الأربعاء ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد أبو سليم

رُقي، وتمائم

(1)

فَرَّ الحِصانُ وَهاجَرَت مُدُني: أَبي

ما عادَ خَلفَ جِدارِنا
مَنْ يَذكُرُ الوَجهَ الَّذي خَلَّفتَهُ في الصَّيفِ يَوماً ها هُنا
تِسعينَ عاماً أَو يَزيدْ
ما عُدتُ أَذكُرُ مِنْ تَفاصيلِ البِدايَةِ غَيرَ وَجهٍ عائمٍ
بَعضَ السُّطورِ
وَأَحرُفاً عَرَبيَّةً رَدَّدتُها مُنذُ الطُّفولَةِ
حينَ كُنتُ أُلاحِقُ الرِّيحَ الَّتي كانَت تَفِرُّ كَأَنَّها
أُنثى الفَراشِ
وَليلَةً
نامَ الرُّواةُ فَأَيقَظتني
حِصَّتي مِمّا تَرَكتَ عَلى الهَوامِشِ لي
"يَقولُ الزّيرُ "
هَل كانَت عَلى سَفَرٍ مَعي
أَم أَنَّني خُنتُ الحِكايَةَ كُلَّها ؟
يا أَيُّها الوَلَدُ المُسَجّى بَينَنا
في الصُّبحِ يَنحَسِرُ الظَّلامُ
وَتَحرِقُ الشَّمسُ العَنيدَةُ خُبزَنا
ما بَينَنا بابٌ ، وَأَنتَ ، وَصَمتُ هذا اللَّيلِ ، وَالشُّباكْ
زَيتونَةٌ كانَ اسمُها حَسناءَ تَحمِلُني عَلى أَغصانِها
وَتَطوفُ بي أَرجاءَ بيتِكَ يا أَبي
وَالآنَ حينَ أُغادِرُ البَيتَ الَّذي
قَرَأوا عَلى أَبوابِهِ مِمّا تَيَسَّرَ مِن كَلامِكَ مَرَّةً
أَبكي عَلى حالي
لا شَهوَةٌ لِلمَوتِ بي
لا شَهوَةٌ بي لِلحَياةِ وَإنَّما
هيَ شَهوَةٌ كَي أَستَريحَ عَلى جِدارٍ
أُسنِدُ الرأَسَ الَّذي قَد مالَ خَلفي خِلسَةً
وَكَأَنَّهُ طَلعُ السَّنابِلِ آخرَ الصَّيفِ الحَزينْ
البابُ يُفتَحُ ، تُفتَحُ الآفاقُ
لا نَهرٌ وَلا مُدُنٌ تُعَلِّمُني بَياضَ الياسَمينْ
هيَ سَطوَةُ اللَّيلِ الَّذي ما زالَ يَكبُرُني بِعامٍ
كُلَّما أَخطو إلى الآتي يُسابِقُني، فَيَسبِقُني
بابٌ تَفَتَّحَ مِثلَ بابٍ في الجَحيمْ
الأَرضُ ماءٌ راكِدٌ
لا شارِعٌ يُفضي إلى ما سَوفَ يَأتي
لا طَريقٌ واضِحٌ
وَالعُمرُ يَهرُبُ حافِياً مِنّي عَلى دَربِ الحِجارَةِ وَالحَصى
ما عُدتُ أَحمِلُ في كَلامي أَحرُفَ التَّسويفْ:
(سينُ البَقاءِ)
(وَسوفَ) تأخُذُني إلى ما سوفَ يَأتي
ما عادَ إلا (كانَ) في لُغَتي
تُؤرِّقُني ، وَتَفضَحُني
وَتَصنَعُ مِن بَقايا العُمرِ خيطاناً، وَأَوراقاً
لِكَي يَلهو بِها وَلَدٌ بُعيدَ العَصرِ فَوقَ الشُرفَةِ الزَّرقاءْ
أَتَعودُ يَوماً مِن دَهاليزِ الطُّفولَةِ كَي تُعَلِّمَني حُقوقي في الرِّثاءْ؟
- مَن ماتَ ماتْ
هيَ هِجرَةٌ أُخرى
- في الصَّيفِ عَلَّمَني بَحيرَةُ كَيفَ يَأسُرُني الجَمالُ
وَكيفَ تَحمِلُني الرِّمالْ
لا غَيمَةٌ إلاّ عَلى وَجهِ النَّبيِّ وَصَحبهِ
قالَ الحَزينُ وَكانَ يَمضي جائعاً نَحوَ السَّماءِ
وَلَم يَكُن في بَيتِهِ إلاّ رَغيفٌ مِن شَعيرٍ يابِسٌ
في لَيلَةِ الإسراءِ قالَ مُداعِباً:
هذا طَعامٌ لِلبُراقِ فَرِحلَتي يا أُخوَتي لا تَنتَهي
رَحَلَ الغَريبُ مَعَ الرَّحيلِ وَصارَ غَيماً ماطِراً
وَبَقيتُ وَحدي مِثلَ ساقٍ يابِسٍ
لا ماءَ يَرويني
تَمُرُّ قَوافِلُ الأَطفالِ بي
وَكَأَنَّني حَجَرٌ يَنامُ عَلى الطَّريقْ
مَن يَذكُرِ الأحلامَ يَذكُرْني عَلى ظَهري صَليبٌ مِن رَصاصٍ ذائِبٍ
حَلَّقتُ عُمراً وَانكَسَرتْ
وَبَنيتُ مِن عَظمي بُيوتَ الفاتِحينْ
مَن يَذكُرِ المَوتى سَيَذكُرْني عَلى بَوّابَتي وَحدي
أُهَدهِدُ قَلبيَ المَكسورَ
أَجلِسُ بانتِظارِ المَوتِ
أَسأَلُ عاميَ التِسعينَ
كَم يَوماً مَضى مِن عُمريَ المَسكونِ بِالأَوجاعِ وَالآلامِ
يَسأَلُني: تَعُدُّ العُمرَ بِالسَّنَواتِ والأَيامِ؟
مَرَّ العُمرُ مِثلَ سَحابَةٍ في الصَّيفِ
فَاذكُرني هُنا في بابِكَ المَوصودِ في وَجهي
أُنَقّي ما تَبَقّى مِن حَصىً في عُمريَ المَسكونِ بِالأَحياءِ وَالمَوتى
وُجوهٌ تَعبُرُ الطُّرُقاتِ لكنّي أَراها كُلَّها طَيفاً يَمُرُّ كَأَنَّهُ بُقَعٌ مِنَ الألوانْ
 
-2-
 
َقد جِئتُ مِن بَلَدٍ بَعيدٍ حافِياً
وَالماءُُ خَلفي مالِحٌ
فَلتُسقِني مِن ماءِ بَيتِكَ جُرعَةً
- مِن أَينَ أَنتْ؟
-مِن أَوَّلِ الجِهَةِ الَّتي أَسنَدتُها بِالرَّملِ يَوماً فَاستَحالَت مِثلَ رَملِ البَحرِ رَملاً
حينَ هاجَ الماءْ
-أَتُحِبُّها؟
- حُبَّ الوَليدِ لأِمِّهِ
ما عادَ في قَلبي مَكانٌ لِلمَزيدْ
كَالماءِ في كَأسٍ مَليءٍ حُبُّها
-كَيفَ استَحالَ الحُبُّ رَملاً حارِقاً؟
سَيّارَةٌ مَرَّت عَلى بابي لِتَسأَلَ جُرعَةً مِن ماءِ زَمزَمَ وَاستَراحَت ساعَةً
وَتَساءَلَت :
أَيُّ النِّساءِ أَشَدُّ كَيداً يا بُنَي؟
قُلتُ الرِّجالُ أَشَدُّ كَيداً حينَ تَقتُلُهُم رِياحُ الغيرَةِ السَّوداءْ
ضَحِكَتْ وَقالَت أَعطِني بَعضَ القِماشِ هَديَّةً
هذا الَّذي أَنجَبتُهُ تَرَكَ النِّساءَ جَميعَهُنَّ وَماتَ في حُبِّ الَّتي
قَد أَخلَصَت دَهراً لِزَوجٍ زاهِدٍ
أَعطَيتُها
لكِنَّني بَعدَ العِشاءِ وَجَدتُ ما أَعطيتُها في بَيتِ عِشقي
فَظَنَنتُ بَيتي صارَ عُشّاً لِلبِغاءِ
قَتَلتُها مِن دونِ ذَنبٍ واضِحٍ
-خَدَعَتكَ عابِرَةُ السَّبيلْ!!
-وَقَتَلتُها
مَرَّت عَلى بابي وَقالَت فاتَني وَقتُ الصَّلاةِ
فَهَل أُصَلّي يا ابنَتي في صَحنِ دارِكِ رَكعَتينِ
تَوَضَّأَت
صَلَّت وَنامَت ساعَةً
تَرَكَت عَلى سِجّادَتي تِلكَ الهَديَّةَ خِلسّةً
وَتَسَلَّلَت مِن شِقِّ بابي كَالهَواءْ
لَم أَستَمِع لِنِداءِ قَلبي حينَها
وَقَتَلتُ حُبّي
-مَن يا عُطيلُ يَقولُ إنَّكَ مُتَّ فينا كاذِبٌ!!
-أَسَألتَني؟
-حادَثتُ نَفسي لَحظَةً وَسَأَلتُها
لكِنَّني أَسقَطتُ عَن نَفسي الجَواب
 
-3-
 
قَد جِئتُ مِن بَلَدٍ بَعيدٍ حافِياً
لأِعودَ في هذا المَكانِ مَريضَةً
-في اللَّيلِ يَسكُنُنا الظَّلامُ
وَتَهبِطُ الذِّكرى وَيُبكينا الكَّلامْ
-مِن مِصرَ أَنتْ؟
-مِن مِصرَ والشَّامِ؟
-وَالبابُ لَكْ؟
-هُم خَلفَهُ
لكِنَّني ما زِلتُ أَحرُسهُ مِنَ الأَيّامْ
-وَمَريضَتي؟
-عادَت إلى عُشِّ الحَمامْ
نامَت عَلى كَتِفِ الغَريبِ وَأَثمَرَت طِفلاً يُبَشِّرُ بِالسَّلامْ
-هَل كُنتَ تَعرِفُها طَويلاً؟
-في اللَّيلَةِ الظَلماءِ كانَت تَرتَوي مِن غَيمَةٍ زَرقاءَ أَعصِرُها بِكَفّي
ثُمَّ نامَت في فِراشي سَبعَةً
لكِنَّها حينَ استَوى قَمَرُ الشَّمالِ تَناثَرَت ، وَتَكاثَرَت
صارَت شَظايا في الدُّخانْ
 
-4-
كُلُّ الفُصولِ تَبَدَّلَت
كُلُّ النِّساءِ تَرَكنَ أُمّي حينَ فاجَأها المَخاضْ
أُنثى هي المَولودَةُ الصُّغرى
مَوءودَةٌ ما زالَ فيها بَعضُ نَبضٍ كَي تُزيلَ بِكَفِّها
حينَ استَقَرَّت في غَياهِبِ قَبرِها
ما ظَلَّ فَوقَ بَياضِ لِحيَتِكَ الطَّويلَةِ مِن غُبارٍ
حينَ كُنتَ تُهيلُ – يا اللهُ ، في القَبرِ الَّذي فَرَشَتهُ ريشاً مِن جَناحِ حَمامَةٍ-
كَومَ التُّرابْ
هَل تَكبُرُ الأَحلامُ يا أَبتاهُ في قَبرِ الصَّغيرِ وَتَرتَقي مِثلَ الطُّيورِ إلى السَّحابْ؟!
هَل تَتعَبُ الأَحلامُ مِن رَأسِ الصَّغيرْ؟!
هَل تَشتَكي؟!
هَل تَدخُلُ الأَحلامُ في عُشِّ الغُرابْ؟!
 
-5-
 
كُلُّ الفُصولِ تَبَدَّلَت
اللَّيلُ يَأتي في الخَريفِ كَأَنَّهُ ثوبٌ لِروحٍ تَسرِقُ الأَحلامَ مِنّا
وَالرَّبيعُ كَأَنّهُ نارٌ
كُلُّ الفُصولِ تَبَدَّلَت
وَالبَيتُ بَيتُ الفاتِحين
-غُرَباءُ نَحنُ وَأَنتَ تَسكُنُنا كَأَنَّكَ ما تَرَكنا في المَرايا مِن حُطامٍ يائِسٍ
مِن مِصرَ جِئتُ لَعَلَّني أَبني عَلى أَرضِ الحُروفِ قَصائِدي
هَرَماً يُدفِّئُ جُثَّتي
فَوَجَدتُ نَفسي أَحرُسُ الأَحلامَ في بَيتٍ مِنَ الفولاذِ يَسكُنُهُ
جُنونُ الخَوفِ مِن كُتُبي وَأَشعاري
-وَأَنا المُكابِرُ جِئتُ مِن أَرضِ الحِجازِ لَعَلَّني
أَبني عَلى ماءٍ لِطِفلي قِبلَةً
فَأَضَعتُ طِفلي، قِبلَتي
- وَأَنا الشُّموعُ تَكاثَرَت حَولي الرِّياحُ فَأَرَّقتني سَبعَةً
قَد جِئتُ مِن كُلِّ البِلادِ لأِحتَمي
بِجِدارِ حَرفٍ في دُعاءِ الصّابِرينَ
فَأَوقَفوني في مَهَبِّ الرّيحِ عُمراً كَي أُصَلّي لِلرِّياحْ
-وَأَنا المِدادُ أُفَتِّشُ الكُتُبَ الَّتي تَرَكَت أَياديكم
فَيَقتُلُني البَياضْ
-ماذا تَبَقّى مِنكَ يا وَطَنٌ يَعُضُّ عَلى النَّواجِذِ وَالهواءْ؟؟
- غُرَباءُ مِن كُلِّ البِلادِ استَوطَنوني
وَأَنا أَبي
كُنتُ ابتَعَدتُ عَنِ النِّساءِ وَلَم يَعُد في جُعبَتي
إلاّ الرِّثاءُ وَدَمعُ أُمّي وَالصَّلاةْ
ما عُدتُ أَذكُرُ غَيرَ قارِئةٍ تَمُدُّ الكَفَّ بِالفِنجانِ
تُغريني بِسحرِ اللَّيلِ ، وَالأَنفاسِ
تَغويني، وَتَسحُرُني
أَهُمُّ بِها
أَرى البُرهانَ لكنّي
أَهُمُّ بِها
أَهًُمُّ بها
أَفِرُّ وَفي دَمي نارٌ
قَميصي قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَهَل لي يَومَ يُحرِقُنا شُواظُ الشَّمسِ أَشجارٌ تُظَلِّلُني؟
وَهَل لي يا أَبي بَيتٌ إذا ما شُرِّدَ العُشّاقُ مِن فِردَوسِهِم يَوماً
سَيأويني؟
أُعُدُّ العُمرَ بِالهِجراتِ
وَالأَمواتِ مِن قَبلي وَمِن بَعدي
هُنا كانوا
هُنا كانَت تَبيعُ الحَظَّ في الفِنجانِ لِلعُشّاقِ وَالمَوتى
تَموجُ كَأنَّها وَتَرٌ
وَتَطحَنُ قَلبيَ المَهجورَ مُنذُ الهِجرَةِ الأولى
أُفَتِّشُ عَن صَدى الأجراسِ وَالخِلخالِ
أَبحَثُ عَن بَقايا الرُّوحِ في الأَوصالِ
لا نَبضٌ سِوى دَمِها عَلى الجُدرانِ
فَوقَ الأَرضِ، وَالأَدراجِ
في الفِنجانِ
لا نَبضٌ سِوى في خِرقَةٍ كانَت قَميصاً قُدَّ مِن دُبُرٍ
وَراءَ البابِ
تَذكُرُني
وَتَبكي عَودَتي جَهراً أَمامَ الصُّورَةِ السَّوداءْ
 
-6-
 
بَعضُ الزُّهورِ عَلى القُبورِ سَتؤنِسُ المَوتى
بَعضُ النَّخيلِ عَلى القُبورِ سَيؤنِسُ المَوتى
فُتاتُ الخُبزِ
صَوتُ حَمامَةٍ لَبِسَت ثِيابَ صَلاتِها البَيضاءَ
يُعجِبُني:
هَديلُ حَمامَةٍ صَلَّت عَلى كَتِفي
صَدى صَوتي عَلى الجُدرانِ
بيتٌ كُلُّهُ رَملٌ كَرَملِ البَحرِ
يُغريني بِشَمسٍ أَشرَقَت لَيلاً عَلى الطُرُقاتِ
كَي تَمشي مَعي كَفّاً بِكَفٍّ فَوقَ رَملِ البَحرِ
يُغريني سُكونُ الرُّوحِ يا امرأَةً تَبيعُ العُمرَ كَالتُفّاحِ لِلشُعَراءِ
يُغريني ضَجيجُ الَّليلَةِ الأولى
فَتاةٌ أَزهَرَت كَالَّلوزِ في نيسانَ أَقطِفُها عَلى أَضواءِ قِنديلي
نَشيدٌ كُلُّهُ لِلبَحرِ وَالشُرُفاتِ وَالآتي
نَشيدٌ كُلُّهُ لِلصَّيفِ وَالطُرُقاتِ وَالأَحياءِ وَالمَوتى
مَناديلٌ تُذَكِّرُني بِهَمسِ شِفاهِ مَن ضَلَّت عَلى صَدري
سِنيناً بِانتِظارِ سَفينَةٍ ظَلَّت تُفَتِّشُ عَن فُتاتِ الحُلمِ
في بَحرٍ بِلا شُطآنَ وَانتَصَرَتْ
 
-7-
مِن مِصرَ جِئتُ لأِحرُسَ الأَحلامَ مِن حُرّاسِها
فَوَجَدتُ نَفسي ضائعاً في لُجَّةِ الأَحلامْ
-فَتَعالَ شارِكني إذَن هذا الرَّغيفَ فَلَم يَعُد
إلاّهُ في هذا الجِرابْ
تِسعينَ عاماً لَم أَزَل أَمشي وَفي جَيبي رَغيفي
أُطعِمُ الأَغرابَ
أَنثُرُ ما تَبَقّى مِن فُتاتِ الخُبزِ حَولي لِلعَصافيرِ الَّتي
تَتَوارَثُ الدَّربَ الطَّويلَ وَحِصَّةً
مِن خُبزيَ المَبلولِ بِالدَّمعِ الحَزينْ
يا صاحِبي
فَلتَفتَحِ الأَبوابَ عَلَّ الشَّمسَ تَطرُدُ
ما أُخبِّئُ في عِظامي مِن ظَلامٍ آسِنٍ
فَلتَفتَحِ الأَبوابْ
البابُ يُفتَحُ، كُلُّهُم أَغرابْ
وَجهٌ يُفَتِّشُ في ضُلوعي عَن عَجوزٍ تائهٍ
في باحَةِ الدّارِ الَّتي ازدانَت بِزَهرِ اللَّوزِ
وَالكُتُبِ القَديمَةِ وَالحَكايا
-أَغمَضتُ عَيني ساعَةً
وَصَحوتُ مِن نَومي أُفَتِّشُ عَن عَجوزٍ ضائِعٍ
ما زالَ في بَيتي فِراشُكَ دافئِاً
وَرَغيفُ خُبزِكَ
وَالعَصافيرُ الَّتي أَطعَمتَها في اللَّيلِ
تَبحَثُ في فِراشِكَ عَن بَقايا الخُبزِ والأَحلامْ
-البابُ يُفتَحُ تُفتَحُ الآفاقُ والقِصَصُ الَّتي ظَلَّت سِنيناً
بِانتِظارِ العائِدينْ
شَمشونُ كانْ
والزّيرُ كانَ
وَغَصَّةُ العَهدِ القَديمْ
وَأَنا
سَأَمضي
مِثلَ
طَيفٍ
عابِرٍ
وَتَقولُ كانْ
 
-حُمّى المَطر-
 
يَنامُ الحَمامُ عَلى بُرجِ نارٍ تُذيبُ الحَجَرْ
هُنا
في بِدايَةِ هذا الطَّريقِ العَتيقِ نِهايَةُ هذا السَّفَرْ
جِدارٌ مِنَ اللََّحمِ
مَوجُ الحَمامِ
وَبابٌ صَغيرٌ يَقودُ لآِخِرِ هذا النَّهارِ
يَموتُ الحَمامُ وَحيداً
غَريباً
هُنا فوقَ كَفّي
كَذَبتُ أَنا يا حَمامُ كَثيراً
فَروحي غُبارٌ
وَقَلبي كَقَبرٍ دَفَنتُ شَرائعَ بابِلَ فيهِ
وَكُلَّ الصُوَرْ
تَرَكتُ على ماءِ دِجلَةَ سَيفي
ثِيابي
وَسِرتُ مَعَ الماءِ أبكي هُروبي
حَنيني
وَحيداً إلى حَيثُ أُمّي
عَلى بابِ بَغدادَ قَد عَلَّقَتها أَيادي التَّتارِ
لِتأكُلَ كُلُّ الجَوارِحِ مِن رَأسها
وَتَصنَعَ مِنها جَواري المُلوكِ نَبيذاً لِهذا المَساءِ الطَّويلْ
كَذَبتُ أَنا يا حَمامُ كَثيراً
تَرَكتُ وَرائي قَريباً مِنَ النَّهرِ
بَعضَ الزُّهورِ الَّتي أَحرَقَتها دُموعُ السَّبايا
وَكلباً يُمَزِّقُ لَحمَ الضَّحايا
وَجَوعى يُناجونَ حاتِمَ لَيلاً
فَيُطعِمُهُمْ ما تَبَقّى مِنَ اللَّحمِ فَوقَ عِظامهِ سِرَّاً
وَيَخبو كَنارٍ تُصارِعُ حُمّى المَطَرْ
تَرَكتُ عَلى الماءِ وَجهي
سَحاباً يَمُرُّ بَطيئاً وَيَمضي
بَعيداً وَراءَ الحُدودِ
تُمَزِّقُهُ الرِّيحُ
تَذروهُ مِثلَ الرِّمالِ
تُوَزِّعُهُ الرّيحُ بَينَ القَبائلِ شَرقاً، وَغَرباً
وَتَعصُرُهُ الرِّيحُ في القَحطِ ماءً
فَلا يُمطِرُ الوَجهُ إلا صَديداً
وَمُهلاً
تَرَكتُ وَرائي جَوازَ السَّفَرْ
وَبِعتُ تَعاويذَ أُمّي لِبعضِ الجُنودِ
بِكَسرَةِ خُبزٍ
وَقَطرَةِ ماءٍ
وَخَلفي ذِئابٌ تُغازِلُ لَيلى
وَرَملٌ
وَصوتٌ يَسيلُ حَزيناً
يُخَلخِلُ في اللَّيلِ صَمتَ الصَّحارى
وَريحٌ تُداعِبُ أَوراقَ هذا الخَريفِ الثَّقيلِ
تُداعِبُ شَعري
وَتُطفِئُني مِثلَ عودِ الثِّقابْ
كَذَبتُ أَنا يا حَمامُ ، كَذَبتْ
فَكُلُّ المَسافَةِ بَيني وَبينَ حُطامِ البَنَفسَجِ كانَت ذِراعاً
وَمَرفَأَ حُزنٍ بَعيدٍ،هُنا،في نِهايَةِ هذا السَّفَرْ
وَباباً صَغيراً يَقودُ لآخِرِ هذا النَّهارِ
وَقَلباً دَفَنتُ شَرائعَ بابِلَ فيهِ
وَكُلَّ الصُّوَرْ
وَصوتَ الصَّغيرِ إذا ما استَفاقَ مِنَ المَوتِ يَوماً
عَلى وَجهِ طَيفٍ يَمُرُّ سَحابَةَ حُزنٍ
وَيَبكي تُراباً
وَصوتُ الصَّغيرِ يُنادي
وَيَسأَلُ في صَمتِ هذا المَساءِ :
لِماذا يَمُرُّ السَّحابُ وَيَمضي
وَتَبقى السَّنابِلُ مِن دونِ ماءٍ ؟؟؟
وَكيفَ تَكونُ الدُّموعُ سُيولاً تُذيبُ الحَديدَ
وَتَفلِقُ حَبَّ النَّوى وَالحَجَرْ؟
لِماذا سَقيتَ الفُراتَ وَدِجلَةَ لِلغُرَباءِ
وَبِعتَ مُلاءَةَ أُمّي لِزوجٍ كَئيبٍ
لِيَفرِشَها فَوقَ عِظمِهِ في بَردِ هذا الشِّتاءِ؟
لِماذا تَركتَ حِصانَكَ يَكبو؟
تَوَضّأتَ مِن دونِ ماءٍ
وَجِئتَ تُصَلّي هُنا في العَراءِ كَأَنَّكَ طَيفٌ
تَحَدَّرَ مِن شُرُفاتِ السَّماءِ؟
لِماذا ؟
لِماذا؟
لِماذا أَبي ؟
لِماذا أَبي ؟
* * *
هُنا
في بِدايَةِ هذا الطَّريقِ العَتيقِ
نِهايَةُ هذا السَّفَرْ
جِدارٌ مِنَ اللَّحمِ –لَحمي-
وَموجُ الحَمامِ
وَفُسحَةُ وَقتٍ
لأَعبُرَ هذا النَّهارَ القَصيرَ وَأَمضي إليكْ
وَداعاً أَنايَ الَّتي أَرَّقتني سِنيناً
وَداعاً أَنايَ الَّتي نازَعَتني عَلى مُلكَِ نَفسي
سِنيناً
سِنيناً
وَداعاً أَنايَ
وَداعاً
وَداعاً
وَداعاً
أَ
خ
ي
رْ
 
-خطأ-
 
أَخطأتُ بابي
في عُمرِيَ الحَزينِ مَرَّتينْ
في اللَّيلِ بَعدَ غُربَتي عِشرينَ عاماً
مَرَّةً
وَمَرَّةً
في الأَربَعينَ حينَ كُنتُ عائداً
مِن حانَةٍ
عِندَ المَساءْ
أَخطأتُ بابي مَرَّتينْ
لكِنَّني أَخطأتُ عُمري كُلَّ عُمري
فَرَغتُ مِن أَعوامِ حُزني
مِن حِصاري في الشِّعابِ
كَي أَموتَ ها هُنا
عَلى فِراشي
كَالبَعيرِ
كُلَّ يومٍ
مَرَّتينْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى