الاثنين ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

رحيل رجل طيب

كل المودة القلبية لك أيها الرجل الطيب.

صورتك لم تزل عالقة في الوجدان.

وملامحك الرجولية المفعمة بالطيبة تعيد رسم نفسها في عقولنا وخيالنا كل صباح ومساء.

شارباك الكبيران الكثان وبياضهما الهادئ كهلال كان يشع به وجهك الأبيض كقلبك، المتوهج بنور الخير كرغيف ساخن يحمل الدفء إلى أمعاء الجائع ويهب الحياة والحرارة.

لكم قاس علينا فراقك أيها الرجل الطيب.

ولكم سيفتقدك حينا الصغير، الهادئ والحزين من بعدك.

أتخيل الأصيل الأول بعد رحيلك إلى دنيا الخلود.

كآئبة شاملة تطبق على الشارع كبلاطة القبر التي أطبقت على صدرك الحنون.

شباب حينا الأشقياء قصرت هممهم في ذلك الأصيل الحزين.

ولم ينزل أحد منهم الى الشارع.

لم يجتمعوا فيه.

غابوا عنه.

فسكنت به ضوضائهم.

إنهم حزينون جدا على فقدك أيها الرجل الطيب.

أجل! لعلك تستعجب.. لكن حزينون عليك هم.

لقد تركت في وجدانهم الفتي بصمة عميقة..

وذكراك لن تبارح عقولهم المتوقدة ما عاشوا.

كان حلمك أوسع من مضائق طيشهم وأرحم من نيران نزقهم.

كان تصرفهم معك طيشا وتعاطيهم مع صبرك استغلالا وابتزازا.

لكن على العموم سوف يفتقدونك كثيرا.

سوف لن يسمعوا بعد الان تلك الكلمة التي كنت تجود بها عليهم كل حين بعطف أبوي عارم..

"يا أولادي"

كنت دائما تقول "شباب الحي كلهم أولادي"

فنعم الأب كنت أيها الرجل الطيب وخير الجار كنت تضرب بجيرتك الأمثال.

أبناء حيك لن ينسوك أيها الرجل الطيب مهما طالت بهم الأعمار.

كنت هبة الرحمة التي وهبها الله لحينا المسكين.

من دونك لحلت بالحي وأهله أم المآسي. أرواح كانت ستفيض إلى بارئها وأجساد ستحرقها النيران دون رحمة حتى السواد.

لكن القدر كان رحيما كما الله.

كنت مارا في الجوار مرور عابر السبيل.

تحمل في يدك حقيبة ترحالك. طاويا مسافات عمرك في إيمان الحكماء.

لكن وجوههم الميتة لم تقدر على خداع بصيرتك الصافية.

كانوا ثلاثة شبان..

دخلوا مطعما شعبيا صغيرا..

كنت أنت فيه.. تأخذ زاد نهارك..

قضت رحمة الله ورأفته بنا أن تنفذ بصيرتك الثاقبة الى عقول الشبان الثلاثة..

كان المطعم مزدحما كما الشوارع..

الناس يسعون هائمين في أيام سوداء كالسخام. شرها مستطير وخيرها مستتر خلف أستار القتل والدمار.

إنها حرب الشوارع والزواريب..

حرب لبنان..

انتهى الشبان من تناول طعامهم وخرجوا..

خرجت وراءهم أيها الرجل الطيب..

وجدك الناس تصرخ بصوت جهوري مرتفع سمعه الشارع كله..

"السيارة.. أمسكوا بهم.. السيارة ملغومة..! السيارة!"
إلتم الناس على الشبان الثلاثة. أخرجت السيارة من الحي كله..

وأنقذ الشارع من فاجعة محققة.. بفضل الله وفضلك أنت أيها الرجل

الطيب..

بعد ثلاثين عاما..

عشتها بيننا..

وعشناها معك كأقرب ما يكون الأهل والجيران..

ليس باليسير علينا أن ترحل وتتركنا..

دون سابق إنذار..

أو اعتذار!.

الشارع الذي اعتاد عليك منذ ثلاثين عاما سوف يشعر دائما بأن شيئا ما ينقصه..

كرسيك المصنوع من القش..

لا يزال..

في مكانه شاغرا..

و لن يشغله أحد من بعدك..

وبضعة شجيرات غرستها بيديك القويتين..

منذ ثلاثين عاما..

أشجار وارفة هي الان تظلل تراب الشارع وساكنيه وتحمل في عروقها عبقا من عرقك ونفحة من نفسك العطر.

خلال الفترة الطويلة التي قضيتها بيننا وفي حينا ساعدت أناسا كثر. ومددت يد العون للكثيرين..

لكنك لم تجد أحدا يرد لك الجميل..

وأنت في شقتك الصغيرة ذلك الفجر الشتوي الماطر..

الظلام والبرد يسكنون معك في البيت ولا زوجة ولا أولاد.

تكابد ألام عامك السبعين التي كنت تخفيها عن أنظارنا خلف بياض شيبك الناصع.. وصفاء ملامحك المفعمة طمأنينة..

وفي ذلك الفجر هجمت عليك نوبة السعال هجمة شرسة فحالت بينك وبين أنفاسك..

راقد أنت في فراشك.. داهمك السعال.. مددت يدك مستنجدا بكوب الماء..

لكنه كان فارغا..

اشتد بك السعال أكثر..

بدأت تشعر ببعد المسافة بينك وبين أنفاسك التي تخلت عنك..

في الخارج كان المطر ينهمر بغزارة شديدة.. وثمة رعد وبرق..

أنه شتاء قاس..

اغتسل الحي بأمطار ذلك الفجر البارد..

شربت الأشجار في الشارع حتى ارتوت وارتفعت رائحة التراب والأرض.. رائحة الشتاء الأزلية..

استمر المطر في الهطول بغزارة حتى مساء اليوم التالي فغسلت مياهه قبرك بسخاء.. وارتوت تربتك من نفس المياه التي ارتوت منها أشجارك الوارفة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى