الثلاثاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم فتحي الجميل

سؤال الجنس: رواية أم سيناريو؟

قراءة في بنات غازي لعلي دبّ

أجناس الحكي:

قد يكون التساؤل عن التصنيف الجنسي في الأعمال النقدية أمرا مثيرا للاستغراب والرفض في كثير من الرؤى النقدية الحديثة. فقد ادعى كثير من رؤوس الحداثة الأدبية والنقدية أن مقولة الجنس الأدبي قد أصبحت مقولة عتيقة تخطاها الزمن وتجاوزتها منجزات الحداثة. إذ أن الحداثة الأدبية الإبداعية قد هدمت أسوارا متينة كانت قائمة بين الشعر والنثر وبين سائر الأصناف السردية حتى أصبح "تنثير" الشعر أهم ملمح حداثي تقريبا، وذلك بالتخلي عن الشكل البصري العمودي القديم بما يحيل عليه من مفاهيم جمالية قائمة على النظام والانتظام والإيقاع، والميل إلى الشكل البصري الفوضوي والتخلي عن الإيقاع والبحر ببناء قصيدة نثرية أو ما يسمى عند بعضهم "غير العمودي والحر". وهو تيار أشد اندفاعا من تيار الحداثة الشعرية الكلاسيكي الذي يعد السياب ونازك الملائكة من أهم رواده الأوائل.

وإذا كانت المقولات الحداثية في الشعر قد كادت تستوي في نزعاتها الكلاسيكية والحداثية، فإن المقولات المتصلة بالنثر قد ظلت دون هذا النضج والاستواء. فقد ظهرت مقولات نقدية وإبداعية في الأعمال السردية تنحو إلى ما نحت إليه المقولات الشعرية كالتخلي عن الحدود الصارمة بين الأجناس فظهرت أقاصيص شعرية بل روايات ذات نفس شعري. لكن هذه المقولات لم تكتسب وضوحا فكريا وتطبيقيا بعد. وما زالت في طور التجريب والبحث.

ورغم ما يسود ميدان الكتابة السردية من تنوع وتناقض وضبابية في المقولات التصنيفية العامة، فإن بعض الأسئلة المبدئية ما زالت قابلة للطرح دون خشية من البحث عن الأجوبة المستحيلة. وقد وجدنا أنفسنا نطرح هذه الأسئلة ونحن نقرأ كتابا جديدا للأديب الشاعر الناقد علي دب، هو "بنات غازي".

وقد قصدنا وسمه بالكتاب وسما عاما يشترك فيه مع سائل هذا الضرب من المنتجات الفكرية المجسدة في أشكال ورقية أو رقمية. وسيكون علينا أن نناقش جنس هذا الكتاب، وإن كان صاحبه قد صنفه فعدّه "رواية". ولا ريب أن هذا التصنيف لا يعفينا من طرح سؤال الجنس. ويعود ذلك إلى أسباب مختلفة منها اختلاف القراء في تصنيف الأعمال الأدبية وتجنيسها لاختلاف مذاهبهم النقدية والجمالية. وهو سبب موضوعي لا يخلو من نزعة ذاتية، ومنها اتصاف الأثر الأدبي بصفات تعسّر تصنيفه. ومن ذلك اختلاف النقاد في تصنيف "السد" لمحمود المسعدي. ففيه من خصائص النص المسرحي ومن مقومات النص الحكائي الروائي ما يفرز اختلافا في التجنيس.

والحقيقة أن "بنات غازي" لا يشبه "السد" في امتزاج مقومات الأجناس الأدبية المختلفة فيه، فهو لا يتوفر على مقومات النص المسرحي مثلا، لكنه يحتوي على مقومات نوعين من أنواع الكتابة الحكائية الأدبية لهما وشائج قربى أدى إليها الزواج الشرعي الحديث بين فن الكتابة وفن التجسيد (وخصوصا التجسيد التلفزي أو السينمائي).

ويمكن لنا الآن أن نعيد طرح السؤال الذي جعلناه عنوانا لهذا المقال النقدي، ونصرح بتوفر المقوم الروائي المكتوب والمقوم الحكائي المعدّ للتجسيد، وهو ما يسمى بالسيناريو.

إن ما دعانا إلى طرح السؤال هو توفر هذين المقومين معا في هذا الكتاب. فهو عندنا ليس رواية خالصة ولا سيناريو خالصا، بل هو مزج بينهما يثير كثيرا من الأسئلة. هل هو خروج عن فن الرواية، أم خروج عن فن السيناريو، أم هو في نهاية المطاف تجديد وإضافة وآية طرافة؟

الرواية/ السيناريو:

لا نطمح إلى الفصل الدقيق بين مقومات الرواية ومقومات السيناريو، فهما يشتركان في كثير من المقومات القصصية المعروفة كالرؤية والحدث والشخصية والإطار. لكننا نستعين بحدود عامة تعارفنا عليها قراءً للروايات العربية والعالمية ومشاهدين لأعمال تلفزية وسينمائية انطلقت من سيناريو مفترض حوله المخرج إلى عمل مرئي مجسد بالتمثيل والتشخيص.

وعلينا قبل التطرق إلى بعض الفوارق بين الرواية والسيناريو إلى التذكير بأن الكاتب علي دبّ قد عُرف كاتبَ سيناريو لبعض الأعمال التلفزية والإذاعية. ولذلك لا يستغرب القارئ طرحنا لهذه القضية ولا يستغرب وقوعه في اللبس وهو يقرأ الكتاب، لأننا نتوقع أن يقع الرجل في خلط مقصود أو غير مقصود بين هذين الفنين. وليس هذا الأمر حكرا عليه، فقد كتب نجيب محفوظ وغيره من كبار الروائيين للسينما.

قد يكون المجال الذي ينتمي إليه فن الرواية و فن السيناريو هو أكبر باب يظهر الاختلاف بينهما. فالرواية من فنون الأدب ظهرت في سياق ثقافة كتابية قرائية تأثرت لا ريب ثقافة شفوية سماعية. أما السيناريو فهو فن حديث يتصل بثقافة بصرية صورية حديثة بدأت باختراع السينما في أواخر القرن التاسع عشر. ولئن كانت الرواية والسيناريو جزءا من الفنون القائمة على الكتابة، فإن مآل كل فن وشيوعه بين الناس يبدو مختلفا. فالرواية فن للقراءة يستقر في كتاب والسيناريو فن للمشاهدة يسير عبر الصورة. ومع هذا الاختلاف وشائج ونسب. فالرواية والسيناريو في نهاية المطاف ضربان من الحكي، وكثيرا ما يتولد السيناريو من الرواية فتتحول الأحداث المكتوبة إلى أحداث مجسدة، ولكن قلما يتحول السيناريو إلى عمل أدبي روائي مكتوب.

تبدو الرواية أشرف نسبا وإن كان السيناريو أكثر تأثيرا وشيوعا وقد أصبحت الصورة أثيرت عند الناس لأن تقبلها أيسر. ولذلك قد نجد من يفضل مشاهدة مسلسل تلفزي أو فلم سينمائي على قراءة رواية، لأن القراءة تتعلم وتكتسب وتحتاج إلى صبر ومثابرة أما المشاهدة فهي فطرية طبيعية.
وفي هذا العصر، قد يكون تحويل الرواية إلى فلم أو مسلسل أضمن وسيلة لرواجها ولتحقيق الشهرة لصاحبها، ولعل ذلك هو ما صرف كثيرا من كتّاب الرواية إلى كتابة السيناريو صرفا مؤقتا أو كليا، لأنهم قد وجدوا فيها مكسبا أكبر وانتشارا أسهل. لكن ذلك لا يعني الضرورة أن مقومات كتابة الرواية هي مقومات كتابة السيناريو نفسها. فمن الروائيين من لا يحسن كتابة السيناريو، ومن كتاب السيناريو من لا يحسن كتابة الرواية. وهو ما لا يقتنع به بعض الروائيين وكتاب السيناريو أو لا يفكر فيه على الأقل.

المقومات الروائية:

تتجلى هذه المقومات في "بنات غازي" في جملة من الخصائص التي تؤكد أدبية النص. ففيه مقاطع وصفية لا تكتفي برصد المكان أو الشخصية لمجرد تشخيصها بالكتابة، بل تضفي على الموصوف بعدا جماليا تشكله اللغة الروائية وتكشف عالم الشخصية الباطني وما تعتمل فيه من أفكار ومشاعر وهواجس وأحلام. ومن ذلك هذا الرسم الموحي بأثر الزمن في الشخصية ودور الزمن في الإيحاء بعالم الشخصية النفسي "أربعة قصدوا البرج، وأيديهم عامرة بالقفاف والمتاع، لكن وحشة المساء غمرت قلوبهم، فهفا كل واحد إلى نفسه وانطوى على سره فلا صوت إلا من الخطى والأنفاس، وتراقصت ظلالهم في بهرة الغسق". (ص 120).

على أن هذه المقومات الأدبية تبدو من الناحية الإحصائية الكمية ضئيلة، فهي نتف قصيرة متفرقة. ولا نظفر بمقاطع روائية متينة إلا في القسم الممتد بين الفصل الحادي والثلاثين والثامن والثلاثين ص ص 148- 193). وهو القسم الذي تظهر فيه شخصية "كرانجي" الساحر في القرية ثم تختفي اختفاء غامضا. وقد ارتبطت هذه الشخصية بعالم روائي خيالي سحري غامض أتقن فيه علي دب توظيف الأساطير والخرافات، فأقيمت الأحداث على طقوس احتفالية طرقية رقصا وعزفا واتسم الإطار المكاني بطابع خرافي يثير الرهبة، وظف الكاتب في تشكيله قصصا شعبية وأساطير وطواطم مقدسة في لغة رمزية موحية شفافة تضفي جوا من الغموض المنتج. وهذا مقطع قصير قائم على تكثيف لجو نفسي قلق متوقع حفت به خيالات وصور غرائبية أسطورية تنذر بنهاية الساحر وحدا على ضفة النهر "لمعت أفكاره واخترقت عيناه الظلام، وفي السماء شعت الأفلاك، وحلق به الخيال.. ومشت في جواره زرافات من الأرواح اللطيفة والهينمات.. عيناه حادتان، وسمعه دقيق، بينما الذاكرة تعج بما قد يكون أو لا يكون.. فها هي أصابع البدر تقلب الأوراق، والزمن يغفو يستفيق.. سحالى [كذا] ودناصير، وأقوام عراة متوحشون يمارسون القتل والجنس.. فرسان يقطر الدم من لحاهم، وفي أيديهم ظفائر [كذا] النداء مقلعة..." (ص ص 189- 190).

إن هذه الفصول هي عندنا أكبر ممثل لما في الكتاب من مقومات روائية متينة، لكنها قسم ضئيل من كتاب غلب عليه طابع السيناريو.

مقومات السيناريو:

الحقيقة أن معرفتنا بكتبة السيناريو ليست معرفة أكاديمية بل هي معرفة اكتسبناها مما نشاهده من مسلسلات وأفلام. ونرى أن كتابة السيناريو تركز أساسا على تقسيم الحكاية التي ستجسد إلى مشاهد رئيسة حسب الأحداث الفرعية وتغير الأمكنة والأزمنة، وعلى ما يسهم في تحويل الحكاية المتخيلة أو الواقعة فعلا إلى حركات يجسدها الممثل. فما يهم في السيناريو هو المشهد المرئي والمسموع وليس كيفية نقل الحدث ورسم الشخصية أو الإطار بطريقة أدبية إيحائية لا تنسخ الواقع أو المتوقع بل تحوله إلى عالم أدبي مستقل تشكله اللغة.

لا ريب أن هذه الوظائف تتقاطع أحيانا مع خصائص الكتابة الروائية، لكن ما لا تحتمله الرواية هو مجرد نقل الحدث. وهو ميسم غلب على كثير من فصول "بنات غازي". إذ كثيرا ما ينشغل علي دب بنقل الأحداث كما تخيلها، فلا نقف على نص أدبي بل على نص يكتفي بالحكاية، فيلخص الأحداث تلخيصا يتمّ الأطوار ويحل الألغاز ويكشف الخفايا، فتصبح بمصطلح "علماء السرد" خبرا دون خطاب. ويمكن أن نورد هذه الفقرة مثالا على ذلك:"وهو يقلّب كتب نجيب ورسائله عثر على هامش في أحد الكتب المصادرة:"على الإنسان في هذه الحياة أن يعيش مغفلا أو شريرا.. "فتيقظت ذاكرته لتشابه الخطين. عند ذلك لم يتردد في زيارة السجن ومفاتحة نجيب.. أبدى المعلم تحفظه، اعتقادا منه أن الملازم يسعى إلى توريط صاحب الخط في التهمة التي من جرائها ما زال يقبع في السجن.. وعندما تعلق البحث بمصير هيام، اعترف بأن صديقها بسيام استعار منه ذلك الكتاب وأن التعليق بخطه وقد لاحظ ذلك من قبل. ولما اكتملت الشواهد على أن شيئا ما طرا في حياة ذلك الشاب، تمت مداهمة البيت.. وهناك وجدوا "هيام" محفوظة بعناية لكنها مكبلة مكممة..." (ص ص 229- 230).

إن هذه الفقرة المختارة عشوائيا تكشف ضعف الطابع الأدبي في كثير من المواطن وتؤكد أن الكاتب قد اعتنى بحبك الحكاية وصناعة اللغز أكثر مما اعتنى بإنشاء نص أدبي لذيذ ممتع. ولا نتردد في الزعم أن هذا العمل سيلقى من النجاح لو تحول إلى مسلسل تلفزي أكثر مما يلقى من النجاح نصا للقراءة. وقد تكون العامية في الحوار وما في الحكاية من نزعة بوليسية مما يدعم زعمنا بإمكانية تحويل "بنات غازي" إلى مسلسل تلفزي ممتع.

طرافة أم تشويه؟:

نختم هذا المقال بسؤال تقييمي بعد أن كدنا نجيب عن السؤال الرئيس ("بنات غازي" رواية أم سيناريو؟) بأن "بنات غازي" سيناريو أكثر منه رواية.
قد يفضي هذا الجواب إلى عدّ الكتاب تشويها لفن الرواية على الأقل. لكن انتصارنا لهذا الفن وحرصنا على توفر الأدبية فيه لا يعني أن الكتاب ليس طريفا في فن كتابة السيناريو، لأننا نظن أن النزعة الأدبية التي كتب بها يمكن أن تسهم في إنجاز عمل تلفزي (أو سينمائي) وتساعد المخرج وسائر من يسهم في اكتمال العمل في حسن إنجازه تلفزيا.

خاتمة:

ليس الغرض من هذا المقال ذم الكتاب أو ذم صاحبه، بل هو فرصة لإثارة قضية نقدية إبداعية تتعلق بالأجناس الأدبية وفنون الصورة وصلاتها وأوجه الشبه والاختلاف التي تكون بينها. ونظن أنه قد لا يحسم بالضرورة في أمر الجنس الذي ينتمي إليه "بنات غازي"، لأننا قد نبهنا من قبل إلى أن الاختلاف في المذاهب النقدية قد يؤدي إلى نتائج مختلفة في التقييم.

قراءة في بنات غازي لعلي دبّ

دب (علي): بنات غازي، نشر خاص، تونس، (د.ت.).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى