل أحد أهمّ المركبَّات الايديولوجيَّة لهذا العصر، بل أضحت عقيدةً لها سُلطة تفوق العقائد وكلمة سحرية تفتح بها مغارة علي بابا ، لأنها أداة سَبرِ السوق المالي و وسيلة ترويج تسويق السِّلع ، وهي محور مهمّ في حياة "الكائن الاقتصادي " لأنَّ النجاح والفلاح وانتاجيّة الكائن مرتبط ارتباطًا مباشرًا بها، وأنَّ على الكائن أن يرتبط بالعالم طيلة ليله ونهاره، وأن يكون منخرطًا في كلِّ مكان وزمان، ويكون الوصول إليه سهلاً ومتاحًا للجميع في أي وقت، وإلا اعتُبر متخلفًّا لا يَستحِق الحياةالعصريّة.
ووسائل الإعلام تختار بوساطة شبكة إيديولوجية مشيدة سَلفًا لتخدم "الكائن الاقتصادي المُختزل "و الوقائع التي تَشكَّل منها العصر، وذلك كي تطلب من المواطنين في ما بعد الانخراط فيه، وتُشعرهم بأنهم مساهمون فيه، بدون أن يَسعوا هم أنفسهم إلى اختياره. وعليه فالإنسان الذي يريد أن يكون ابن عصره يجب عليه أن يتبنَّى "قيم" أولئك الذين يحددون العصر وقِيَمِه، لذلك نجد تماثلا حادًّا بين ثالوث الاعلان والاتصال والسوق ،وأضحى الفيديو كليب طقسًا دينيًّا يتقرَّب به الكائن الى إلهه ،ويمارس من خلاله فرض الحداثة من خلال شعيرة التقنية ...

رابعًا : أكذوبة المعاصرة:

أصبح مفهوم العصرنة إلهًا فوق رؤوس العباد، وغدت الحداثة شعار ديانة العصر.الحقيقة أنَّ العصر هو شيء واقع، ولكنه أيضًا أسطورة وأكذوبة ، ف"ملائمة العصر" معزوفة "ألوهية" يومية تستدعى إخضاع الفرد لتعاليم "الحداثة". فيصبح الكائن الانساني المستهلك لكل شيئ يسأل نفسه ليل نهار: كيف لي ان أغدو عصريًّا؟؟ وكم أنا متطوِّرٍ يا ترى ؟؟
غير أنَّ السؤال الجوهري يكمن في تحديد معنى "العصر" ! لأن عصرًا معينًّا او حقبةً معينةً ترتبط بالصورة التي تُفَبْرَكُ شخصيَّاتها في معظم الأحيان، فالعصر هو بناء تَصوّري سينوغرافي يتمُّ من خلاله تسليط الضوء على حدثٍ او شخصٍ اورمزٍ ربما يكون تافهًا، ويتمُّ تهويله ونفخه ليصبح محورًا لا تُشكِّل فيه المجموعة البشرية الباقية سوى الكومبارس.
إن أشكال التهليل لضروب المواءمة والملائمة مع روح العصر تجعلنا نسأل أنفسنا ماهي "وقائع عصرٍ ما ؟ ومن يُحدِّدُها من بين مليارات الوقائع والأحداث التي تحصل في كل ثانية؟ أهم الساسة ؟أم النخب ؟ أم من؟؟؟ فوسائل الإعلان والاعلام التي تحدد لنا الوقائع تلك تُطرح علينا كظاهرة اجتماعية في حين أنها غدت أفيون الشعوب .

مجتمع الاستهلاك

لعل الشعوب العربية من أكثر شعوب الارض استهلاكا، والتركيز المستمر على " المجتمع المستهلك " يجعلنا نعيد النظر في مفهوم الاستهلاك المتمثل في الإيديولوجيا المتمثلة في النزعة الرأسمالية التي تنتج على المستوى الدولي البطالة للدول "النامية" والاستغلال الفاحش للمسيطر كل ذلك يحدث يوميًّا على مرآى ومسمع الأنظمة وتُفرض علينا باسم ولي الأمر الصالح وهو سوق الاقتصاد العالمي.

خاتمة

إنّ نقد الليبرالية هذا لا يريد ان ينحى بحال من الأحوال الى نقض الحريّات غير أنَّ نقدي هذا منصبٌّ على الليبرالية "الماديّة " الجشعة التي تركز على بُعد واحد من الإنسان هو البُعد الماديّ وتختزل الإنسان بالكائن "الاقتصادي " التي تستعبد الفرد ، فقد استفحل الخلط الإيديولوجي بكل ألوانه بفعل أشكال اللاتماسك الملحوظة في ما بين الخطابات المفروضة علينا وتجربة الأشياء التي غالبا ما تكذبها وتدحضها.

وربما ستكون هناك انعكاسات خطيرة على المستويات الاجتماعية والسياسية للشعوب لاسيما شعوب الشرق الاوسط التي ستسعى بوعي أو بغير وعي الى تبنّي أيديولوجيات مناهضة مضادة للليبرالية والرأسمالية ،تسعى إلى كسر الواقعية-المزعومة لخطابات الليبرالية الشمولية، وربما تكون الايديولوجيات المتبناة أكثر شمولية وانغلاقًا الامر الذي ينذر بصراعات لا متناهية .

وتبقى النظرة الكونية المتكاملة للكائن الانساني هي المحررة له من سلطة الايديولوجيّات المعلبة لأنها تأخذ بعين الاعتبار الابعاد الاخرى في حياة الفرد لا سيما الميتافيزيقية والروحية فهي طَرحٌ يُحول المفاهيم عن الماديّة المفرطة الى الحدس والابداع الروحي ، من اختزال الانسان الى تكامله ، من الاستغلال الى التكافل،من الصراع الى المشاركة، من الهيمنة إلى الانفتاح، من التعصّب الى المحبة وانفتاح القلب والوعي ، من مستوى الواقع الماديّ الى مستويات الوجود اللامتناهية .........وللحديث صلة

هوامش

  السيناريوهات الجديدة للاتصال العالمي "لوموند ديبلوماتيك"، غشت 1995.

 فرانسوا بيرون: "سعادة ملائمة"، كاليمار 1985، و"تفكر وسائل الإعلام كما أفكر أنا"، مقتطفات من خطاب مجهول، هارماتان، باريس 1996

 ميشال كايا، رياضة وحضارة، هاراتان، باريس 1996.

هل نحن على أبواب عصر اختفاء الأديان ؟؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى