الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم حسن الشيخ

رجل من هجر

( أ )

جاء من ذلك الزمن البعيد، كآخر العمالقة الذين يولدون. إلا انه وقف شامخا في حاضر زمان هجر، بجانب جبلها الوحيد......فإذا هما شامخان يتحديان الزمن والحزن.

وهجر القديمة. ببيوتاتها الصغيرة المتلاصقة، وبأزقتها المتعرجة....هي هجر اليوم بأهلها الطيبون. وكأن الزمن الطويل لم يعمل عمله بعد في داخلهم.

منذ سنواته الأولى تطلع إلى الأعلى، حدق في ذلك الفضاء المخيف وتسائل (إنها نجوم لا تحصى، في مجرات بعيدة، لا أحد يستطيع التنبؤ بأعدادها... وتقديرها بالقياس غير يسير.. إلا إنها أمرا فيه تدبر وتفكير)... و ظل الهجري يسأل اكثر مما يجيب. ويتفكر في نظام الكون اكثر مما يتعجب. وكأن هذا العقل يرفض الاستسلام أو التسليم بالمستحيل.

وحتى اليوم... لا تجالس أبو علي الهجري إلا وتجده عقلا معلقا في الفضاء، وقلبا مغروسا في ارض هجر.

(ب)

في ذلك اليوم البعيد. بدا سعيدا و مرتبكا. داخلته فرحة الأطفال بالأثواب الجديدة و خوفهم من المجهول الآتي. استيقظ مبكرا، أيقظ والدته..قبل صياح الديكة. ألبسته أمه ثوبه الجديد، ووضعت على رأسه طاقية بيضاء، و انتظر والده بذلك الشوق المتكسر في داخله.

أمسك والده بيده الصغيرة، سارا صامتين أول الأمر في أزقة حي الرفعة الضيقة. ثم بعد ذلك بقليل بدأ في طرح أسئلته العديدة على والده. وصلا إلى مجلس الحاج طاهر. تطلع الهجري بشوق إلى الأولاد الصغار من بعيد، سمعهم يرددون آيات القرآن الكريم...فخفق قلبه بشدة. أما حينما دخلا للمجلس وسلم والده على الحاج طاهر، الذي استقبلهما بجفاء فقد أحس الصغير بالخطر اكبر الآن. و ازدادت ضربات قلبه:

- هذا ولدي يا حاج طاهر..جاء لقراءة القرآن

تبسم الحاج طاهر. فبانت أسنانه البيضاء المتلاصقة. وأ شار بيديه مرحبا بهما:

 حياكم الله...تفضلا.

اصبح الهجري و سط المجلس تقريبا. فختلس نظرة خاطفة بحياء. شاهد الأولاد الصغار يقرؤون بفرح، القرآن الكريم في حجرهم، و الرؤوس الصغيرة تهتز مع القراءة من آن لآخر. دقق النظر في الحاج طاهر، ارتاح لمظهره، لحيته البيضاء الطويلة، أبطأت من دقات قلبه المتلاحقة.

انفتل برفق من يد والده التي ظل ممسكا بها منذ خروجهما من المنزل. و جلس بين الصغار...وبدأ يردد الآيات التي يسمعها.

ومنذ التحدي الأول لخوفه عند الذهاب للمطوع لتعلم القرآن الكريم، بقي حتى اليوم يتحدى الخوف. يقتحم المجهول على خيول سبق لا تعترف بالهزيمة.

و التحدي الأول الذي واجهه صغيرا في ذلك اليوم..هو نفسه الذي قاده شابا إلى مدرسة التاجر في البحرين لتعلم الحساب و العلوم.

يتذكر ذلك بوضوح الآن. يوما من أيام البحرين الرطبة. في محل والده قرب باب البحرين. حيث انظم صديقهم البحريني محمد الماجد إلى حديث بينه وبين والده وأخيه.تحدثوا عن تجارتهم المتواضعة في ذلك اليوم، و عن رطوبة البحرين، و تحدثوا عن الحرب ومتى تنتهي

قال والده و هو يحرك قلما بين يديه:

 و الله الحرب أكلت الأخضر و اليابس...ولا ادري من سينتصر هتلر وجماعته وإلا بريطانيا و جماعتها.

قال أخوه محمود وهو يصلح طاقات القماش في مكانها:

 المهم أن تنتهي الحرب..حتى نستطيع أن نعمل في تجارتنا بحرية اكبر.

ردد والدهما و هو يمسح على لحيته و ينظر خارج المحل:

 نعم...نعم..

أضاف محمد الماجد ضاحكا و كأنه يرغب في تغيير مجرى الحديث:

 تنتهي الحرب و ندرس ونتعلم أيضا..

حينها قفز الهجري من مكانه قائلا:

 و هل يمكن ذلك؟ و كيف؟

رد محمد الماجد و هو يشير برأسه إلى الجهة الأخرى:

 نعم...ألم تسمع بافتتاح مدرسة التاجر الليلية و التي تدرس الحساب و الإنجليزي.

في تلك الليلة لم ينم الهجري. تقلقه أحلامه. ظل طوال الليل متقلبا في فراشه. سأل نفسه أسئلة عديدة. كما هي عادته....إلا انه لم يجيب عليها. هل يمكن لي التسجيل في تلك المدرسة؟ هل أتمكن من دفع تكاليفها؟ و ماذا إذا لم يسعفني و قتي على الدرس و العمل معا؟ ثم ماذا عن أسرتي الصغيرة...هل سيبقى لها وقتا بعد ذلك؟.

في مساء اليوم التالي، وقف أمام بوابة مدرسة التاجر...اندهش من ذلك الحشد الصغير أمامها. حاول الدخول فلم يستطع. عاود المجيء للمدرسة في مساء اليوم التالي، ولم يتمكن من الدخول أيضا. ثارت في داخله حسرة كبيرة...ارتفعت عاليا، ثم تكسرت في حناياه. في مساء اليوم الثالث، لم يسلم بالهزيمة، بل تمكن من الدخول و مقابلة مديرها.

يتذكر كل ذلك اليوم دون زهو أو خيلاء. ينقل لك كل التفاصيل الدقيقة. تنقله من مدرسة لأخرى.يحكي قصته مع التعليم العالي، حصوله على دبلوم الصحافة من كلية الصحافة المصرية. كتاباته في بعض الصحف في تلك الأيام الصعبة. ثم يصمت يتطلع إليك. فلا تملك إلا أن تسلم له بذاكرته القوية، و بسحر حديثه.

ولكن و بعد كل مغامرت تلك السنين الطويلة، تشعر بأنه مازال يخاف على نخلاته السبع، و يخاف من جموح خيوله الثلاثة المتبقية، بعدما سقط رابعهم قبل بضع سنوات قليلة. و لا غرابة في ذلك، لانه ككل رجال هجر الطيبين الذين يرددون ( أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و أعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. )

(ج)

يجلس أبو علي الهجري مسندا ظهره النحيل على أحد المساند. في وسط رواق المجلس. ثيابه بيضاء و بسيطة. و غترته مستقرة على رأسه بخشوع. اخوته و أصدقاءه يحيطون به. يرفع رأسه، يتطلع للسماء الزرقاء، وصدره يحلم بالأمطار و الانعتاق. ثم التفت للحاضرين قائلا بحزن:

 تعلمون يا جماعة إن السيد محمد قد توفي رحمة الله....

أجاب أحد أعمامه:

نعم توفي قاضينا رحمة الله.

عاود أبو علي الهجري و هو يضع بيالة الشاي على البساط:

 لذلك نحن بحاجة إلى تزكية رجل منا لكي يكون قاضيا لنا.

التفت إليه أخوه الحاج محمود و كأنه عرف مغزى حديثه :

 و في هذه الحالة من تقترح..؟

هز ابو علي الهجري رأسه بهدوء وقد بدا عازما على امر ما:

نرشح الشيخ باقر و نزكيه...لهذا المنصب.

تحرك الشيخ باقر في مجلسه لاكثر من مرة و كأنه فوجئ بالأمر. و أجاب بحذر:

 أنا لا ارغب في تولي القضاء...ابحثوا عن غيري.

أجاب الهجري و بلهجة حازمة:

 بل لابد من ذلك يا شيخ أنت أهل لها.

رد الشيخ معتذرا بعد أن رفع يده للأعلى:

 ولكن الناس لا يوافقون على رأيك يا أبا علي. وقد لا يريدونني.

ردد بعض الحاضرين في المجلس:

نعم..لابد من ذلك يا شيخ، دون غيرك لا نرغب.

ثم أضاف الهجري بعد أن عدل من وضع غترته على رأسه:

 نحن لم نطلبك للناس بل طلبناك لنا نحن أبناء الهجري.

قال الشيخ باقر و كأنه استسلم لرأي الحاضرين في المجلس:

 جرب يا أبا علي و سوف ترى صحة قولي.

لكن أبو علي لم ينتظر ليوم غد. بل قام من مكانه و دخل المجلس، و بعد قليل رجع بورقة و قلم. و شرع يكتب برقية للحاكم يزكي فيها الشيخ باقر لتولي القضاء. في اليوم التالي كانت البرقية قد أرسلت.

لم تمر سوى أيام قليلة. حتى كانت المفاجأة. و جاءت برقية جوابية من مكتب الحاكم توافق على تنصيب الشيخ لتولي القضاء.

مجلسه الليلي الذي ينفض قبل منتصف الليل بوقت طويل، أدار منه الهجري شئون هجر الاجتماعية. من هذا المجلس بحي الرفعة انطلقت البدايات الأولى لتنصيب مشائخ القضاء، و تعيين عمداء أحياء هجر، و فض المنازعات...طوال نصف قرن من الزمن تقريبا

(د)

أبو علي الهجري .... هكذا كان محبيه و أصدقاءه و أقرباءه يسمونه. هكذا كانوا يدعونه، دون ألقاب أو أوصاف تسبق اسمه. لأنهم يدركون مغزى اسمه الكبير. هكذا عاشوا في مجتمع لا يحفل بالألقاب الكبيرة التي تسبق الأسماء، لكنهم يدركون دلالاتها. يدركون انه رجل من هجر داهمه الجوع و الفقر و المرض بل و الثرة والجاه أيضا، لكنه بقي كما كان دوما بسيطا في خارطة هجر و تاريخها.

لا أحد يدري على وجه التحديد كيف اجتمعت صفات الزهد و الصلابة و العزيمة والصبر ...عند رجل واحد. فلا انهم موقنين أنها تجسدت في شخصه.

قبل قليل جلس وسط أبناءه و أحفاده، حدثهم بلطف. ثم شرد بذهنه إلى أيام الماضي البعيد ( عملت كثيرا. لم اهدأ يوما واحدا منذ صغري. فلماذا يتكاسل بعض أولادنا اليوم !!!

عملت في بيع و شراء الأقمشة في محل القيصرية. سافرت مع أخي محمود للبحرين لخياطة البشوت و بيعها هناك. أين أخي محمود اليوم لكي يخفف عني حزني وألمي. كنا نفهم بعضنا بعضا حتى دون أن نتكلم. رحمك الله يا أخ. بعد رجوعي من البحرين انتقلت للبيع و الشراء في الأغذية في دكاني بشارع الخباز. ثم انتقلت محلاتي للشارع العام. و محلات أخرى في الخبر و الدمام. تعاملت مع كبرى الشركات الأجنبية. ولو عاد لي شبابي مرة ثانية، فلن أنفقه الا كما أنفقته في العمل و العلم. )

هكذا كان أبو علي الهجري يحدث نفسه. يتوقف. يداعب حفيده الصغير المتعلق به. تلوح له فجأة نخلاته السبع و أحصنته الثلاثة...فتقفز من عينيه دمعه عابرة، لا مبرر لها. سرعان ما يمسحها بيده و يبتسم.

يعاوده هذه الأيام الشرود دونما سبب. في طريقه إلى محلاته التجارية، تتحرك الأشياء سريعة من خلال نافذة السيارة، لكنه لا يراها. يغرق في تذكر أيام طفولته و لهوها البريء مع أخيه (كم كان لي من العمر حين أسست مع أخي محمود جمعية لتعليم الخطابة؟ ثمان سنوات أو عشر؟ لا أتذكر على وجه الدقة. و لكني أتذكر إننا كنا خمسة. أسسنا تلك الجمعية. و حضر دروسنا العديد من الأولاد الصغار في ذلك اليوم. كان ذلك في بيت جدي، في غرفة صغيرة داخل البستان. نظفناها و فرشناها بالحصر و البسط القطنية. وصنعنا من كرسي السراج بعد إصلاحه منبرا للخطابة. كان آخي محمود يخطب فينا...و لكننا كنا نساهم جميعا في إعدادها و مصروفاتها. أتذكر ذلك جيدا في ظهريات أيام الصيف الحارة. ولكن لهو الصغار في هذه الأيام يختلف عن لهونا. يخيل إلى أننا ولدنا كبارا.)

الهجري الصغير الذي أسس جمعية الخطابة هو نفسه الشاب الذي أسس فيما بعد المدرسة الليلية لمكافحة الأمية. و استقبل فيها طلابه معلما و موجها . إلا أن طلابه اكتفوا بالقليل. فلم تمض سوى بضعة اشهر، ولما عرف كل واحد منهم أن يكتب اسمه، حتى فروا من مدرسته و تركوه وحيدا.

انه رجل من هجر. تلك انتصاراته و انكسارا ته.....يعرفها الجميع.يتحدث بها إلى جلساءه أحيانا. دون ضعة أو زهو.


مشاركة منتدى

  • السلام عليكم ايها الكاتب العزيز والمبدع والرائع ----- صار زمان وانا لم اطلع على كتاباتك واليوم عرفت انك موجود ورائع في كتاباتك
    اتمنى لك التالق دائما

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى