الثلاثاء ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم مروة كريديه

شجون البحث في مكتبة العوانس

ولِي مع المكتبةِ ودّ عاشقٍ.... غازلتُ فيه سكانّها
وأحن إليها اليوم... عِشْرَةَ صِبَا... وذاكرة متجذرة

اعتدت منذ أن كنت طالبة في الجامعة اللبنانية على إعداد الأبحاث الميدانية والفكرية القصيرة منها والمعمّقة، لا لاجتهاد اتحلّى به وقتها، بل لأن ذلك كان يُعد جزءًا لا يتجزأ من المقررات الدراسية المفروضة علينا، وكان للبحث النظري منه والميداني حصة الأسد في تقييم العلامات النهائية فيها، فهي كلية ترتكز مقررتها على التطبيق الميداني قبل كل شيء.

وكان للبحث وقتها شؤون وشجون وفنون، حيث كنا نعدّ كل شيء بالوسائل التقليدية اليدوية، في مكتبات بدائية تشبه الى حدٍّ بعيد مكتبات القرون الوسطى.

وغالبا ما نكتب ابحاثنا بأيدينا ونجلس الساعات الطوال في مكاتب الكليّات والجامعات المنتشرة في بيروت، للحصول على معلومة بسيطة اوالاطلاع على بعض المراجع والمصادر.

كانت العملية في بداياتها أشبه ما تكون بالمهمات المستحيلة ففي مطلع التسعينيات وإثر انتهاء الحرب الأهلية، كانت الجامعات اللبنانية تنفض الغبار عن نفسها، وكان حال مكتباتها أشبه ما يكون بالمستودعات، وكانت عملية البحث في أرشيف البطاقات التي تُعرف بالكتب الموجودة عملية متعبة شاقة تسبب للباحث الربووضعف النظر وترفع الضغط وتحرق السكر...

كنّت أغطسُ بداخلها غطس غطّاس محترف متسلحةً بنظارتي السميكة، وبقفاز يبعد عن يدي الغبار ومخلفات الزمن... وأستعين بالعلي القدير أن يوفقني بإيجاد ضالتي التي غالبًا ما كنت أجدها بمحض الصدفة والتوفيق الإلهي والعناية الربانية...

أما موظفات مكتبة كليتنا العتيدة فَكنّ ثلاث؛ واحدة مطلقة لا تفتأ تشكي وتنعي طليقها الغشيم غير المكترث بعلمها وفهمها وجمالها لذلك فهي خلعته لقلة خبرته بالمديح والثناء عليها وقلة حيلته في التعاطي مع حوّاء،فهورجل يقرأ الجريدة بحضور جنابها الكريم، وهوأمر غير مقبول في عرف الحسناوات الفارغات، ويُصَنّف من كبائر الذنوب ويوضع في خانة عظائم الأمور، التي تطلب إجراءات الوعيد والخلع والتأديب.

وكانت الثانية عانسًا لا ترى في الرجل أنيسًا أو ونيسًا، هذا هوحال لسانها في حديثها المعلن، فهي تشكر ربها نعمة العزوبية والحرية، أما في سِرّها المخبوء تحت طيّات لسانها فهي نادمة متحسّرة من صميم قلبها على رجل يؤنس وحدتها ويُشعرها بأنوثتها وترزق منه بطفل يحي فيها أمومتها المسلوبة ويعطي لعمرها الضائع القيمة المرجوة، فهي أمضت حياتها بالاشرف على صحة والدتها العجوز التي تراكمت أمراض الكون في جسدها المنهك النحيل

أما الثالثة فكانت متزوجة ولها طفلان، تعمل على إغاظة الأخريات بحديثها الدائم عن زوجها وإخلاصه وكرمه ومدى اهتمامه بها وعرفانه وتقديره لأناقتها ومفاتنها، لدرجة المبالغة في الامر مما يشعر السامع بأن في الأمر إنّ.... وأن هذا المديح ليس بريئًا...

إذن كنّا كباحثين وباحثات ندخل الى المكتبة، التي لا تتجاوز مساحتها مئتي متر مربع لنخدم انفسنا بأنفسنا، فيما الموظفات منهمكات في الصبحية والأحاديث النسائية "القيمة" واحتساء القهوة الساخنة، التي تُغلى في زاوية المكتبة فتشق رائحتها الشهية أنوفنا الباردة، ولا مانع من التدخين في المكتبة فهوحلال للموظفين محرم على الطلبة في ذاك الحرم الجامعي السامق..

في بداية الأمر انزعجنا من أصواتهن المرتفعة وأحاديثهن التافهة، فطلبنا منهن على استحياء بخفض أصواتهن، فقوبل الطلب بالامتعاض وعدم الاكتراث، وتكرر الطلب وتكرر معه التطنيش وعدم الاكتراث، ومع الوقت تطورت الشكوى لتصل الى أمين سرّ الكلية، الذي اكتشفنا فيما بعد أنه زوج السيدة المصون العاملة في المكتبة العتيدة، فأنهى الموضوع على الطريقة اللبنانية، ومع مرور الزمن ألفنا هذا الحال المعوج وأصبحت أحاديثهن يوميات مسلسل طويل وجزء من مقرراتنا الدراسية.

فنحن في نهاية الأمر طلاب في جامعة تابعة للدولة؛ أي أننا في مؤسسة حكومية في دولة طوائفية خارجة من حرب أهلية، ولا سلطة لمدير ادارة على موظفيه والفوضى العارمة ضاربة أطنابها..........

هذا حالي أثناء البحث عن المعلومات أما صياغة البحث فقد كانت تستغرق الوقت الأطول من السهر وتستنفذ من المنزل كافة أنواع القهوة ومشتقات الكافيين.
وبعد الانتهاء من كتابة المسودة أعيد تبيضها يدويًّا لأن الأوضاع المادية لا تسمح لي بإرسالها للطباعة التي كانت حكرًا على أولاد الأغنياء.

كانت عملية إعداد البحث مهما صغر حجمه وخف مضمومه عملية شاقة لا ترى النور إلا بعد جهدٍ جهيد وعناء طويل وقراءات واستشارات واعداد استمارات وبيانات واحصاءات و....والله المعين

تخرجت من الجامعة عن ما يقارب أربعين بحثًا، بين نظري وميداني لاستمر باعداد الدراسات العليا ومتطلباتها التي لا تقل عن سابقتها سوى بإضافة المزيد من الدقة والموضوعية ومزيد من الابداع والقراءات...

وأنا اليوم أنظر الى أبحاثي أعيد قرائتها بمراجعها وهوامشها وأعتصر في ذاكرتي العناء الطويل والجهود المضنية، وأطل بعيوني إلى المواقع الإلكترونية في عصر المعلومات والتكنولوجيا لأجد أن المعلومة واصلة جاهزة بأيسر الطرق وأسهلها.... فأتحسّر قليلا ثم أقول في نفسي :
في قلبي أغنية حب ورقصة ودّ، ولكل زمان أدوات ولكل حقبة رجال، الأهم أن ما في داخلي من حبّ الابداع والبحث قد طفا الى الخارج بصرف النظر عن الوسائل وعنائها، أليس هذا هومعنى "تحقيق الذات"؟؟ !!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى